ضبط البناء والأمن في الدولة لا يتوقف إلاّ على الحرية، وليس على الكبت، وليس هناك حاجة لتدخل الدولة في كل شيء، بل الحرية الإسلامية والإنسانية تقتضي ما ذكره الفقهاء من القاعدة الفقهية التي تقول: الناس مسلّطون على أموالهم وأنفسهم، أما الدولة فعليها شؤونها المقررة في الإسلام...
(إن الوظائف الحكومية تجمِّد اشتياق الناس إلى الإنتاج موظفاً)
الإمام الشيرازي
توجد قاعدة اقتصادية أكدها علماء الاقتصاد، تؤكد أن كثرة الموظفين في الدولة تدل على فشلها الاقتصادي، بمعنى كلما كان عدد الموظفين المشتغلين في الدولة ومرافقها أقلّ فهذا في صالحها، على أن تترك مسألة تشغيل العاطلين، أو المواطنين المحتاجين إلى العمل للشركات الأهلية، أو لما يسمى بالقطاع الخاص.
ليس من واجبات الدولة أن توظّف الجميع في مؤسساتها ودوائرها الرسمية، بل من الأفضل أن تقلل عدد موظفيها إلى أصغر عدد ممكن، وتشجع وتحث القطاع الخاص على التصدي لهذه المهمة، في حين تتفرغ الدولة للشؤون الإدارية التي تقع في دائرة اختصاصها فقط، ولا تتحول إلى (مالك شامل) يحتكر الأموال والثروات كلها، ثم يستعبد الشعب من خلال عملية التوظيف الجماعي.
هذا النوع من الاقتصادات الرسمية المهيمنة، يتواجد في الغالب عند الدول المتأخرة في معظم مناحي الحياة، وغالبا ما يكون اقتصادها ذا طابع ريعي، فنجد أنها تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، وتسعى للهيمنة على مقدرات الشعب، وتستعبد المواطنين من خلال الوظيفة التي تتحول إلى عبء على اقتصادها، بالإضافة لتدميرها لطاقات الإنسان، في حين أن دورها يجب أن يقتصر على تدبير شؤون الدولة الإدارية لا أكثر.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد هذه الحقائق الاقتصادية في كتابه الموسوم بـ (كل فرد حركة وفلسفة التأخر)، بقوله:
)لا تحتاج الدولة إلى المال، ولا إلى تشغيل الموظفين، والدولة لا تحتاج للمال إلاّ بقدر الضروريات المتعلقة في الإدارة، لأن الدولة مشرفة فقط، وهذا هو دورها فقط، حالها حال مدير المدرسة، كما ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا فقه الدولة).
لماذا ندعم القطاع الخاص؟
لقد نبّه الإمام الشيرازي الحكومات والدول الإسلامية منذ تاريخ مبكر، أي قبل عشرات السنين، بأن يدعموا القطاع الخاص، ويتركوا عملية البناء وتشغيل المواطنين، للشركات الأهلية، وليس من واجب الدولة أن توظّف الناس، لذلك هي لا تحتاج إلى أموال طائلة، لأن دورها يجب أن يكون إداري قبل كل شيء.
لكن الذي حدث أن الحكومات (الدكتاتورية، الانقلابية، القمعية المستبدة)، لم تقتنع بإيكال الأمور إلى المختصين بالبناء وتطوير المدن والبلدان، فصار الحاكم الأعلى يطمع بكل شيء، ولا يكتفي بوجوده على قمة العرش والسلطة، وإنما يريد أن يكون الآمر الناهي الوحيد، والمالك الأوحد لثروات الناس، والمتحكم بمصائرهم.
فصار الدولة مؤسسة حاكمة متضخمة، والحكومة جهة تنفيذية شاملة، يديرها فرد واحد حاكم دكتاتور مستبد، وغالبا ما يكون مصابا بعاهات مرضية معقدة، أكثرها شيوعا شعوره بالنقص وإصابته بداء العظمة، فينعكس ذلك على الدولة كلها وزعلى مؤسساتها وعلى الشعب الذي يبقى يعاني من قرارات الحاكم الدكتاتور الذي يسعى بقوة لتكسير (عظام) القطاع الخاص، وغلق أبواب تطوره، فيبقى الشعب أسير سياسات ورغبات الطاغوت.
في حين أن السياق الاقتصادي والإداري والحكومي الصحيح، يقول بأهمية تنشيط القطاع الخاص، وإيكال الأمور الإنتاجية كلها إليه، وفي هذه الحالة يكون هذا القطاع قادرا على صناعة الإنسان الإنتاجي، وتحويلة من نزعته الاستهلاكية إلى الإنتاجية، على عكس ما تقوم به الدولة الريعية الدكتاتورية أو الفاسدة، فهي تستعبد الناس بالوظائف وتجعلهم استهلاكيين لا منتجين، وتقتل فيهم أية رغبة للتطور والتقدم والتغيير.
يقول الإمام الشيرازي: (يجب أن توكل جميع الأمور إلى القطاع الخاص، وعليه فلا يوجد عاطلون حتى تحتاج الدولة إلى توظيفهم، بل الشركات الأهلية هي التي تتصدى لمهمة تشغيل الناس، فتنقل الإنسان من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن تجميد القوى إلى إطلاق الكفاءات والحريات).
هناك قاعدة أخرى تؤكد نجاح القطاع الخاص وتفوقه على العام أو الحكومي، وهذه القاعدة تنطلق من رغبة الشخص في الإنتاج الجيد كمّا ونوعا إذا كان العمل يعود له، وليس للدولة، فحين يشعر الإنسان إنه يعمل لنفسه، وأن الأرباح تعود إليه، سوف يتفنن ويُبدع ويبتكر ويصرّ على الإتقان والجودة في منتجاته مما يجعلها رائجة وقابلة للتسويق السريع.
الموظف عبء على نفسه
على العكس من الموظف الذي يعمل لدى الدولة بأجر معروف ومحدود، وساعات عمل معروف، فإنه سرعان ما يتحول إلى عمل روتيني، يقضي معظمه بلا إنتاج يُذكر، وكلما ازداد عدد الموظفين الحكوميين تزداد البطالة المقنعة، ويُثقَل كاهل الاقتصاد بوظائف فائضة، وفي نفس الوقت يزداد عدد المستهلكين مقابل المنتجين، فنكون أمام معادلة فشل اقتصادي مؤكّد تصنعه الدولة لنفسها، لكن نتائجها تنعكس على الشعب الذي سيتحمل أخطاء الدولة والحكام الفاشلين المستبدين.
كثرة الوظائف الحكومية هي السبب الأول في فشل الاقتصاد القائم على القطاع العام، وهيمنة الدولة والقائد على الاقتصاد، كما حدث في الدول التي أدارتها حكومات اشتراكية حين كانت الأخيرة رائجة آنذاك، لكن الفشل كان يتربص بها، وقد انهارت بالفعل، وأصبحت اليوم في خبر كان، لكن الغريب أن هناك حكام وحكومات لا تزال تتعقب خُطى الاشتراكي سيئة الصيت، فتعتمد الاقتصاد الريعي، وتوظف الملايين من الموظفين في دوائرها ومؤسساتها، وخير مثال أو نموذج لهذا الواقع الفاشل هو حكومات العراق التي لا تزال تراوح في مكانها.
يقول الإمام الشيرازي: (إن الإنسان إذا كدَّ وعملَ لنفسه جدّ واجتهد، وأعمل كل قواه وأتقن عمله بجودة عالية، بخلاف الموظف الذي لا يشعر بأنه يعمل لنفسه، ولذا فشلت الحكومات الاشتراكية، وغلبتها الحكومات الرأسمالية على إشكالاتها وانحرافاتها في نظر الإسلام).
هناك علاقة جدلية بين الدكتاتورية والهيمنة الاقتصادية للدولة، مما يؤدي إلى تقليص الحريات كافة، أو محوها، ومنها الحرية الاقتصادية كالتجارة وسواها، كل شؤون الدولة ليس الاقتصادية وحدها، مرهون بالحرية وليس بالاستبداد، ولا توجد حاجة ماسة لتدخل الدولة في كل شيء، وهذا ما أكد عليه المنهج الإسلامي الاقتصادي الذي جعل الحرية شرطا أساسيا للتطور في الاقتصاد أو غيره.
وهذا ما أكده الإمام الشيرازي في قوله: (ضبط البناء والأمن في الدولة لا يتوقف إلاّ على الحرية، وليس على الكبت، وليس هناك حاجة لتدخل الدولة في كل شيء، بل الحرية الإسلامية والإنسانية تقتضي ما ذكره الفقهاء من القاعدة الفقهية التي تقول: الناس مسلّطون على أموالهم وأنفسهم، أما الدولة فعليها شؤونها المقررة في الإسلام، كما ذكرنا ذلك في كتابنا: فقه الدولة).
لدينا شواهد وأدلة على نجاح قوانين الإسلام الاقتصادية التي أخذها بها الغرب، فحدث ذلك التطور الاقتصادي الهائل الذي تعيشه الدول والمجتمعات الغربية، مع وجود الإشكالات والمآخذ عليهم، أما المسلمون فلم يتقدموا لأنهم لم يأخذوا بقوانين دينهم الاقتصادية، بل استعبدتهم الأنظمة والحكام المستبدين ودولهم التي هيمنت على الاقتصاد والناس معا.
يقول الإمام الشيرازي: (إنّ الغرب عمل بشيء من هذه القاعدة الإسلامية، فتقدم تقدما هائلا، وسيأتي اليوم الذي تعمل البشرية كلها بهذه القاعدة وبسائر قوانين الإسلام بإذن الله سبحانه، وقد ألمعنا إلى ذلك في كتابنا: الغرب يتغيّر).
لا يمكن أن يبقى المسلمون غافلين إلى ما لا نهاية، يجب التنبّه إلى أن الأمم في تطور سريع وهائل، وأن مقومات المنافسة والتطور موجودة في الدول الإسلامية، وما يحتاجونه هو قراءة الأفكار والنصائح والمؤلفات التي تلفت نظر الحكام والحكومات والمسؤولين المعنيين لمراجعة الأخطاء السابقة، ومعالجتها والتركيز على صنع الإنسان الانتاجي وليس الاستهلاكي، وهو أمر طوع أيديهم وقدراتهم، لكن ما يحتاجونه قوة الإرادة والتخطيط المدروس والتنفيذ الحازم.
اضف تعليق