الحرية تفضي الى التوازن، والتعدد في الافكار والرؤى والخيارات، وهذا يؤدي بدوره الى انتشار الوسطية كمنهج في إدارة شؤون الانسان، على العكس من ذلك فإن التطرف في الفكر او الاقوال، والاعراف والسنن والتشريعات الوضعية، سوف يقود الى انتشار التطرف، وفرض منطق القوة الغاشمة على الاخرين، فتكون هناك أحادية مقيتة، لا تنحو الى الاقناع والتآلف، بقدر ما تلجأ الى استخدام العنف والقوة في فرض آرائها التي غالبا ما تكون خاطئة، لأن الفكر والفعل الصحيح لا يتناقض مع سجية الانسان وتطلعاته.
لذلك نلاحظ حضور الفعل الانساني في الفكر السليم، إذ لا يوجد فكر متوازن قائم على مصلحة الانسانية من دون أن يستمد مضمونه من وحدة الانسان، والتوافق على مصالحه، والعمل في هذا الاتجاه بمنطق التوازن والتوافق والتقارب غير المفروض بالقوة الغاشمة، فلا توافق ولا اتفاق صحيح ولا توازن ولا اعتدال ولا وسطية، تتسق مع استخدام القوة.
لأن القوة هي منطق متعسف يفرضه الطغاة بالقوة على الآخرين، في حين أن الانسان يحتاج الى الحرية والتوازن والوسطية في ادارة شؤونه الفكرية والحياتية عموما، لهذا عندما نبحث في افكار الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، التي يعالج فيها التطرف، واهمية نشر منهج الاعتدال والوسطية، نلاحظ أنه ينطلق من القاعدة الفكرية التي تتوافق مع انسانية الانسان، المستمدة من الاسلام نفسه.
لذلك نقرأ في هذا الشأن في دراسة عن نظرية اللاعنف عند الامام الشيرازي قولا نصه: (إن الأساس الفكري والعملي التطبيقي للدين الإسلامي قام على إنسانية الإنسان أيا كان دينه أو جنسه أو لونه أو معتقده أو انتماؤه). وهذا يدل بما لا يقبل التشكيك، أن رؤية الامام الشيرازي في هذا الصدد تقوم على منهجية الاعتدال والوسطية في الافكار والافعال معا.
لذلك ليست هناك مشكلة في اختلاف الآراء، بل على العكس من ذلك، اذا تعددت الأفكار، تكون هناك مخارج وحلول ورؤى وخيارات أكثر، يتم الأخذ بالجيد منها في المعالجات والتطبيقات الحياتية، ولكن المشكلة تكمن في إلحاق الضرر بالآخرين نتيجة لهذا الاختلاف، لذلك مطلوب وجود حالة التوازن والاعتدال دائما في الفكر او العقيدة او المذهب، حتى لا يكون مصدرا لإلحاق الاذى بالآخرين، من خلال تكفيرهم او تجريمهم فكريا، مما يتيح استخدام القوة والعنف المشرعن ضدهم.
لذا نقرأ في هذا المجال في نظرية العنف للامام الشيرازي رأيا واضحا ومنهجا بالغ الوضوح، ينص على: (ان الاختلاف في الرأي أو العقيدة أو المذهب أو الدين أو الأفكار أو الاتجاهات لا يوجب إلحاق الضرر أو النبذ أو استخدام العنف ضد الآخرين).
لغة التواصل والاتفاق
من الفضائل الكبيرة التي منحها الله تعالى للانسان، أنه ترك ابواب الاختيار له مفتوحة على مصراعيها، لذلك بقيت مسؤولية الاختيار الصحيح تقع على عاتق الانسان نفسه، وهنا تكمن قيمة الحياة نفسها، وقيمة الانسان ايضا، ومعرفة نجاحه او فشله في الاختبار الدنيوي تبعا لما يختاره من افكار وعقائد، وما يؤمن به من آراء، فإذ اختار السليم منها، سوف ينجح في الاختبار، واذا حدث العكس وذهب نحو التطرف والتعصب والتكفير وقسر الآخرين على رأي واحد وخيار واحد بالقوة، فإن الفشل سوف يطوله حتما.
ولعلنا نجد هذا المعنى الواضح عن هذا الموضوع في هذا النص من نظرية اللاعنف الامام الشيرازي، إذ ينص على (ان الخالق العظيم منح الإنسان الحرية والاختيار، وجعل بينهم لغة التواصل والتآلف والاتفاق، لا لغة العنف والقسوة والعدوان).
واذا كان الخالق العظيم يطرح امام الانسان تعدد الاختيارات وحرية الرأي، كيف يجرؤ الانسان على سد نوافذ الفكر على اترابه؟؟، انه لمن الغرابة بمكان، أن يعمل الانسان جاهدا لكي يبيح لنفسه التحكّم بالآخرين، وفرض افكاره وعقائده عليهم، لأن الله تعالى نفسه لا يجبر الانسان بل ترك له حرية الاختيار، والسبب واضح هنا، فالقسر والإجبار يقود الى الانغلاق والتحجر والغطرسة والطغيان، أما منهجية الاعتدال فإنها تتيح للانسان أن يذهب بالاتجاه الصحيح دائما.
إذاً ليس هنالك أي تبرير أو تسويغ أو شرعنة مقبولة لفرض العقيدة والرأي والسلوك على الآخرين، وعندما يتم ذلك بالقوة، كما يفعل الطغاة واصحاب القوة الغاشمة، فإن ذلك دليل فشل وغياب للمنهج الوسطي المعتدل، الذي يبقى على ابواب الاختيار مفتوحة امام الانسان، الامر الذي يغلق ابواب التعسف، ويتيح التعدد والتعايش للجميع، وفقا للحرية التي منحها الله تعالى للانسان، دليلا على الوثوق به، وطريقا لنشر التوازن بين الجميع.
وهكذا نقرأ في أفكار الامام الشيرازي، في هذا الخصوص ما نصه: (جاء في قول الله سبحانه وتعالى: فمن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر/ الكهف / 29. وقوله أيضاً: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين هود/ 118. دليل على حرية الاختيار وبالتالي نبذ العنف والقسوة والعدوان في فرض العقيدة والسلوك على الآخرين).
لا للعنف والارهاب والتعسّف
إن الغاية الاساسية من نشر منهجية الاعتدال والوسطية، التي دأب عليها الامام الشيرازي عبر مؤلَّفاته كافة، لاسيما التي تتعلق بالعنف واهمية التوازن، هي لوأد مصادر العنف، وتجفيف منابع التطرف، ومحاصرة بؤر التكفير والتعصّب، لأن الله تعالى خلق الانسان ومنحه الحرية التي تليق بكرامته وقيمته الكبرى، فكيف يأتي الانسان نفسه كي يسلب هذه الحرية، ليفرض رأيه الخاص على الآخرين، ويجبرهم على طريق محدد واحد، قد لا يقتنع به الجميع، وربما لا يتمكن من إقناع الآخرين إلا بالقوة؟.
وكما يعرف الجميع أن فرض الرأي بالقوة دليل على ضعف او غياب منهج الاعتدال، وهذا الغياب في الاختيار يتناقض مع فكرة الذات الالهية، ولا يتسق بما جاءت به الاديان التي حرصت على اظهار حرية الانسان الى العلن، وانطلاقها من الركيزة الاساسية التي تنطلق من انسانية الانسان أولا وأخيرا.
لهذا رفض الاسلام العنف بكل اشكاله، ورفض فرض الفكر والعقيدة والدين بالقوة والاكراه، كونه منهج حياتي قائم على الاعتدال والوسطية، وهذا بالضبط ما سعى الامام الشيرازي لترسيخه بين المسلمين والانسانية جمعاء، أملا في تحقيق السعادة البشرية التي يهدف إليها الانسان ويطمح بها، ولكنه ينسى على نحو دائم، بأن الوسطية والاعتدال هي السبيل الذي يقوده الى تحقيق هذا الهدف الكبير.
من هنا نطالع نصا آخر في هذا الخصوص، يكمن في عمق الافكار المعتدلة والمنهج الوسطي للامام الشيرازي، إذ نقرأ في هذا المجال: (إن الإسلام كدين ونظام كوني ومنهج حياتي يقف من العنف والإرهاب والعدوان والتعسف والتطرف موقف المضاد فكرة وسلوكاً).
كذلك من الشواهد المهمة التي تدل على حالة التوازن الفكري في الاسلام، انه كان ولا يزال يسعى لتحقيق الفائدة لمن يؤمن به أو يتناقض معه في التوجّه، أي حتى اعداء الاسلام مشمولين بالاصلاح والدعاء لهم من اجل تجاوز الخطأ الى الصحيح، وفقا لرؤية الانسان نفسه، ومن دون إكراه، أي وفق منهج الاعتدال الذي سعى لنشره الامام الشيرازي طيلة حياته، عبر مؤلَّفاته التي فاقت الألف ونيف كتابا، ترسيخا لمنهج اللاعنف والوسطية لدى الجميع من دون استثناء.
كما نقرأ ذلك في هذا المضمون الوارد عن الامام الشيرازي: (إن الإسلام قد خطا خطوة جبارة في رسم معالم المنهج اللاعنفي تمثل ذلك في الدعاء للعدو والصلاة لأجله).
اضف تعليق