نحن نعيش في أجواء عالمية تميل إلى المادية أكثر من المعنوية، وأن النمط الاستهلاكي البشري يتحول من حاجة إلى سلوك جمعي متفاقم يصل حدّ الوباء، فإن هذا يمثل تحذيرا للإنسان من أنه يوغل كثيرا في انغماسه المادي، وأنه ماضٍ نحو الانحدار أكثر، فيما إذا لم يراجع حساباته جيدا...
(لابد من أن يرتفع لإنسان معنوياً أولاً، ثم يرتقي مادياً ثانياً) الإمام الشيرازي
جاء في لسان العرب، أن الرجل الطماح هو بعيد النظر، وكذلك تعني جملة (بحر طموح الموج)، أي أمواجه مرتفعة، وهذا بدوره يؤكد بأن الطموح هو (ارتفاع الإنسان بشخصه من خلال رفع سقف الأهداف التي يطمح إلى تحقيقها).
الطموح في الغالب يذهب في اتجاهين أساسيين:
الأول: الطموح المادي.
الثاني: الطموح المعنوي.
الأول له صبغة مجسَّدة عمليا، فهو عمل ملموس يمكن أن نراه أو نسمع به أو نلمس نتائجه، فهو بالنتيجة طموح عملي يعود على الإنسان بنتائج مجسّدة فعليا، منها على سبيل المثال، طموح الإنسان في أن يكون صاحب ثروة كبيرة، يحققها من خلال الدخول والعمل في مشاريع إنتاجية سلعية كبيرة، أو في أي مجال ربحي مادي.
هناك من يسلك في هذا الإطار طريقين، أحدهما غير مشروع ولا يحسب حسابا للأحكام الشرعية أو الضوابط الأخلاقية ولا تعنيه القوانين الوضعية بشيء، فالهدف في إطار طموحه يقفز على جميع الشروط الدينية والأخلاقية والقانونية، ولا يعنيه سوى مراكمة أرباحه المادية بأية طريقة كانت، مشروعة أو غير مشروعة.
الطريق الثاني ذو صبغة مادية أيضا، لكنه يدخل في إطار المحلّل والمباح شرعيا وقانونيا، فالثراء مثلا غير ممنوع، ولكن الممنوع فيه حين يتحقق بشكل غير أخلاقي ولا إنساني ولا قانوني، بمعنى هناك طموحات مادية مشروعية تستمد شرعيتها من مقبوليتها، وهي مسموحة للإنسان، وله الحق في أن يطمح بها ويسعى إليها، وليس هناك في الإسلام رفضا أو قمعا للطموح المادي إذا كان في إطار الحلال.
المشكلة التي تعاني منها الإنسانية ومن ضمنها المسلمين، أنهم جميعا يعانون من تضاؤل الطموح، وأسباب ذلك ليست مجهولة، فالابتعاد الذي يزداد بين المسلمين وبين العمل بقاعدة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، يمثل سببا كبيرا في تكريس هذا التقاعس، لكنهم في الوقت نفسه تمسكوا أكثر بالطموح الذي يركّز على الراحة والكسل والرفاه المبالَغ به.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (كتاب الطموح في حياة الإنسان والمجتمع):
(إن أغلب المسلمين اليوم فقدوا طموحهم وأملهم، وتقاعسوا على أثر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقاعسوا عن نشر الإسلام العظيم، ونشر معارف القرآن الحكيم، ونشر ثقافة الرسول الكريم (ص) وتعاليم أهل بيته الطاهرين (ع)، وبدلاً عن ذلك صار أكبر طموحهم وأملهم هو نيل الراحة والرفاه، والانشغال بالمتع الدنيوية ومباهجها).
المعنويات تتقدم على الماديات
إذاً ليست هنالك طموحات ممنوعة على الإنسان، لكنه يجب أن يتوجّه أو إلى تنمية وتطوير طموحاته المعنوية، أي يهتم أولا في بناء شخصيته وعقائده وأفكاره وأخلاقياته، وبعد أن يصبح جيدا ومحصّنا من الناحية المعنوية، يمكنه بعد ذلك الدخول بقوة في العالم المادي، لأنه بعد البناء المعنوي السليم سوف يكون قادرا على منع نفسه من الانزلاق في الأنشطة العملية والسلوكية والفكرية المنحرفة، لاسيما والعالم يعاني من انتشار الوباء المادي.
لهذا من أهم الأسس التي يركز عليها الإنسان ابتداءً، البناء المعنوي للذات، كونه الأساس لكل الخطوات القادمة التي تأخذ بيده نحو الارتقاء، وحين يتهاوى الإنسان معنويا وفكريا، وينشغل بالبناء المادي وحصد الأرباح دونما رادع أخلاقي أو ديني أو قانوني، فإنه سيجد نفسه عاجلا أم آجلا مكبلا بالإخفاق والسقوط التام، فلا فائدة في إنسان غني بلا أخلاق ولا حدود، ولا فائدة في امتلاك ثروات العالم مقابل فقدان الإنسان للرحمة والانضباط.
يقول الإمام الشيرازي:
(على الرغم من أن الطموح والأمل مباح ومشروع في الإسلام، وإن الإسلام لا يمنع أحداً من التمتع الحلال بالنعم الالهية التي خُلقت له في هذه الحياة، ولكن ليس هذا هو كل شيء حتى ينحصر الطموح والأمل فيه، بل لابد من أن يرتفع لإنسان معنوياً أولاً، ثم يرتقي مادياً ثانياً).
يحتاج البناء المعنوي إلى خطط واضحة البنود، وتطبيق لا يمسّهُ التهاون، وهو يبدأ من البيئة التربوية الأصغر وهي الأسرة، حيث تكون المسؤول الأول عن غرس القيم المعنوية الكبيرة في داخل أطفالها، عبر السلوك الأبوي الجيد، فضلا عن التوجيهات الكلامية والأخلاقية اللائقة، ومع مرور الزمن، ينمو الطفل، المراهق، الشاب، الكهل ليصبح رجلا صالحا، محميا من المغريات المادية التي يغص بها عالمنا اليوم.
التركيز على البناء المعنوي لا يعني مطلقا إهمال المادي، ولكن المقصود هنا بإعطاء الأهمية الأولى للبناء المعنوي، من أجل توفير الحصانة الضرورية للإنسان كي لا يرتمي في أحضان مغريات الدنيا وهي كثيرة، على العكس من ذلك تماما يجب على المسلمين أن يتطوّروا ماديا، وأن ينوّعوا في مصادر أرزاقهم، ويستثمروا في جميع مجالات الاستثمار التي لا تتجاوز الحدود المسموح بها، وهي محددة شرعيا وأخلاقيا وقانونيا.
لا فائدة من ثروات دون أخلاق
طريق الطموح يجب أن يبقى مفتوحا أمام المسلمين، وهذا الهدف ينبغي التركيز والتأكيد عليه، لكن هذا لا يعني التخلي عن الأخلاقيات، فلا فائدة من ثروات دون أخلاق، ولا فائدة من تطور عمراني خالٍ من البناء المعنوي الرصين، هناك بلدان ومدن تسلب النظر بتصميمها العمراني وتطورها الكبير في هذا المجال، لكنها في نفس الوقت لا روح فيها، لأنها لم تمنح الروح والعقل ما يحتاجانه من بناء معنوي أخلاقي مناسب.
فالتطور المادي لا ينبغي أن يكون على حساب التطور المعنوي، وأي اختلال في هذه المعادلة، سوف يعطّل النمو والارتقاء البشري، ولهذا فإن المسلمين مطالَبين بإبقاء الطموح حاضرا، والأمل متيقّظا، وجذوة التقدم والتطور مشتعلة دائما، ولكن من الأهمية بمكان التنبّه إلى تقديم المعنوي على المادي، أو على الأقل يكون التطور المادي والمعنوي متساويين.
يقول الإمام الشيرازي:
(لا يوجد أمام كل المسلمين، طريق سوى طريق الطموح والأمل، المقرون بالصمود والعمل، والقائم على العلم واليقظة، حتى ينالوا الخير كله، ويبتعدوا عن الشر كله).
لماذا على الإنسان أن يهتم بالجانب المعنوي الأخلاقي؟، الإجابة عن هذا السؤال سوف تقودنا إلى نتيجة واضحة، فمن طبيعة البشر أنهم يرغبون العيش في وسط اجتماعي جيد متوازن مسالم عادل ومنصف، حتى يضمن الجميع فيه عدالة التعامل، والحماية اللازمة، فما فائدة أن تعيش في مجتمع غير مضمون حتى لو كنت أغنى الناس فيه، لهذا ليس المهم هو الغنى المادي، وإنما المهم هو البناء الأخلاقي المعنوي للمجتمع.
كما أن الهدف من العيش السليم في الدنيا، ليس تحقيق السعادة فيها فحسب، وإنما هناك هدف أسمى وأعظم، يتجسد بالطموح والسعي لضمان سعادة الآخرة، وهناك سبل لابد من التمسك بها لتحقيق الفوز الدنيوي الأخروي، من خلال تقديم المعنويات على الماديات، مع التمسك بما مباح منها شرعا وقانونا وأخلاقا.
يقول الإمام الشيرازي: (فكما ينبغي على لإنسان أن يعمل جاهداً على أن يوفر لنفسه ولأسرته ولمجتمعه، عيشة هانئة ووديعة في الدنيا، كذلك ينبغي له أن يعمل جاهداً على أن يحقق لنفسه ولأسرته ولمجتمعه آخرة منعّمة وكريمة، ولا يتحقق ذلك إلا في ظل تعاليم أهل البيت (ع) واتبّاع سيرتهم الطيبة، ومنهجهم السليم والمستقيم).
الخلاصة، ونحن نعيش في أجواء عالمية تميل إلى المادية أكثر من المعنوية، وأن النمط الاستهلاكي البشري يتحول من حاجة إلى سلوك جمعي متفاقم يصل حدّ الوباء، فإن هذا يمثل تحذيرا للإنسان من أنه يوغل كثيرا في انغماسه المادي، وأنه ماضٍ نحو الانحدار أكثر، فيما إذا لم يراجع حساباته جيدا، ويعود إلى رشده بخصوص تفضيل المادة على مستقبل البشرية.
اضف تعليق