تدلّ صفحات التاريخ، وتجارب الواقع في الإنفاق وجميع أنواع التبرّع، على أن الأمم القوية المستقرة المتقدمة لم تبنَ على هذه الشاكلة، لو لا ثقافة التبرع سائدة فيها، والتكافل بلغ أعلى درجاته، فهناك أثرياء كثر لديهم ثروات هائلة، لكنهم غالبا ما يبادرون بتقديم العون لمن يحتاجه، فيملأون الفراغات ويصححون الإخفاقات...
(فليرغب أثرياؤنا في ثواب الله سبحانه وأجره) الإمام الشيرازي
تدلّ صفحات التاريخ، وتجارب الواقع في الإنفاق وجميع أنواع التبرّع، على أن الأمم القوية المستقرة المتقدمة لم تبنَ على هذه الشاكلة، لو لا ثقافة التبرع سائدة فيها، والتكافل بلغ أعلى درجاته، فهناك أثرياء كثر لديهم ثروات هائلة، لكنهم غالبا ما يبادرون بتقديم العون لمن يحتاجه، فيملأون الفراغات ويصححون الإخفاقات التي ترتكبها الحكومات بحق شعوبها.
التبرعات أو الإعانات تأتي من الأثرياء بمبادرات مستمرة، ويتم تخصيصها في الغالب لدعم المؤسسات الخيرية، وإقامة المشاريع التي تضاعف الثروات، وتُسهم في دعم المحتاجين للأموال، سواء من أجل مواصلة التعليم، أو الحصول على الطعام والشراب، أو المسكن أو غير ذلك، المهم في الأمر أن الأثرياء لا يبقون يتفرجون على الفقراء وهم يعانون الأمرّين كما يحدث في بلداننا الإسلامية، بسبب عدم وجود ثقافة الإنفاق عند أثريائنا.
الثري الذي يبادر بدعم المحتاجين من خلال تقديم الأموال، لا تذهب أمواله سدى، إنها في الحقيقة تجارة رابحة مع الله تعالى، وهناك دلائل كثيرة تؤكد ذلك، منها ما يرد في آيات قرآنية مباركة، بالإضافة إلى الروايات والأحاديث الشريفة التي تحث المسلمين، المقتدرين ماليا منهم على (البذل) أي التبرع ودعم الآخرين بكل السبل المتاحة، لاسيما بالأموال الفائضة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (أنفقوا لكي تتقدموا):
(ما يصرفه الإنسان من ماله يفنى، أما ما يقدمه إلى الله سبحانه فهو الباقي، فليقدم الإنسان شيئاً من ماله ليبقى، وقد ذكر الله سبحانه: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له)، فالمال الذي يقدمه الإنسان إنما هو قرض لله سبحانه، ثم الله يضاعفه له، ويرجعه إليه، فهل ينتظر شيء اكثر من ذلك؟).
لماذا تحدث النزاعات بين الناس، بل وحتى بين الدول، ولماذا يقترح الإمام الشيرازي الإنفاق لمعالجة الضنك، والأزمات الاقتصادية التي تفتك بالمجتمعات نزولا إلى التجمعات والجماعات الأقل، حتى العائلة الواحدة يمكن أن تخترقها مشاكل التباين في المداخيل، فإن تمكّن أحد أفرادها وتمتع بحياة مرفّهة، وبقي الآخر يعاني من ضيق الحال، وقلة الموارد وشحة المال، فإن العراك سوف يستعر بينهما، وينسحب هذا على الجماعات الأكبر وصولا إلى الدول.
استقراء مخرجات الإنفاق
فما يحدث من تباين طبقي بين المجتمعات الغربية والأفريقية على سبيل المثال، أو بعض مجتمعات الشرق الأوسط، يجعل من سكان الشرق يفكرون ويخططون ويعملون فعليا على الهجرة إلى الغرب، واليوم يعيش العالم كله والغرب بخاصة أزمة المهاجرين غير الشرعيين، لماذا يحدث هذا؟، السبب هو التباين الطبقي، وقلة الدعم المالي للشعوب الفقيرة، والتقصير في تقديم الخبرات لها، لذلك الحل في وجوب الإنفاق على الدول الفقيرة لمعالجة الفوارق الطبقية الكبيرة بين الدول الغنية والفقير.
الدين الإسلامي استقرأ هذه الظاهرة الاقتصادية مبكرا، ودعا إلى أهمية السخاء والدعم المالي لمن يستحقه، والحث على الإتفاق وتقديم الصدقات، فهذه الأفعال لها نتائج قد لا تُرى بالعين ولا تُلمَس باليد، لأن تحقيق التوازن الاقتصادي بين الدول والمجتمعات، والجماعات الداخلية في داخل المجتمع الواحد، تنعكس بشكل كبير على حالة الانسجام والعيش بعيدا عن الصرعات، والتشنجات التي غالبا ما تكون أسبابها تخمة الأثرياء، وشحة الفقراء.
لهذا يحث الإمام الشيرازي على الإنفاق بقوله:
(هنالك أحاديث كثيرة تشجع الناس على الإنفاق والإعطاء والوقف والضيافة والهبة وغيرها.. وفي بعض الأحاديث: إن الصدقة تدفع البلاء وتوجب زيادة الرزق وأنها تدفع الموت وتدفع ميتة السوء).
في البدايات الأولى للإسلام قام النبي (ص) بترسيخ وإشاعة ثقافة التكافل والبذل بين المسلمين، فأصبحت ثقافة اجتماعية يؤمن بها المجتمع كله، ويسارع الأثرياء إلى مساعدة الآخرين دونما تردد، لكن مع تقدم الزمن صارت هذه الثقافة تتراجع، على الرغم من دورها الحاسم في إضفاء السكينة والسلام بين أفراد المجتمع، بعيد عن الفوارق الطبقية المفتعلة.
عندما كانت أوضاع المسلمين صعبة ومواردهم قليلة كان الناس يبادرون إلى التبرع عبر الزكاة والخمس وغيرهما، وكانت تُبنى المساجد والمساكن الخيرية وغيرها، وكانت يد الخير مبسوطة لمن يحتاجها، والناس تعلّموا على ثقافة التكافل، فلا ينام منهم شخص وهو جائع، ولا يأتي عيد ولا توجد كسوة للأيتام، فالكل كان يتعاون ويقدم ما يستطيع، لكن الأمر في عصرنا الراهن يكاد يكون مختلف بشكل كلي، في قضية (البذل) التبرع ودعم الأعمال الخيرية.
ففي عصرنا الراهن ازدادت موارد المسلمين، وظهرت ثروة النفط، وبلغت الأموال المكدسة في البنوك الأجنبية لثروات الدول الإسلامية مليارات الدولارات، ولكن مع هذه الوفرة المالية الهائلة، تقلّصت مساحة (التبرع)، وتراجعت مبادرات الدعم المالي الذي يقلص فجوة الفقر بين الأفراد مع بعضهم، أو بين الدول الغنية والفقيرة.
تشجيع وترسيخ ثقافة الإنفاق
إن ثقافة التبرع باتت منعدمة أو أنها ضعيفة جدا في أفضل الأحوال، وتكاد نسبة كبيرة من حالات الدعم غير موجودة في عالم المسلمين اليوم، وهي ظاهرة ليس سليمة مطلقا، بل هي مؤشر على وجود خلل عميق في العلاقات بين المسلمين كأفراد، وبين الدول الإسلامية مع بعضها كجماعات، والسؤال هنا هل المسلمون لم تعد تهمهم (الدار الأخرى) ولا تغريهم التجارة مع الله تعالى؟، لابد من الإجابة الصادقة ووضع الحلول في ضوء ذلك.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
(في هذا العصر الذي تفجر النفط في كثير من بلاد الإسلام، لا ترى حتى نصف ذلك المقدار من موقوفات جديدة، فهل هذا زهد من المسلمين في الآخرة، أم زهد منهم في الدنيا؟ فإن الدنيا أيضاً تتوقف على الأوقاف والخيرات.. وبالعكس: ترى غير المسلمين يوقفون بكثرة هائلة. ولو كتب إنسان الأحاديث والروايات، والقصص ــ في شأن الإنفاق ــ وما عمله السابقون، لاحتاج إلى مجلدات ضخام، فليرغب أثرياؤنا في ثواب الله سبحانه وأجره).
مما يثير الألم والاستغراب في قضية قلة الإنفاق، أننا كمسلمين نمتلك إرثا مشرّفا لهذه الثقافة، لاسيما تلك التي نجدها في سيَر أئمة أهل البيت عليهم السلام، ويُفترَض بنا أن ننهل منها ونتعلمها، ونجعلها ثقافة سلوك لا نتخلى عنها، كونها تقدم لنا نتائج غير مرئية من حيث الجودة المجتمعية والتطور والاستقرار الاقتصادي الذي ينعكس على استقرار المجتمع.
لنا في أئمتنا (ع) أمثلة حية على القيمة العليا للإنفاق والكرم والسخاء في هذا الجانب، وعلينا التمسك بهذه الثقافة لأسباب كثيرة، أولا هي تجارة رابحة مع الله سبحانه، وثانيا نحن نتمثل ثقافة أهل البيت عليهم السلام ونتمسك بها ونطبقها، وثالثا تجعل عوائلنا وأطفالنا وأجيالنا القادمة تنعم بمستقبل مستقر متوازن في ظل مجتمع مرفّه وغني، كل هذه النتائج قد يكون بعضها خفيّا، ولكننا في جميع الأحوال نصل إلى مجتمع مثالي.
يقول الإمام الشيرازي:
(كان الإمام الحسين (عليه السلام) يلقب بـ: (كريم أهل البيت)، وكان مضيافاً معطاءاً، يبذل بغير حساب، ويروى: أنه قسم أمواله نصفين ــ أكثر من مرة ــ فبذل النصف في سبيل الله وأبقى النصف، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يُنفق ما يجد، وكان يعتذر بعد أن يعطي أربعة آلاف لفقير بقوله: خذها فإني إليك لمعتذر..)
فلنواصل ثقافة الإنفاق، ودعم المؤسسات الخيرية، لاسيما الأثرياء، ولنتمسك بالخمس والزكاة كونهما داعمان كبيران للمجتمع وتطويره، ولنتعلم جيدا كيف نحوّل الإنفاق إلى سلوك مجتمعي، نعيشه في كل يوم بأفعالنا وأعمالنا وأقوالنا، فالإنفاق أحد أكبر السبل لبناء مجتمع ناهض ودولة متوازنة، وهذا ما يحلم به الجميع.
اضف تعليق