المجتمعات يمكن ان تحدد معالم قالبها الاجتماعي القائم على البناء الصحيح وصولاً الى مجتمع ناجح ومتقدم على المستوى المادي والروحي، شرط عدم اهمال أي جانب منهما، وهذا ما يتطلب تكاتف الجميع ووضع الأهداف والإصرار على تحقيقها ببذل الجهد والصبر على النتائج، خصوصاً ان عملية البناء غالباً...
كثيراً ما حمل المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي هم التراجع الذي تعيشه المجتمعات الإنسانية عموما، والإسلامية على وجه الخصوص، على مختلف المستويات الأخلاقية والروحية والثقافية والفكرية، وتحولها الى مجتمعات "جامدة" او "متحركة نحو النقص" بدلاً من سعيها نحو البناء الاجتماعي وصولاً نحو الكمال والمثالية والتقدم والنجاح في خلق مجتمعات متطورة ليس على المستوى المادي فحسب، بل على المستوى الروحي والأخلاقي، باعتبار ان لا قيمة للمادية من دون وجود فلسفة إنسانية صحيحة تقوم على معاني الخير، هدفها اسعاد الانسان وتقديم مجتمع قائم على أسس صحيحة.
ويوضح (رحمه الله) رؤيته في البناء الاجتماعي بالقول: "المؤسسات الإجتماعية عبارة، عن جماعة من الناس يبنون العمل المنظم، لأجل هدف خاص، سواء كان الهدف الهدم أو البناء، لكن كل هدف هدمي لا بد وأن يتطلع إلى هدف بنائي وراء ذلك الهدم، وعلم الإجتماع قد ينظر إلى المؤسسات بصورة عامة، وهذا هو الأهم، وقد ينظر إلى بعض المؤسسات أو إلى عمل عام من نوع واحد لكل المؤسسات، مثل أن ينظر في ارتباط الدولة مع المؤسسات وهذا هدف خاص، وليست له من الأهمية ما للقسم الأول"، وعلى هذا الأساس يمكن القول ان الهدف الذي يسعى لتحقيقه الافراد داخل مجتمعاتهم، سواء اكان الهدف هدمي ام بنائي، هو من سيحدد مسار المجتمع نحو التقدم والنجاح او التخلف والتراجع.
لقد ناقش الامام الشيرازي في نظرية البناء الاجتماعي، المؤسسات الاجتماعية، وقسم الإجتماع إلى أربعة أقسام:
1. المجتمع الجامد.
2. المتحرك نحو النقص والانحراف.
3. المتحرك نحو الكمال بأقدام ثابتة.
4. المتحرك نحو الكمال بدون أسس ثابتة.
والملاحظ من هذا التقسيم ان المجتمعات (1،2) تسير نحو الهدف الهدمي، بينما تسير المجتمعات (3،4) نحو الهدف البنائي مع الفارق النسبي بينهما في طريقه الوصول والثبات بطبيعة الحال، لذلك تجد ان الامام الراحل الشيرازي عندما يعرض سمات المجتمع المتصاعد ذي الأسس يقصد به "المجتمع المتحرك نحو الكمال بأقدام ثابتة هو الذي ينطلق من فلسفة صحيحة، كالتعاون، والعلم، والفضيلة، والتقوى، وحب الناس، والإنسانية، وابتغاء الخير، والحرية، ونحوها... وأخذ يعمل بتؤدة واتزان ومثابرة، ومثل هذا المجتمع سيبقى ينمو ويزدهر ويتوسع إلى ما شاء الله".
بينما يعرف المجتمع المتصاعد بلا أسس له بقوله: "المجتمع المتحرك نحو الكمال بدون أسس ثابتة، هو الذي ينطلق من فلسفة صحيحة بالنسبة إلى السمو والإنسانية، ولكن لا يرعى سلسلة المراتب، والعمل بتؤدة ومثابرة، ومثل هذا المجتمع خليق بالسقوط أيضاً لأن العمل إذا لم يكن عن إتقان لم يبق راسخاً، بل ينهار بعد مدة من الزمن".
وارجع الإمام الشيرازي فكرة تحطم المجتمعات الانسانية إلى:
1. المشكلات التي تنبع من خارج الإجتماع، مثل غزو الأعداء، والسيل والبركان، والزلزلة، والجفاف، بسبب قلة الأمطار، أو إن يصبح المحل مستنقعاً أو ما أشبه ذلك، فإن الإجتماع مهما كان رصيناً ومتعاوناً لا يتمكن أن يقاوم مع وجود هذه العوامل.
2. المشكلات التي تنبع من داخل الإجتماع، كما إذا وقعت بين المجتمع فرقة كبيرة سببت التنازع والمشكلات الدائمة له، فإن الإنسان إنما يفتش عن الأمن والراحة والاحترام والحرية.
ويضيف الإمام الشيرازي مؤكداً على الفطرة الخلاقة بين الهدم والبناء بقوله: إن الإنسان إذا لم يصرف فطرته الخلاقة في البناء، لا بد وأن يصرف فطرته في الهدم، سواء في هدم نفسه أو هدم مجتمعه، فإن أفراد الإنسان والحيوان والنبات كلها خلاقة، النبات يخلق الأوراق والأزهار والأثمار والأغصان وما أشبه، فخلاقية الإنسان خلاقية واعية، بينما خلاقية الحيوان والنبات غريزية.
"ويعتقد الإمام الشيرازي اعتقاداً راسخاً بأن العلم والدين الصحيح كفيلان بإسعاد المجتمع، أحدهما من الناحية الروحية، والآخر من الناحية المادية"، ليتحقق التوازن والاستقرار النفسي والعقلي وبالتالي تمكن المجتمع من النجاح في مسيرته الإنسانية والتي لا تتم الا وفق شروط واجبة لتقدمه، وفق رؤية الامام الشيرازي أهمها:
1. الهدوء والتوازن الفكري والعملي للإنسان، لأن القلق والهياج يجعل منه عضواً فاسداً، وهذا سوف ينعكس على الاجتماع الذي ينتمي إليهِ.
2. الصبر في المشاكل، لأن الصبر سمة ضرورية لحفظ النظام وعدم التعجل في اتخاذ القرارات، وهذه السمة ضرورية لاسيما لمن يمسك بالسلطة.
3. معرفة الناس، لوضع كل إنسان في الموضع المناسب له، ومعاملته بما يليق وإزالة كل سبب يدعو إلى تململ الناس وعدم ارتباطهم.
4. الابتعاد عن كل ما يثبط الهمم ويخلق التشاؤم لدى الناس.
5. إن القدرة هي أمانة في ذمة الإنسان لا يحق له تبذيرها أو تجميدها بأي صورة كانت، بل اللازم عليهِ تنميتها وتطويرها حسب موازين كل قدرة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو علمية.
6. امتلاك الإنسان لفكر متكامل يجعله متبصراً بالعواقب، مدركاً للأهداف، حازما، لا يتردد في العمل.
7. الإرادة الصلبة في الوصول إلى الأهداف، تلك الإرادة التي تسمح بخلق منافذ عديدة لبلوغ الغايات.
8. الانضباط في العمل والتفاؤل ورفع المستحيل.
9. التخطيط السليم.
10. اغتنام الفرص وعدم إضاعتها سواء للفرد أو للجماعة.
11. التواضع فمن تواضع ابتعد عن القسوة وتقبل الآخرين.
12. تقبل النقد واجتناب الغرور في القول والفعل.
13. الواقعية في النظر إلى الأشياء، لأن من يتجاهل الواقع لا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام.
والخلاصة ان المجتمعات يمكن ان تحدد معالم قالبها الاجتماعي القائم على البناء الصحيح وصولاً الى مجتمع ناجح ومتقدم على المستوى المادي والروحي، شرط عدم اهمال أي جانب منهما، وهذا ما يتطلب تكاتف الجميع ووضع الأهداف والإصرار على تحقيقها ببذل الجهد والصبر على النتائج، خصوصاً ان عملية البناء غالباً ما تكون أصعب من عملية الهدم، وبالتالي تحتاج الى المزيد من المثابرة والعمل للوصول الى الغاية المنشودة.
اضف تعليق