العفو من القيم التي آمن بها الإمام الحسن (ع)، وطبقها في حياته مع ألدّ أعدائه، وهذا المنهج المسالم أصبح في عهدة ثقافة وسلوك تحلى به المسلمون، واتخذوه قدوة، فحين يرى الإنسان العادي قائده نموذجا للعفو والسلم واللاعنف، سوف يتعلّم منه ويقلّده كي يصبح مثله تماما...
(حتى في آخر اللحظات من حياته، أوصى الإمام الحسن (ع) بعدم إراقة الدم)
الإمام الشيرازي
القامات الشاهقة لأهل البيت (ع)، والمأثور الفكري والأخلاقي الخالد الذي تركوه للبشرية، يحتّم علينا اغتنام المناسبات التي تتعلق بهم، كي نسترجع سيرتهم ومواقفهم وأقوالهم، ومناهج حياتهم، لكي نصحح أخطاءنا ونرمم عقولنا وقلوبنا وأنفسنا، بما يجعلنا أمة تنافس الأمم الأخرى علميا وأخلاقيا.
الإمام الحسن المجتبى (ع)، كما هم أئمتنا الأطهار، كلٌ منهم له سيرته المعطّرة بالمواقف والمبادئ العظيمة، ومن أهم المبادئ التي كلّلت سيرة الإمام الحسن (ع)، بالتفوق والنجاح، انتهاجه مبدأ اللاعنف وجنوحه إلى السلم، وتمسكه بمبدأ الاستشارة الذي سار عليه من قبل جده الرسول (ص) وأبوه الإمام علي (ع).
العفو من القيم التي آمن بها الإمام الحسن (ع)، وطبقها في حياته مع ألدّ أعدائه، وهذا المنهج المسالم أصبح في عهدة ثقافة وسلوك تحلى به المسلمون، واتخذوه قدوة، فحين يرى الإنسان العادي قائده نموذجا للعفو والسلم واللاعنف، سوف يتعلّم منه ويقلّده كي يصبح مثله تماما، ويُضاف إلى ذلك تمسك الإمام (ع) بمبدأ استشارة الآخرين، حتى في تلك القضايا المصيرية كإعلان الحرب وما شابه.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (حياة الإمام الحسن ع):
(كان الإمام الحسن (ع) كجده رسول الله (ص) وأبيه أمير المؤمنين (ع) من رواد مبدأ السلم واللاعنف. ومن مصاديق ذلك عفوه عن المسيئين والشاتمين وعدم مقابلتهم بالمثل، بل إكرامهم والإحسان إليهم).
هناك أدلة وثيقة على انتهاج الإمام (ع) لمبدأ اللاعنف، فالتركيز على هذا المبدأ لا يأتي من باب التذكير، بقدر ما يهدف إلى تنبيه مؤيدي الإمام من شيعته ومن عموم المسلمين ومن البشرية كلها، على حسنات ونتائج اللاعنف على حياة الناس أفرادا وأمما أو مجتمعات، فمن يجعل حياته مُصانة من الحروب والتصادمات، سوف يتفرغ للعلم واقتناص فرص التقدم لتطوير حياته.
سياسة عدم البدء بالقتال
لذلك فكل ما شغل الإمام الحسن في حياته (ع) هو كيف يدرأ مخاطر الحروب والاقتتال بين المسلمين، ولعل أفضل مصداق في هذا المجال، يكمن في قبول الإمام الحسن (ع) بالصلح وتجنب الحرب مع الطرف الآخر (معاوية)، رغم أنه يمثّل كفة الباطل، لكن تجنب إراقة دماء المسلمين والتمسك باللاعنف هو المنهج الذي لم يحِدْ عنه الإمام الحسن (ع)، ومن الجدير بالذكر أن الإمام (ع) دعم ثقافة اللاعنف بقيمة أخرى كبيرة ألا وهي الاستشارة.
يقول الإمام الشيرازي:
(ومما يؤكد التزامه مبدأ اللاعنف، قبوله بالصلح لحفظ دماء المسلمين على ما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى).
لماذا علينا كساسة وقادة وحتى كأشخاص، أن نأخذ من سيرة وحياة وقرارات الإمام الحسن (ع) أنموذجا لنا؟، وطريقا نسلكه في تقرير مصائرنا، وترتيب شؤوننا وتفاصيل حياتنا؟، إن الأمم التي تصبوا إلى التطور وتسعى لتصدّر العالم، لم يعد العنف والقتال أسلوبا لإدامة حياتها، فأسلوب التصادم والقتال بات من أساليب الأمم المتأخرة إلا بمقدار الدفاع عن النفس.
وقدي تكون اليابان بعد الحرب العالمية الثانية خير نموذج للآخرين في جانب التخلي عن سياسات الحروب خارج الحدود الدفاعية، والتفرغ للتقدم في ميادين اللاعنف، وهذا بالضبط هو المبدأ الذي آمن به الإمام الحسن (ع) وأخذه عن جده الرسول (ص) وأبيه الإمام علي (ع)، لذلك ظلّ يركز عليه ويدعو المسلمين له، حتى في اللحظات الأخيرة من حياته.
لماذا هذا الإصرار على الجنوح للسلم من قبل قائد المسلمين الإمام الحسن (ع)، أليس هذه السياسة المبدئية هي التي جنبّت المسلمين ويلات الحرب الطاحنة، التي كانت ستحرق الأخضر واليابس، لو لا هذه السياسة الحكيمة القائمة على ركنين أساسيّين مبدئيّين هما، اللاعنف والاستشارة.
يقول الإمام الشيرازي:
(حتى في آخر اللحظات من حياته، وصى الإمام الحسن (ع) بعدم إراقة الدم في تشييع جنازته، وإنْ بادر الأعداء برشق الجنازة بالسهام ومنعوه من الدفن بجوار جده رسول الله).
هل سياسة تجنّب الحروب نوع من التخاذل؟؟، وهل الإقدام على الحروب الطائشة ينتمي إلى الشجاعة الحقة؟، إن شجاعة الإنسان بما في ذلك القائد الأعلى ليس عدد الجنود ولا ترسانة السلاح، إنه يكمن في قضية الإيمان، وهل هناك أكثر إيمانا من قائد يجنّب أمته الخوض في حرب لا أحد ينتصر فيها سوى الشر والدمار؟
دروس مستخلَصة من تجربة الحسن (ع)
من أهم الدروس التي يمكننا استخلاصها من تجربة الإمام الحسن (ع)، والعمل بها لتطوير أمتنا وحياتنا، هي أن لا نبدأ أحداً أو جهة أو دولة بالقتال، وأن نميل إلى السلم (وندفع بالتي هي أحسن)، فلا شيء أفضل للإنسانية من اللاعنف، وهذا هو الدرس العظيم الذي حصلنا عليه كمسلمين (والبشرية)، من سيرة الإمام الحسن (ع)، الذي حدد الحرب بالدفاع عن النفس وعدم البدء بالقتال.
الإمام الشيرازي يؤكد هذا المبدأ وهذه السياسة بالقول:
(كان الإمام الحسن (ع) كأبيه أمير المؤمنين (ع) وكجده رسول الله (ص) لم يبدأ بقتال أحد، بل كانت حربه دفاعية، فإنه لم يتحرك نحو معاوية إلاّ بعد ما هاجم الأخير أهل العراق ووصل قرية الحبونية، فأرسل الإمام الحسن (ع) جيشاً للدفاع).
والآن لنسأل أنفسنا والجميع، كم من الحروب التي ضجّ بها تاريخ البشرية، كانت ستنطفئ ونتجنب ويلاتها لو أن القادة ساروا في طريق اللاعنف، واعتمدوا عدم بدء القتال، وعلى بناء الجيوش وفق مبدأ (الدفاع عن النفس)؟.
هذه هي سياسة الإمام الحسن (ع)، التي سعى إلى غرسها بين المسلمين، وأراد أن يتعلم المسلمون (الأفراد منهم والجماعات)، السير إلى أمام وفق منهج اللاعنف، والإحجام التام عن سفك الدماء، لأن الله تعالى حرم سفكها، إلا وفق شروط معروفة، والعفو أولى دائما، والجنوح إلى السلم يجب أن يبقى طريق المسلمين السالك نحو حياة أفضل.
يقول الإمام الشيرازي في أحد الدروس التي قدمها الإمام الحسن (ع) على طريق اللاعنف: (أمر الإمام الحسن (ع) قائد جيشه وهو عبيد الله بن العباس أن لا يبدأ بالقتال وقال (ع): وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله).
ولم يكن مسار الجنوح نحو السلم أسلوبا وحيدا للإمام الحسن (ع)، بل كانت المشورة تلازم منهج اللاعنف، على الرغم من الإمام معصوم، لكن العصمة لم تمنع من استشارة الأصحاب والعقول الأخرى، وهي سياسة درسها الإمام الحسن (ع) على أيدي أجداده، الرسول (ص) والإمام علي (ع)، فطالما أن الأكثرية اختاروا السلم (وهو منهج الإمام ع)، فإن العمل به صار أمراً محتوما.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(كان الإمام الحسن (ع) مع عصمته وعلمه اللدني يستشير أصحابه، كما كان كذلك رسول الله (ص) والإمام أمير المؤمنين (ع). ومن ذلك: ما كان في أمر الصلح حيث جمع أصحابه واستشارهم بين الحرب والصلح، فاختاروا الصلح بأكثرية الآراء بل بالإجماع).
هذه الدروس العظيمة التي تشعّ كالنور في سيرة الإمام الحسن (ع)، يجب أن يستثمرها المسلمون، لاسيما القادة، فاللاعنف هو الطريق الأقصر نحو التقدم والتطور، ومواكبة المستجدات الهائلة في كوكب الأرض، وإذا أراد قادة المسلمين (ليس السياسة وحدهم)، أن تبقى أمة الإسلام في دائرة المنافسة العالمية، عليهم دراسة سيرة الإمام الحسن (ع)، بإتقان وتوظيفها لأمتهم أحسن توظيف.
اضف تعليق