إذا كان الإنسان غير قادر على بلوغ درجة الكمال، فهذا لا يعني أنه يتوقف عن السعي نحو هذا الهدف، بل على العكس من ذلك تماما، إذ عليه أن يسعى ويجرّب ويسلك ويجتهد في بلوغ أقصى ما يمكنه من درجة للكمال، كما أن عليه أن يحقق درجة عالية...
(أفضل مدرسة تعلِّمُنا الاعتدال هي مدرسة أهل البيت عليهم السلام)
الإمام الشيرازي
إذا كان الإنسان غير قادر على بلوغ درجة الكمال، فهذا لا يعني أنه يتوقف عن السعي نحو هذا الهدف، بل على العكس من ذلك تماما، إذ عليه أن يسعى ويجرّب ويسلك ويجتهد في بلوغ أقصى ما يمكنه من درجة للكمال، كما أن عليه أن يحقق درجة عالية من الاعتدال والتوازن، حيث يحتاج الاعتدال كمنهج تفكيري وسلوكي، يقوده نحو أهدافه الدنيوية التي يجب أن لا تتضارب مع الأخروية.
بمعنى حين يوظف الإنسان طاقاته المختلفة، الفكرية والعضلية وسواهما، فهو يهدف من وراء ذلك لتحقيق محصّلة دنيوية تجعله أكثر سعادة واحتراما لذاته، لكن هذا السعي الدنيوي يجب أن يكون في إطار الهدف الأخروي، أي لا يتضارب مع ما هو مطلوب من الإنسان كي يكون سعيدا في دنياه وآخرته معا.
كيف يتحقق هذا الهدف الكبير والصعب؟، هنا يأتي دور الاعتدال والتوازن، وهي ما تحلّى بها أئمة أهل البيت عليهم السلام التي ورثوها عن جدّهم الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، لذا من الأهمية بمكان أن يجدّ الإنسان ويسعى ويكدح في دنياه ليس لبلوغ السعادة فيها وحدها، بل لضمان السعادة في الدار الأخرى.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (الطموح في حياة الإنسان والمجتمع):
(على الإنسان الذي يطمح إلى حياة أفضل في الدنيا، وفوز بالجنة والغفران في الآخرة، أن يجدَّ ويسعى، ويجنّد كل طاقاته الذهنية، والبدنية، والزمانية، والمالية، بصورة معتدلة ومتوازنة، في خدمة الهدف المنشود، ويستعين بها على تحقيق كماله، وتوفير سعادته في الدنيا والآخرة).
من الأمور المعروفة حاجة الإنسان للمثل الذي يتعلم منه، ويخطو على خطواته في كل شؤون الحياة، بمعنى يتخذ منه مثالا له، يتعلم منه الصغيرة والكبيرة، ويكتسب منه الخبرات المختلفة في الحياة، لذلك قلّما نجد إنسانا ناجحا دونما نموذج يسير في هدْيه، ويتعلم منه كيفية بلوغ ما يطمح إليه من مرامٍ متعددة.
فقدان الاعتدال يؤدي إلى الخسران
الإمام الشيرازي ينصح كل إنسان يؤمن به، وينظر إليه على أنه عقل ينبض بالخير للإنسانية كلها، وينصح الجميع باتخاذ أئمة أهل البيت عليهم السلام كنموذج يسيرون عليه لبلوغ مرامهم، وهذه الأهداف لا يمكن بلوغها من دون الاعتدال والتوازن في إدارة الحياة وتناقضاتها الكثيرة.
كذلك لا يمكن الابتعاد عن خلق التوازن بين الأشياء المختلفة، ذلك أن أي تخلخل في توازن القرارات والسلوكيات والأفكار، لن يعود على صاحبه إلا بالخسران، كذلك من المحال وجود الاعتدال وتحقيق آثاره على الأرض، ما لم يكن هناك عنصر ملازم له، ونعني به التوازن، أما الالتقاء بين الاثنين (التوازن والاعتدال)، فإنهما سبيل الإنسان نحو الكمال، حتى لو لم يتحقق بالدرجة الأقصى,
من هنا فإن الجميع مطالَبون بالإطلاع الحرفي المستمر على ما تقدمه مدرسة أهل البيت عليهم السلام من دروس كبرى، تربوية، أخلاقية، دينية، دنيوية وأخروية، تمنح الإنسان قدرة هائلة على استثمار عنصريّ الاعتدال والتوازن في دأب الإنسان المتواصل لبلوغ الكمال، وليجرب من يشاء التجريب، ويدرس هذه المدرسة جيدا، ويطبق دروسها في حياته، إنه سوف يقطف ثمار التوازن والاعتدال وينعكس هذا على حياته (الدنيوية)، التي تقوده بدورها إلى محصول أخروي مضمون.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن أفضل مدرسة تربوية تعلمنا طريقة الاعتدال في مزاولة طاقات الإنسان المتنوعة، وتدربنّا على كيفية التوازن في الحياة هي مدرسة أهل البيت؛ إذ أن من خصائص المعصومين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) التي خصّهم الله تعالى بها هي: كونهم أسوة الناس في كل خير وفضيلة، واعتدال وكمال).
قد يتساءل أحدهم أو بعضهم عمّا يمكن أن يقدمه الأئمة المعصومون للناس، وكيف يساعدوهم على بلوغ الأهداف المطمْئِنة؟، أما الإجابة فهي تكمن في الأمور والدروس التربوية والأخلاقية والفعلية أيضا، التي يجدها أيَّ باحث مجدّ عن النجاح بالجمع في الفوز بالدارين (سعادة الدنيا والآخرة)، أما فحوى ما قدمتهُ وتقدمه مدرسة أهل البيت للناس، فهي تبدأ برفع الجانب المعنوي لهم.
تنظيف النفوس من أدرانها
ولن تنتهي عند الدروس الكبيرة الأخرى، ومنها (تنظيف النفوس من أدرانها)، وهو هدف عظيم يمكن أن ينقل الإنسان من الدرك الأسفل إلى أعالي مكارم الأخلاق، لذلك فإن ما يحصل عليه الدارس في مدرسة أئمة أهل البيت عليهم السلام، يقوم على مرتكزين اثنين، الأول رفع معنويات الناس، والثاني تهذيب النفوس، وكلاهما هدفان يسعيان الارتقاء بالإنسان إلى مراتب عليا.
الإمام الشيرازي يوجِز هذه النقطة بقوله:
(لقد أخذ أئمة أهل البيت عليهم السلام على عاتقهم تقوية معنويات الناس، وتهذيب النفوس، وتعليمهم الاعتدال في الحياة اليومية).
أما ما يرشح عن الاعتدال والتوازن من نتائج جيدة تنعكس على المجتمع فهي كثيرة، أهمها أنها تقوي العلاقات الاجتماعية، وتزيد من لحمتها، وتضاعف التآزر الإنساني، لذلك ركزّ الأئمة الأطهار على إظهار الروايات والأحاديث الشريفة التي تُعنى بإنارة السبل أمام الناس على المستوى المادي والمعنوي أيضا.
فضلا عن سيرة الأئمة المعصومين أيضا، وهي تضج بالدروس التربوية التي تفتح للجميع نوافذ العلاقات التكافلية المتوازنة، حيث التعاون يسود الجميع، والتعقّل والمنطقية أيضا تسود بين الناس في إدارة النشاطات الاجتماعية والعملية بمختلف أشكالها، وهو ما نجده في سيرة الأئمة الأطهار، مما يفتح الطريق أمام الناس لكي يستمدوا المعنويات العالية، ويتمسكوا بالاعتدال المادي في سلوكياتهم.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(بيَّن أئمة أهل البيت للناس كثيراً من الأحاديث والروايات الشريفة التي تنير لهم الدرب في مختلف أنحاء الحياة المادية والمعنوية، مضافا إلى سيرتهم الطيبة الكريمة، المفعمة بالمنطقية والتعقل، والاتزّان والاعتدال).
الناس تحتاج إلى التوازن والاعتدال، لكي تضمن بيئة اجتماعية مستقرة ومتعاونة، لكن أصحاب السلطة من الظالمين لا يروق لهم هكذا بيئة مستقرة متوازنة، لذلك يسعى أرباب السلطة الظالمين إلى تدمير الأواصر الاجتماعية، ويقللون من تأثير النور الرباني لأئمة أهل البيت عليهم السلام، فنراهم يسعون إلى إطفائه، لكن فشلوا وسوف يفشلون على مرّ التاريخ.
تظهر معاداة الحكام الظالمين لفكر أهل البيت في الاعتدال والتوازن، من خلال سلسلة القرارات والممنوعات التي اتخذوها على مدى فترات حكمهم، فمنعوا الناس من الأخذ بعلوم أهل البيت عليهم السلام، كما أنهم حجّموا دور المؤرخين في نشر أفكار أهل البيت ومبادئهم التي يخشونها دائما، كونها تنصف الناس وتهدد عروش الحكام الظالمين.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن الظالمين من الحكام وأتباعهم، كأصحاب السقيفة وبني أمية وبني العباس، سعوا في إطفاء النور الرباني لأئمة أهل البيت عليهم السلام، فمنعوا الناس من الأخذ بعلومهم، ومنعوا المؤرخين من تدوين كل ما صدر عنهم من كلمات وسيرة نورانية.. وهذا ظلم كبير في حق جميع الأجيال، وظلم بشع للبشرية بأجمعها).
هكذا هي القيمة العظيمة للاعتدال والتوازن، على مستوى البشرية كلها، ولهذا فإن هذا الدرس التربوي العظيم كان ولا يزال يقع في لب مبادئ وأفكار وسيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام، ويبقى من الأركان الأساسية لبناء المجتمع، مما يتوجب علينا التمسك بسيرتهم العطرة، واعتدالهم وتوازنهم في إدارة العلاقات كافة مع الآخرين.
اضف تعليق