q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

قانون التوازن بين المادي و الروحي

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

ثمة ثنائية أزلية تحكم تفكير الإنسان وسلوكه، وتحدد طموحاته وتدفع نشاطاته في اتجاه معين، تلك الثنائية هي الروح والجسد، وفي ضوء علاقة الإنسان مع هذه الثنائية تتحدد هويته وميوله ونوع شخصيته، فهو إن أوغل في منهج المادة وكرّس نفسه وقدراته لحاجات الجسد ومتطلباته، صار انسانا ماديا بحتا، لا علاقة له بالروح، أو أنه أهملها عن قصد بسبب انشغاله واهتمامه بشهوات الجسد ورغباته الغريزية، علما أن الروح تجاول أن ترتقي بالانسان، ولكن لا ينبغي إلغاء دور الجسد.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (حديث شهر رمضان) حول هذا الموضوع: (إذا كانت الروح تنزع إلى الكمال والارتقاء ـ والتجربة الإنسانية الصاعدة، دلت على مقدرتها على التحليق والارتقاء، فما الذي يصد بعض النّاس عن التطلّع إلى الكرامة الإنسانية، ويدفعهم في المجاهل والمزالق، متخبطين؟!).

وربما يحدث العكس تماما، حيث يهمل الإنسان جسده تماما، ويذهب باتجاه تلبية حاجات الروح فقط، ويوغل في هذا الاتجاه، فيتحول الى كائن لا علاقة له بالواقع ولا تهمه متطلبات الحياة المادية، كالسعي في طلب العلم، والسعي لتطوير نمط العيش والبحث عن الارتقاء في التخطيط والعمل والبناء للمستقبل وما شابه ذلك.

وقد أكد علماء النفس أن ذهاب الانسان الى إحدى الحالتين السابقتين لا ينسجم مع وجوده في الحياة، ولا يتناسب ذلك مع الواقع، إذ تشكل الحالتان نوعا من التطرف في التفكير والسلوك، فعندما يهتم الانسان بالجسد حصرا سوف يخضع الى غرائزه ويتحول الى السلوك الحيواني البحت، واذا اعتمد الاهتمام بالروح فسوف ينعزل عمّا يدور في الواقع ويعيش واقعا فوقيا لا علاقة له بالحياة، وهذا يؤثر على دور الانسان في البناء وما شابه، لذلك يتمثل الحل الصحيح في حالة الموازنة بين الكفتين، فالمادة والروح بعضهما يؤثر في بعض نظرا للتداخل بينهما، لذلك من الأفضل للانسان أن يوازن بين الطرفين.

كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بالكتاب المذكور نفسه: (إنّ الجسم بشهواته ونزواته، هو الذي يسجن الروح الشفافة عن التوثب والانطلاق... لأنَّ الجسم والروح ثقلان متأرجحان، ككفتي ميزان، لا تثقل هذه الكفّة إلاّ عندما تخف الأخرى، ولا ترجّح تلك إلاّ بمقدار ما تبخس هذه).

مخاطر إشباع الشهوات

في تعريفه للجسد يقول احد الكتاب هناك مقولة شائعة في دوائر علوم الطبيعة هي إننا لسنا أجساداً لها أرواح، إننا أرواح لها أجسادً إننا لسنا بشراً أصحاب تجربة روحية، ولكننا أرواح ذات تجربة إنسانية، روحك هي الجوهر، وجسدك هو الشكل أو القميص الذي يتخذه هذا الجوهر مؤقتاً، وسيلة لإنجاز ما جاءت لانجازه في العالم، لذا علينا المحافظة على هذا الجسد لأنه أداتنا الوحيدة للتنقل في العالم ولا احد يستطيع أن يقوم بهذه المهمة غير صاحب الجسد.

ولكن ينبغي ا، لا ننسى أهمية الموازنة بين الاثنين، لأن الانحياز في الاهتمام لأحدهما، سوف يقودنا الى الاختلال والتطرف، وعدم الوضوح في الرؤية والسلوك، فعندما تغلب المادة وتتفوق على الروح، هذا يعني انحدارا نحو الغرائزية او كما يسميها العلماء (السلوك الحيواني)، حيث لا يفكر الانسان في هذه الحالة سوى بإشباع شهواته بأية طريقة كانت، وربما بغض النظر عن كونها مقبولة او مرفوضة، وعندما تتفوق الروح على جسدها فسوف تقصيه وتشل حركته وطموحاته، وفي كلا الحالتين يتعرض الانسان لخسائر كبيرة.

يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (لذلك نجد في النّاس من غلبت عليه مادته، فوهب نفسه لها، لا يفكر إلاّ في إشباع شهواته، كيفما أمكن ذلك الإشباع، فهزلت روحه، وتضاءلت منكودة حاسرة، ومنهم من أصبح محض روح، فسمت وتعالت، بينما انهدّت قواه وتكسر كيانه).

ولا شك أن الانسان الذي يفشل في الموازنة بين متطلبات الروح والجسد، سوف يعيش حياة تنطوي على نوع من الجهل والتطرف، لذلك تبرز الوسطية هنا، ويتضح اسلوب الاعتدال كأفضل حل ينبغي أن يلجأ إليه الانسان لكي يستثمر ثنائية الروح والجسد بأفضل صورة وطريقة ممكنة.

لذلك يتساءل الامام الشيرازي: (فأيُّ الطرفين قد أصاب الحقيقة، وأحرز النجاح الإنساني المنشود؟ لا جرم أنَّ كليهما قد أخطأ الواقع!... فأما من تطوّع للجثمان، وجرى في أعقاب الشهوات، فقد خنق إنسانيته، ولم يزد على بهيمة وحش... وأما من انقاد للروح، فقد هضم حقوق جثمانه، وعطل نظام الكون، ويكون أشبه بمن دخل حديقة غنّاء، ليستغلها وينعم بها، فتوّرع عنها، حتى ذبلت أزهارها، وأقحلت قاعاً تأوي الحشرات والديدان).

الصحيح اذن أن لا ينقاد احد الطرفين للآخر، بل تبرز هنا حالة الانسجام والتعاون بين روح الانسان وجسده، وهذا ما يطلق عليه البعض بالتوازن الروحي والجسدي، وبعض العلماء يؤكدون على أن وصول الانسان الى هذه الدرجة من الانسجام بين الروح والجسد، يشكل حالة توازن مدهشة يحتاجها دائما لكي يعيش حياته بصورة متوازنة.

بين حاجات الروح والجسد

من هنا تبيّن أن الانسان، سوف يضمن حياة مستقرة في الفكر والسلوك، اذا نجح في الموازنة بين الطرفين، ولكن عليه أن يهتم بهما بصورة متوازنة، فالجسد يحتاج الى نظام غذائي صحي جيد ومستمر، لكي ينمو ويستقر ويتوازن، واذا حدث العكس لا يمكن أن تكون حياة الانسان طبيعية، ومثلما يحتاج الجسد الى هذا النظام الغذائي تحتاجه الروح أيضا، ولعل الافكار السليمة والمبادئ والقيم الانسانية النبيلة تقف في مقدمة ما تحتاجه الروح من غذاء، وهذا يمكن ان يوفره الدين الذي يسد حاجة الانسان من الغذاء الروحي السليم.

من هنا نقرأ في هذا الصدد قولا للامام الشيرازي حول هذا الجانب: (إذا كان الجسم يحتاج إلى نظام الصحة، في استيفاء سعادته، فكذلك الروح، تحتاج إلى نظام الدين، في استيفاء نموها الطبيعي، ورشدها المأمول، والظفر بالأماني التي تشرئب إليها).

وهكذا لا يصح اهمال احد طرفيّ هذه الثنائية الازلية التي تقوم بها وعليها حياة الانسان، لأن اهمال أحدهما يؤدي الى فقدان التوازن في رؤية الانسان السليمة للحياة، وسوف يميل مرغما الى احد طرفيّ الثنائية التي ينبغي أن تقوم العلاقة بين طرفيها على الاعتدال والوسطية، وعدم الانحياز الى الروح على حساب الجسد او بالعكس، حيث تكون التبعات مؤسفة، فأما أن يصبح الانسان ميّالا الى التسليم للجسد ورغباته وشهواته، وضغط غرائزه التي لا تتوقف في طلباتها عند حد معين، وأما أن يتحول الى انسان بالقول واللفظ فقط، حيث تنتفي قدرته على المشاركة الفعالة في بناء الحياة.

لأن الانسان الروحي يشبه الانسان ذو الميول الجسدية الغرائزية، كلاهما يصبح عالة على الحياة بسبب عدم قدرته على الانتاج في اي مجال من مجالات الحياة، حيث الانسان الجسدي هو كائن شهواني غير منتج على الدوام، وهو من النوع الذي يأخذ ويستهلك من دون ان يعطي وينتج، اما من يقع تحت سطوة الروح بصورة كليّة، فهو ايضا سوف يكون عاجزا عن تغيير الحياة أو المشاركة فيها بصورة فعالة بسبب اعتزاله للواقع بل الحياة برمّتها.

لهذا ينبغي على الانسان أن يعدل بين طرفيّ هذه الثنائية الأزلية التي رافقته منذ نشوء البشرية والى الآن، بل والى ما يشاء الله تعالى، لذلك ينصح الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال: (إذن فعلينا أنْ نلتمس حاجات الروح والجثمان، فنعدل بينهما، ونوفيهما حقوقهما العادلة).

اضف تعليق