ان الفساد متعدد لكنه لا يختلف من حيث الأذى التدميري الذي يتسبب به للمجتمعات والأفراد، وانطلاقا من هذا الاستنتاج، لا يمكن التغاضي عن مواجهة ذلك، وفق خطط علمية عملية مدروسة ومنتظمة، فلا خلاص من خطر تدمير القيم الأخلاقية إلا من خلال مكافحة الفساد بوسائل وخطط منهجية دائمة وعملية...
للفساد أشكال وأنواع عديدة، هناك الفساد الإداري والسياسي والاجتماعي والوظيفي، لكن أخطر هذه الأنواع الفساد الأخلاقي، لأنه يفتح الأبواب واسعة أمام التدمير المنهجي لقيم وأخلاق وأعراف الفرد والمجتمع، لذلك يتم التركيز من قبل علماء الدين والأخلاقيين على نقطة تربوية تشكل حجر الأساس في بناء المجتمع، ألا وهي ترسيخ الأخلاق وتثبيت حضورها وفاعليتها.
لغرض معرفة تأثير رداءة الأخلاق على المجتمع، لابد من استذكار الحقبة الاستعمارية، واسترجاع الأسلوب الذي اعتمده لتدمير المجتمعات المستعمَرة، فالمعروف عن الحقبة الاستعمارية، أنها اعتمدت الإفساد لجعل أهدافها في السيطرة على الأمم الأخرى ممكنة التحقيق، وهذا هو الأسلوب الذي تقوم عليه خطط ومآرب الاستعمار البريطاني الذي أينما دخل، سارع إلى نشر الفساد الأخلاقي، مثل تشجيع الفساد الجنسي ونشر مواخير البغاء وتشجيع المثلية.
الإصلاح عملية معقدة طويلة الأمد تتطلب الديمومة، فأينما يوجد الإصلاح تجد من يحاربه من أولئك الذين تكمن مصلحتهم المادية، التسلطية، في إضعاف الضمير الأخلاقي الجمعي المتكوّن من حاصل مجموع الأفراد، لذلك لا يمكن الشروع بأية خطوة للقضاء على الفساد أو الحد منه إذا لم نضع حدّا للفساد، لاسيما الأخلاقي منه.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد في كتابه الموسوم بـ (الإصلاح) على أنه:
(من مقومات الإصلاح هو محاربة الفساد بكافة أشكاله، والحد من انتشاره، لأن نشر الفساد بين الأمة يعتبر من أهم موانع الإصلاح).
الغريب حقا أن تمرَّر موجات الفساد تحت أغطية متعددة أخطرها التحجج بالحريات وأولوية حمايتها، فمن العجيب حقاً أن يذهب الإنسان إلى تدمير نفسه بخلط الفكر الشاذ وربطه بمبادئ إنسانية عظيمة، فيخلط بينها وبين المستهجَن من الفكر والسلوك، مثلا دمج الحرية والبغاء في بوتقة واحدة، مع أنهما لا يلتقيان قط من حيث الهدف والنتيجة، فالحرية تقوّم الناس وتزيد من تلاحمهم ووعيهم وتحمي كرامتهم، أما البغاء فإنه لا يمكن تمريره تحت غطاء أو عباءة الحرية.
لذا يرى الإمام الشيرازي:
أن نشر (البغاء باسم الحرية يؤدي الى عواقب اجتماعية وأخلاقية وخيمة: هدم للعوائل وتفكيك وحدة بنائها. إفساد الشباب من البنين والبنات. كثرة الطلاق، والعنوسة بين النساء. القضاء على جمال المرأة بكثرة استعمال المكياج. كثرة الأمراض الجنسية كالإيدز والأمراض الزهرية ونحوها).
الانحلال والتهتك يُفسد ضمير الإنسان
للفساد الأخلاقي نتائج اجتماعية أخلاقية خطيرة، فهو يساعد على إفساد الضمير الجمعي، من خلال نشر الانحلال والتفسخ الذي يسود المجتمع، لذلك لجأ الاستعمار البريطاني الى تدمير الضمير الجمعي بأسلوب التفسخ الأخلاقي، وعندما تصبح الشهوة منطلقا لضمير الإنسان، فإن القيم والأخلاق سوف يضمر وجودها وفاعليتها إلى أدنى المستويات، لهذا أمكن للمستعمرين السيطرة على الدول بعد نشرها للفساد الأخلاقي بين أفرادها.
يذكر الإمام الشيرازي، دلائل تاريخية عن ذلك فيقول:
(إن البريطانيين لما جاءوا إلى العراق قبل قرن، فتحوا في المدن المقدسة مواخير للبغاء، تحت لواء وحماية الحكومة العثمانية، وجعلوا فيها نساء سافرات غير مسلمات، وهكذا عملوا في الهند، وفي كل دولة أرادوا السيطرة عليها، فأخذوا بنشر الفساد فيها).
وتأكيدا لرؤية الإمام الشيرازي، يعمد سماحته إلى اعتماد شخصيات نضالية محترمة، تثق بها الأمم بسبب تاريخها الناصع في سجلات التحرر، ومن هذه الشخصيات القائد الهندي الشهير بصلابته غاندي، فهذا الرجل الذي قاد أمته ضد المستعمر البريطاني، نجح نجاحا باهرا، عندما عبّأ شعبه ضد الفساد الأخلاقي والبغاء الذي عمد البريطانيون الى نشره في عموم الأمة الهندية، ولكن حين تمكن غاندي من حماية الضمير الجمعي من التفسخ والانحلال، فشل البريطانيون فشلا ذريعا، وجرّوا ذيول الخيبة والخسران وراءهم، وبقيت الهند مصانة محررة أرضا وشعبا وتاريخا وإرادة.
حدث هذا لأن القائد النموذج رفض التفسخ، وحمى ضمير الناس من الإصابة بالتفسخ، وصار لهم أسوة وقدوة ونموذجا ساروا على نهجه، فأفشل بذلك جميع المحاولات الماكرة التي سعى البريطانيون الى نشرها كي يسيطروا على الضمير الجمعي ويتحكموا به وفق ما يريدون، ولكن باءت جميع محاولاتهم بالفشل، بعد أن نهض غاندي بالضمير الجمعي للأمة الهندية.
يثبت الإمام الشيرازي ذلك فيقول:
(إن غاندي لما أراد إصلاح الهند وإنقاذها، كان يخالف البغاء والفساد أشد المخالفة، حتى أنه صام سبعة أيام لبغاء إحدى نساء جماعته في - حزب المؤتمر الذي كان يرأسه-، أما اليوم ففي الهند أماكن البغاء موجودة علناً).
تنظيم النشاط الجنسي لحماية المجتمع
التجارب التي تركتها الأجيال السابقة للبشرية لم تذهب سدى، لا شيء يُطمَر في بواطن التاريخ، حتى لو تم طرح السؤال التالي، ما الذي نكسبه من البحث في حقبة الاستعمار التي اندثرت؟، والجواب هو أن الاستعمار العسكري والاحتلال المباشر قد انتهت حقبته، ولكن هناك أشكال أخرى للاستعمار بالإضافة إلى أهمية الاستفادة من تجارب التاريخ لتحسين الواقع، لذلك فإن قادتنا السياسيين اليوم مطالَبون بوضع السبل الناجعة لمنع إفساد القيم والأخلاق.
الخطوة الأهم تكمن في تعميق المضادات الأخلاقية للانحراف، وفتح السبل الواسعة والمنتظمة لحملات الإصلاح العملية، ومكافحة الحملات الخبيثة المخططة التي تستهدف تمرير البغاء وتدمير الأخلاق بأغطية الحريات، وهو مشروع قديم جديد لابد من الحذر منه والتنبّه له دائما وفي كل حين، وعدم الرضوخ لتكرار المحاولات التي تستهدف اختراق البنية الأخلاقية للمجتمع.
الإمام الشيرازي نبّه الجميع على خطورة هذا المرض الأخلاقي فقال:
(يجب حظر البغاء من قبل الدول والحكومات، وأن يكتفي الإنسان بالزواج الشرعي وفي الإطار الإنساني الجميل الذي قرره الله عزّ وجل).
الإنسان جُبِل منذ لحظة ولادته على رفض الفساد والإفساد، والنظر إليهما على أنهما من المعاول الشرسة التي تسعى لتهديم البنيان المجتمعي، من خلال نشر التفسخ والانحلال بين شرائح ومكونات المجتمع، وهو ذات الأسلوب الذي اعتمده المستعمرون للسيطرة على الأمم والشعوب الأخرى ونهب خيراتها وثرواتها بعد إلهائها بالبغاء والفساد بمختلف أنواعه.
تقع على قادة النخب لاسيما الاجتماعية والدينية والثقافية محاربة ظواهر الفساد التي تضرب خطوات الإصلاح في الصميم، والإبقاء على الفرد ومن ثم المجتمع مهزوزا ضعيفا منشغلا بملذاته وشهواته، تاركا المبادئ والثقافة التي تحصِّنهُ من الوقوع في فخاخ الفساد والإفساد، ومن الخطوات المهمة لردع هذا الخلل، اتخاذ الحكومات خطوات جذرية لمنع البغاء ومظاهر الفساد عبر وسائل التثقيف والإقناع، مع استخدام التشريعات القانونية التي تحد من ذلك.
معروف عن فطرة البشر أنها لا تستسيغ الفساد والبغاء كونه لا يتسق مع ما ترتضيه السجايا البشرية، لذلك على من يهمه الأمر أن يقتلع جميع مظاهر الفساد والإفساد، كما يسعى الأحرار الثوريون لاقتلاع الدكتاتورية من جذورها، فهناك تشابه وتداخل وتقارب بين الطغيان والفساد، ولا نخطئ إذا قلنا أينما وُجدت الدكتاتورية وُجد الفساد بكل أشكاله.
يقول الإمام الشيرازي: (إن فطرة الإنسان وعقله تخالف الفساد، وكما أن عقلاء العالم سعوا في إيجاد التعددية ونفي الديكتاتورية عن بلادهم حتى أقلعوها بنسبة أو أخرى، فاللازم أن يحولوا دون إباحة الفوضى الجنسية ونشر المفاسد الأخلاقية).
يتّضح مما سبق قوله، أن الفساد متعدد لكنه لا يختلف من حيث الأذى التدميري الذي يتسبب به للمجتمعات والأفراد، وانطلاقا من هذا الاستنتاج، لا يمكن التغاضي عن مواجهة ذلك، وفق خطط علمية عملية مدروسة ومنتظمة، فلا خلاص من خطر تدمير القيم الأخلاقية إلا من خلال مكافحة الفساد بوسائل وخطط منهجية دائمة وعملية.
اضف تعليق