عاصر الامام الشيرازي احداثاً سياسية وثقافية وتقلبات فكرية واجتماعية مهمة، كان فيها الملاذ الامن وصاحب الصوت المميز والرسالة الواضحة للجميع، وقد عانى من اضطهاد ومطاردة وتهجير الحكومات الاستبدادية التي رفضت صوت العقل والمنطق، وحكم عليه بالإعدام، لم يستسلم ولم يهادن او يجامل على حساب الحق...
ان أصحاب المبادئ العليا والاهداف السامية يقضون جل حياتهم في سبيل تحقيق ما يصبون اليه في اسعاد البشرية من دون ان تصيبهم لحظة ضعف او تراجع عن الوصول الى غاياتهم الانسانية حتى تحقيقها او انتهاء العمر دونها، ليكمل الآخرون ممن تربوا على أيديهم ونهلوا من علومهم المسيرة والدرب، يقول الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الأحزاب:23.
هؤلاء هم العظماء الذين صنعوا ومازالوا يصنعون التاريخ لنا وللأجيال القادمة لأنهم قدموا بعطائهم الفريد دروس وتجارب وشواهد لا يمكن محوها او طمس اثارها، هؤلاء لم يكن لهم مصلحة خاصة بهم او هدف شخصي يسعون لتحقيقه، من اجل نيل الشهرة او السمعة او الوجاهة، وانما جل هدفهم هو إيصال البشرية الى الكمال والسعادة والسلام والرفاه، وهي أمور لا يمكن تحقيقها تحت نير الاستبداد والعنف والفقر والجهل والجوع والمرض والحرب.
وحين نستذكر عظماء التاريخ البشري وما قدموه من خدمات كبيرة لكل المجتمعات الإنسانية، لا يمكن ان نستذكرهم من دون الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) وما قدمه من عطاء لا ينضب معينه، وكيف استطاع بهمته العالية وشخصيته الفذة وعلمه واخلاقه واجتهاده ان يقدم مشروعاً حضارياً اسلامياً متكاملاً لا تقتصر اهدافه وغاياته على المسلمين فقط، وانما انطلق من روح الإسلام وأهدافه الإنسانية نحو اسعاد كل البشرية من خلال:
1. نبذ العنف بكل اشكاله وصوره من خلال تطوير نظرية اللاعنف الخاصة بسماحته.
2. ترجيح السلم والسلام في كل التعاملات وجعلها الأساس والمنطلق وأسلوب الحياة.
3. كان رائداً في وضع نظريات مهمة كالشورى والتعددية والاخوة والأمة الواحدة.
4. محاربة الأنظمة الاستبدادية ومقارعة الدكتاتورية والظلم ودعوة الشعوب الى نبذ الاستعباد والتحرر من قيوده.
5. شكل حركة ثقافية مهمة داخل المجتمعات التي تواجد فيها وفي غيرها عبر تلاميذه ومن تأثر بأفكاره عبر تأليف الكتب وإقامة المؤسسات الثقافية ومراكز الدراسات والبحوث، وقد ألف بنفسه أكثر من ألف كتاب في مختلف العلوم الإسلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
6. اهتم بإنشاء المؤسسات الخيرية لرعاية الايتام والفقراء والمعوزين في العديد من دول العالم (تجاوز عددها المئات) وما زالت هذه المؤسسات تقدم خدماتها الى الناس المحتاجين اليها.
يقول نجله آية الله السيد مرتضى الشيرازي عن الامام الراحل: "انه كان رائدا للإصلاح وجسد لنا مدرسة فكرية نظرية وعلمية متكاملة وكان رائد المسيرة الإصلاحية طوال أكثر من نصف قرن، كان يدعو إلى السلم وكان يدعو إلى شورى الفقهاء، ويدعو إلى التعددية ويدعو إلى سعة الصدر ويدعو إلى الحرية ويتحدث ويكتب عن طريقة التعامل مع المعارضة وعن كل قضية تهم الإنسان شيخا كان آم شابا رجلا آو امرأة وقد خلف من التراث في هذا الحقل الشيء الكثير الكثير".
اما الشيخ حسن الصفار قال في حقه: "لقد أنجبته عائله علمية جهادية عريقة وتربى في اجواء الفضيلة والتقوى حتى اصبح من ابرز مراجع الدين في هذا العصر وامتاز بعلميته الواسعة وإنتاجه الغزير في مختلف ميادين المعرفة، حتى تجاوزت مؤلفاته رقم الالف كتاب، وهو رقم قياسي في تاريخ الكتابة والتأليف وهو رائد ومؤسس خط جهادي اصيل يتبنى الدعوة الى الله والعمل لإنقاذ الامة عبر برامج التوعية والتربية والتغيير الاجتماعي، والاساليب الحضارية بعيداً عن وسائل العنف والتطرف، وكان قمة في التحلي بمكارم الاخلاق يتسع صدره لجميع الناس ويحترم الرأي الآخر ويغضي عن السيئة ويقابلها بالإحسان كما هي سيرة اسلافه واجداده من اهل البيت عليهم السلام ولقد قضى حياته منذ نعومة اضفاره والى ان اختاره الله الى جواره في خدمة الاسلام والامة دون كلل او ملل متحملا صنوف الاذى والمعاناة بثبات وصبر عظيم".
لقد عاصر الامام الشيرازي احداثاً سياسية وثقافية وتقلبات فكرية واجتماعية مهمة، كان فيها الملاذ الامن وصاحب الصوت المميز والرسالة الواضحة للجميع، وقد عانى من اضطهاد ومطاردة وتهجير الحكومات الاستبدادية التي رفضت صوت العقل والمنطق، وحكم عليه بالإعدام، واغتيل أخيه الشهيد اية الله السيد حسن الشيرازي، لكنه لم يستسلم ولم يهادن او يجامل على حساب الحق حتى أواخر حياته المباركة، وقد لخص هذا الصمود ما كتبه الشيخ مرتضى معاش حول الإمام الراحل قائلا: "إن الإمام الشيرازي الراحل هو إرادة فذة اخترقت قيود التاريخ المفروض ان يكتب لنفسه تاريخا مميزا ومختلفا تكاملت فيه كل صفات الإنسان الحر والمؤمن والمجاهد في زمن كان كل شيء فيه يسير ضده ويتآمر عليه ويخطط للقضاء عليه، لقد كان تاريخه معركة حامية خاضها بقوة التحمل والصبر والاستقامة دون إن تستثيره نوازع الغضب والانتقام الضعيف فربح معركة التاريخ عندما رحل شامخا لم يرض بالذل والعبودية ولم يستسلم لأهواء الصفقات والمساومة والانتهازية".
لم يترك الامام الشيرازي مجالاً من مجالات المعرفة الا وطرق ابوابه وكان من المميزين فيه، وكان سعيه في هذا المجال يهدف الى تسهيل المعرفة وجعلها في متناول الجميع، وشكل بمفرده حركة ثقافية مهمة امتدت آثارها الى وقتنا الحاضر، كما اهتم كثيراً بالإعلام، وطور من وسائله وادواته في محاولة لمجابهة الاعلام النمطي الذي يرسم صوراً مسبقة في عقل وعاطفة المتلقي لا تقوم على أساس ما يريده المستبدون والحكام، واهتم ايضاً بالشباب، وخصص جل وقته لرعايتهم وتسليحهم بالثقافة والمعرفة والوعي، واعتبرهم قادة المستقبل وحجر الزاوية الذي تنهض بها الشعوب وتتطور، وكان يؤمن بان الانسان يجب ان يتحرك ويسعى ويقدم العطاء ما دام فيه النفس، وان الانسان الحركي افضل من الانسان الجامد او الميت وهو على قيد الحياة، لذلك لم يستسلم لضغوطات الزمن، واستمر في العطاء حتى آخر يوم في عمره الشريف.
اضف تعليق