في كل عام نستذكر وفاة المرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي –طاب ثراه- في الثاني من شهر شوال المكرم، ونسترجع ما عشناه مع هذه الشخصية الفذّة والنادرة، وما قرأناه من مؤلفاته وافكاره واطروحاته، وما خبرناه من مشاريعه النهضوية والتنموية والانسانية التي بدأها في سنين مبكرة من حياته في كربلاء...
"إن هَا هُنا لعلماً جمّاً لو أصبت حَمَلَة".
أمير المؤمنين، عليه السلام، وهو يشير الى صدره الشريف.
في كل عام نستذكر وفاة المرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي –طاب ثراه- في الثاني من شهر شوال المكرم، ونسترجع ما عشناه مع هذه الشخصية الفذّة والنادرة، وما قرأناه من مؤلفاته وافكاره واطروحاته، وما خبرناه من مشاريعه النهضوية والتنموية والانسانية التي بدأها في سنين مبكرة من حياته في كربلاء المقدسة، ثم انتشرت الى مختلف بقاع العالم.
إنما العِبرة في تحول تلكم الافكار والمشاريع الى واقع ملموس على الأرض، وإلا فان البلاد الاسلامية شهدت ظهور منظرين ومفكرين رسموا طريق الاستقلال، والحرية، وبناء الذات، ثم رحلوا عن هذه الحياة وبقيت افكارهم حبيسة الكتب والمكتبات، فيما بقيت الشعوب تعيش واقع الديكتاتورية، والتبعية، والتخلف، والحرمان، بل وتراجع القيم الاخلاقية والدينية.
تميّز سماحة الامام الشيرازي –بإقرار العلماء والمفكرين في زمانه- باكتشافه المبكّر للاسباب والعلل الحقيقية لما تعيشه الأمة من ويلات وأزمات، بل و اكتشف ايضاً قواعد الانطلاق والرقي، مستنداً الى القرآن الكريم وسيرة المعصومين، عليهم السلام، فكانت الرؤية دقيقة، والتشخيص صائب ومنطقي عندما تحدث عن ابتعاد الامة عن الايمان والاخلاق والسلم لتقبل بالديكتاتورية وبالحكام الذين يسومونها سوء العذاب. ولكن!
دخل في روع البعض ضخامة القدرات لدى أنظمة سياسية مثل نظام حزب البعث في العراق، او انظمة الحكم في الخليج، وأن من الصعب تصور اهتزازها بكلمات وافكار وكتب، فضلاً عن الاطاحة بها بدعوى "الواقع السياسي"، وفي مرحلة لاحقة، وعندما صار الحديث عما بعد الاطاحة بنظام صدام طرح سماحة الامام الشيرازي فكرة العفو العام في العراق في كتابه القيّم: "اذا قام الإسلام في العراق" والصادر عام 1984، ويقدم سماحته عدة خطوات للنجاح في تحقيق هذا الهدف المنشود في الميادين؛ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فهو على معرفة تامة بعمق الجراح التي سببها نظام صدام منذ اسيتلائه على الحكم، لاسيما بعد صعود صدام الى قمة السلطة عام 1979، وإشاعته ثقافة الدم والعنف والقسوة بين الناس، أوحى "البعض" باستحالة تحقيق هذه الخطوات بدعوى "الواقع الاجتماعي".
سماحته عدد فوائد العفو العام في الحال الحاضر وعلى المدى البعيد لمن يتسلمون الحكم بعد صدام منها: أنه "يسبب اطمئنان الناس بالحكومة الجديدة مما يؤدي الى تعاونهم معها، وهذا يعني انتشار الامن والاستقرار"، كما يكشف عن مساوئ تجاهل العفو والخوض في حملات الانتقام وتصفية الحسابات في عواقب وخيمة منها: "أن القتل والملاحقة لا تبقى في دائرة خاصة بل تتعداها الى دوائر أوسع، كما ان عدم العفو ومصادرة الاموال يوجبان تكوين الاعداء، وايضاً يوجب تأليب الاعلام في سائر البلاد على الحكومة الفتية مما يسبب فقدان شوكتها وضياع سمعتها".
كل ما توقعه الامام الشيرازي –وهو في قم المقدسة- وقبل حوالي عشرين سنة من الاطاحة بصدام، حصل على أرض الواقع، وحصلت معه أخطاء كارثية سقط فيها النظام الجديد، وأوقع الشعب العراقي في بحر من الدماء والخسائر الفادحة، بالمقابل لم يظهر شخصٌ له العزيمة والارادة الحديدية لتطبيق تلكم الافكار والرؤى على الواقع العراقي.
من كان يبحث عنهم أمير المؤمنين (الحَمَلَة)، وهم اليوم يتمثلون بالشريحة المثقفة، لم يقربوا الواقع السياسي والواقع الاجتماعي الى القيم والمبادئ السامية التي عرفوا جيداً أنها كانت اساس قيام الحضارة الاسلامية على يد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بل قلبوا الأمر تماماً؛ و جعلوا هذه القيم والمبادئ جسراً يعبرون عليه صوب الامتيازات والمناصب والاموال تاركين الشعب يتصرف وفق ما تملي عليه عواطفه ومشاعره المشحونة بالذكريات المرّة، والمشاهد المؤلمة من قتل للأعزاء، وانتهاك للاعراض، وسلب ونهب وأعمال وحشية من الصعب غضّ الطرف عنها، هذا اذا لم نقل أن ثقافة الانتقام والعنف كانت –بشكل او بآخر- جسراً آخر للوصول الى مراقي السلطة، بفضل الاصطفاف الطائفي المسنود بالمحاصصة الطائفية والسياسية.
العراق، البلد الوحيد بين الدول العربية والاسلامية كان يخوض تجربته ويتغربل على صفيح ساخن لوحده امام المفترجين في العالم، كيف ينزف دماً ويتمزق و يتذوق مرارة العيش بسبب تجاهل لغة المنطق والحكمة والعقل. بيد أنه ليس البلد الوحيد في طريق تجربة "الديمقراطية المستوردة"، وقد كشفت الايام أن دول عدّة على الطريق، أبرزها اليمن والبحرين، وهما من الدول المبتلاة برياح "الربيع العربي"، وماتزال تعيشان مخاض التغيير الشامل، فمن المرجح جداً ان تشهدا ما حصل في العراق بعد الاطاحة بنظام صدام ما لم يرتقيا الى مستوى الحكمة والعقل، والابتعاد عن لغة العواطف، والتعلم من العلماء والحكماء من أمثال الامام الشيرازي التطلّع الى الأفق البعيد وقراءة المستقبل.
كتبت مراراً عن البحرين تحديداً، وأنها تمثل اليوم التجربة الثورية النقية من الشوائب السياسية لشعب ثائر ومظلوم يطالب بحقوقه المشروعة والسليبة من نظام حكم طائفي، وأعظم ما ينجزه ابناء البحرين، ليس فقط مواصلة الضغوط على النظام الحاكم في المنامة لتحقيق مطالبه، وإنما في الحذر من الانزلاق في مستنقع الدم الذي يريده حكام المنامة انفسهم وأطراف اخرى معنية بمستقبل هذا البلد.
وكما تنبأ الامام الشيرازي –طاب ثراه- منذ عقود من الزمن؛ أن السلم والاستقرار والتسامح والتعاون وسائر المفردات الايجابية والمفيدة لكيان المجتمع، تفيد جماهير الشعب، بينما يبحث الحكام المستبدون وأهل السلطة عن الدماء والعنف لانه الوحيد الذي يضمن مصالحهم.
اضف تعليق