الثقافة لجميع الشرائح الاجتماعية، والتوعية الثقافية يجب أن تشمل الجميع شعار رفعه السيد الشيرازي بنفسه، وطبقه عملياً، فقد كتب لجميع الفئات والمستويات الاجتماعية، فكما كتب للنخبة كتباً تخصصية في الفقه والأصول، كتب لغيرهم أيضاً، وكما كتب للفئات المثقفة كتب للناشئين من الجيل الجديد، وكما خاطب الرجال خاطب النساء...
تعد القراءة من أهم الوسائل للارتقاء العقلي، والإثراء العلمي والفكري والمعرفي، والاطلاع على أفكار وآراء وتجارب ومنجزات العقل البشري عبر التاريخ.
والقراءة تضيء العقل، وتطور الشخصية، وتثري الفكر، وتحفز التفكير، وتصقل المواهب، وتنمي القدرات، وتقوي الثقة بالنفس، وتوسع الأفق، وتجدد الأفكار، وتغير القناعات، وتزيد من المخزون العلمي عند الإنسان.
وقد عرف الإنسان القراءة منذ القدم، وهي تعتبر الفاصلة بين عصر ما قبل التاريخ، وعصر التاريخ، حيث بدأ تدوين (عصر التاريخ) باستعمال الإنسان الكتابة وممارسة القراءة، ومن هنا فتاريخ الإنسانية مقرون بتاريخ ظهور القلم والخط، وتعلم القراءة والكتابة.
وقد أولى الإسلام عناية خاصة بالقراءة، فأول آية نزلت في القرآن الكريم كانت كلمة ﴿اقْرَأْ﴾ في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿96/1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿96/2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿96/3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿96/4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[1]، وفي هذه الآيات الشريفة دلالة عميقة وإشارة كبيرة إلى أهمية القراءة في الارتقاء بالإنسان والمجتمع، وصناعة التقدم العلمي والحضاري للأمة.
وقد عُرِف المرجع الديني الراحل السيد محمد مهدي الحسيني الشيرازي (1347هـ - 1422هـ) بشغفه الشديد للقراءة والمطالعة، وحبه العميق للكتاب، ومتابعته للإصدارات الجديدة والحديثة التي تنشرها دور النشر والتوزيع.
وكان أفضل هدية تقدم له هو كتاب، ويوصي دائماً أصدقاءه بجلب الكتاب الجديد إليه، وإذا ما سأله أحد من المقربين إليه إن كان يحتاج إلى شيء معين، فيجيبه: أحتاج إلى الكتب الجديدة، وربما أوصى بكتب معينة يريدها.
وأتذكر أنه في إحدى المرات كنتُ قد أتيتُ له ببعض الكتب من أحد الأصدقاء، وكان من ضمنها كتاب (نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين) لكاتبه المغربي عبد الإله بلقزيز، وكان قد صدر حديثاً في وقته، فقال لي: قد قرأته!
ويكشف هذا الأمر عن شغف السيد الشيرازي بالقراءة، ومدى اهتمامه بالكتاب الجديد، وحبه للاطلاع على كل جديد في عالم الكتب والإصدارات الحديثة فضلاً عن القديمة، ومتابعته الدقيقة للحركة الثقافية والعلمية.
ولذلك جاءت مؤلفاته ومصنفاته التي خطّها بيراعه المبارك متنوعة في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية والانسانية، ولم تقتصر مؤلفاته على الكتب التخصيصية الحوزوية والدينية؛ بل شملت الكثير من العلوم الحديثة كالاقتصاد والاجتماع والسياسة والتاريخ والإعلام والبيئة وقضايا الفكر المعاصر.
وكان (قدس سره) كثير القراءة والمتابعة لما تنتجه دور النشر من إصدارات جديدة وحديثة، ولذلك نجد أن قسماً من مؤلفاته تغطي الحاجات الجديدة في زمانه، فعندما أصبح حديث المثقفين والكُتّاب عن مسألة العولمة وتأثيراتها، صدر له كتاب (فقه العولمة)، وعندما أصبح للإعلام دور كبير في توجيه الرأي العام، وبدأت القنوات التليفزيونية بالبث الفضائي صدر له أكثر من كتاب حول الإعلام ودوره في توجيه الناس ككتاب (الرأي العام والإعلام)، وعندما زاد الحديث عن قضايا المستقبل وأهمية الاعداد له صدر له كتاب بعنوان: (فقه المستقبل)، ونظراً لأهمية النظافة في حياة المجتمعات والأفراد كتب كتاباً عن النظافة من جميع أبعادها بعنوان (كتاب النظافة)، وعندما أصبح العالم يتحدث عن أهمية المحافظة على البيئة بجميع تشعباتها صدر له كتاب (فقه البيئة) وغيرها من العناوين الحديثة التي تدل على وعيه وثقافته الموسوعية والمتميزة، ومتابعته الدقيقة لكل جديد في عالم الثقافة والفكر في زمانه وعصره.
إن كثرة إنتاج السيد الشيرازي للمؤلفات المتنوعة يدل دلالة واضحة على كثرة قراءاته وتنوعها، واطلاعه الدائم على ما يصدر من كتب ومصنفات ومجلات علمية وغيرها.
فالكاتب الجيد والمبدع يحتاج إلى نهمٍ في القراءة، كي يصقل موهبته الأدبية، ويثري مفرداته اللغوية، ويتزود بالكثير من المعلومات الجديدة والنافعة.
وعندما يطلع المرء على ببليوجرافيا آثار السيد الشيرازي يتأكد أنه كان كثير القراءة، واسع المعرفة، متعدد الأبعاد، موسوعي الثقافة.
التشجيع على الكتابة والقراءة
كان السيد الشيرازي (رحمه الله) دائم التشجيع والتشويق على العمل الديني والنشاط الثقافي والعلمي، فكل من يزوره من العلماء والطلبة يشجعهم على إتقان الخطابة والكتابة ويقول لهم: عليكم بالبيان والبنان، باللسان (الخطابة) والقلم (الكتابة).
وأتذكر أنه في عام 1414هـ-1993م أرسلتُ له نسخة من كتابي (الصعود إلى القمة) مع أحد المسافرين، وما إن تسلمه منه وتصفحه حتى أخذ ورقة وقلماً وكتب رسالة إليّ تشجيعية يحثني فيها على مواصلة التأليف والتصنيف، ويتمنى أن أؤلف ألف كتاب أو أكثر؛ وكان لرسالته أثر قوي ومحفز في مواصلة طريق التأليف والكتابة.
وقد لمس منه الجميع هذه الصفة المحفزة، وهي التشجيع على الكتابة والخطابة، والحث على القراءة والمطالعة، وتأسيس المؤسسات الثقافية والاجتماعية، وإنشاء المكتبات العامة، وخدمة الناس، ونشر الإسلام، وتعريف العالم بأئمة أهل البيت الأطهار.
الثقافة للجميع
الثقافة لجميع الشرائح الاجتماعية، والتوعية الثقافية يجب أن تشمل الجميع... شعار رفعه السيد الشيرازي بنفسه، وطبقه عملياً، فقد كتب لجميع الفئات والمستويات الاجتماعية، فكما كتب للنخبة كتباً تخصصية في الفقه والأصول، كتب لغيرهم أيضاً، وكما كتب للفئات المثقفة كتب للناشئين من الجيل الجديد، وكما خاطب الرجال خاطب النساء أيضاً.
وكان مكتبه مكاناً لتوزيع الكتب مجاناً على الزائرين، فكل من كان يزوره لا يخرج إلا وبيديه بعض الكتب المهداة إليه من المرجع الشيرازي، بل وكان يشجع تلامذته وأتباعه على توزيع الكتب بكثافة على الجميع لحث الناس على القراءة والاطلاع.
وترتكز فلسفة السيد الشيرازي في ذلك على أنه يجب إيصال الثقافة والفكر إلى كل الناس، فالتغيير الجوهري يبدأ من التغيير الثقافي الذي هو مقدمة لأي تغيير اجتماعي عميق وحقيقي في الأمة.
وكان يدعو (قدس سره) إلى ترجمة الكتاب الإسلامي بمختلف اللغات الحية، وإيصالها إلى كل شعوب العالم، وكان يحث الجميع على الكتابة والخطابة؛ لأنهما من أهم الوسائل في نشر الثقافة والفكر بين الناس.
وقد كان لهذا التوجيه والإرشاد الذي مارسه السيد الشيرازي بين أتباعه وتلامذته ومريديه أثره الفاعل، حيث كان لمدرسته قصب السبق في إيجاد تموجات فكرية وثقافية في المجتمع، ولا تزال آثار تلك التموجات الثقافية موجودة وملموسة؛ بل يمكن القول ـ وباعتراف الكثير من المنصفين ـ أن مدرسة السيد الشيرازي هي أنشط جماعة في المجال الفكري والثقافي، وخصوصاً في منطقة الخليج... وذلك بفضل جهود السيد الشيرازي، وحثه المتواصل على ذلك.
لقد كان السيد الشيرازي مهموماً بالكتاب والتأليف، ونشر الوعي الثقافي، وبسط العلم والمعرفة، ومعالجة الإشكاليات المعرفية والثقافية والدينية، ومواجهة التيارات الفكرية الفاسدة بالفكر الإسلامي الأصيل.
الخلاصة
إن السيد الشيرازي كان أنموذجاً متميزاً في القراءة والتأليف، وعنده عشق لا يوصف بالكتاب، فكثيراً ما يشير في محاضراته وكتبه إلى أنه قرأ في الكتاب الفلاني، أو المجلة الفلانية، أو الصحيفة الفلانية... مما يدل على مطالعته المتنوعة للكتب والمجلات المختلفة.
وكان لحثه وتشجيعه على القراءة والكتابة أثر كبير ودافع محفز في دفع مجموعة من الشباب المثقف وطلاب العلوم الدينية إلى إتقان مهارة الكتابة، وتأليف الكتب النافعة والمفيدة في مختلف العلوم والمعارف.
ولأن القراءة المنهجية تعد مصدراً ومفتاحاً للعلم، لا غنى للباحث عن العلم والحقيقة من القراءة الجادة، فكلما قرأ المرء أكثر اكتسب من العلوم والمعارف والحقائق ما فيه إثراء وإغناء لفكره وثقافته، وزيادة لوعيه ونضجه العقلي، وقد قام السيد الشيرازي بنفسه بتأسيس العديد من المكتبات العامة، ومن أشهرها مكتبة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بالكويت، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم يؤومها أهل العلم والمعرفة وعشاق القراءة والمطالعة.
وكان (رحمه الله) يحث أصحابه وأتباعه على تأسيس المكتبات العامة في كل مكان، من أجل التشجيع على القراءة والمطالعة، فالإنسان دائم القراءة تنفتح أمامه الكثير من الآفاق الجديدة في العلوم والتجارب، والنظريات العلمية والثقافية والمعرفية.
والقارئ للكتب يتنزه في عقول الآخرين، ويتجول بين أفكارهم وآرائهم ونظرياتهم، ويقرأ خلاصة ما كتبه أهل الرأي والعلم والفكر.
والإنسان الذي يطمح للإبداع والابتكار والاختراع عليه أن يقرأ الكثير من تجارب من سبقه، وأفكار من تقدمه من أهل العلم والتجربة؛ حتى يبدع ويبتكر نظريات وأفكار جديدة ومفيدة للبشرية.
وهكذا كان السيد الشيرازي (رحمه الله)، فقد قدّم للأمة الكثير من الأفكار والنظريات والرؤى العلمية والفكرية والثقافية، وخلّف تراثاً ضخماً من المؤلفات والمصنفات المتنوعة، وترك مخزوناً علمياً مفيداً ونافعاً للأمة الإسلامية.
اضف تعليق