كلّما سعى الإنسان الى اكتناز المعرفة والعلوم، كان أقرب إلى الاكتمال والتميّز عن غيره، فمن يعرف ليس كمن يجهل الأشياء والأمور بمختلف مسمياتها، لذلك تتحول المعرفة لدى الإنسان إلى أدوات تعينه على الاختلاف والتميّز، فالعلم والمعرفة خارطة طريق الإنسان كي يصبح عظيما، أما الجهل فلا يمنح صاحبه سوى...
(العِلْمُ صديق لا يخون) الإمام الشيرازي
كلّنا نأتي هذه الحياة على شكل صحائف بيضاء، ليس فيها لا حروف ولا كلمات ولا أفعال، ومع مرور الأيام والشهور والسنوات، يبدأ الطفل الساكن في أعماق الإنسان بتلقي المعلومات، على شكل أصوات أو صور أو أحداث، جلّها يبدأ في حاضنة صغيرة هي العائلة، أو البيئة الاجتماعية الأصغر، من هذه البيئة تتشكل شخصية الإنسان، وأفكاره ومعتقداته ومعارفه، وفي ضوئها تتسق طبيعته وسلوكه.
كلّما سعى الإنسان الى اكتناز المعرفة والعلوم، كان أقرب إلى الاكتمال والتميّز عن غيره، فمن يعرف ليس كمن يجهل الأشياء والأمور بمختلف مسمياتها، لذلك تتحول المعرفة لدى الإنسان إلى أدوات تعينه على الاختلاف والتميّز، فالعلم والمعرفة خارطة طريق الإنسان كي يصبح عظيما، أما الجهل فلا يمنح صاحبه سوى الانحطاط والرداءة والخسران.
إذاً أولى البوادر التي تجعل من الإنسان سائراً في طريقه إلى العَظَمة، هي معرفة العلوم، والاغتراف من مناهلها، لكن نهل العلوم وزيادة المعرف وحدها، لن تصنع إنساناً عظيما، هنالك ركن أو ركيزة مساعدة أخرى، لابد من توافرها لدى من يروم بلوغ منصة العظماء، هذه الركيزة هي الأخلاق، فلا فائدة من العلم دون أن يُغلَّف بالأخلاق التي تحميه من الانحراف.
هناك علوم يمكن استخدامها ضد الإنسانية، وهناك من يبرع في هذا النوع من العلوم، لكنها تصطف إلى جانب الظلم والاستبداد، وتساعد الأشرار على تنفيذ مآربهم المناهضة للإنسانية، فهل هذه العلوم التي توضع تحت تصرف الأشرار، تستحق أن ينهل منها الإنسان؟ كلا بالطبع، لأن العلم والمعرفة يجب أن توضع في خدمة الإنسانية وتطورها، وليس في خدمة المستبدين ووحشيتهم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يختصر اقتران العلم بالأخلاق في بضع كلمات، فيقول: (عظَمة العالِم بقدر علمه وأخلاقه).
إذ لا فائدة من علم بلا منظومة أخلاقية داعمة وحامية وموجّهة له، ولا فائدة من عالِم غير خلوق، فالشرط الأول والأهم بالعلم واكتساب المعارف المختلفة هو توظيفها أخلاقيا لخدمة لصالح الناس، لاسيما أن البشرية تزداد نفوسها يوما بعد آخر، وتتضاعف تعقيداتها، وتتغوّل مشاكلها، وكل هذا يستوجب زيادة في العلوم والمعارف من أجل الحلول، لكن الشرط الأخلاقي يتقدم على كل شيء.
البون الشاسع بين النقد والتشهير
مما يثير الغرابة أن هناك من لا يعجبه العجب، فنراه ينتقد هذا ويسيء لذاك، والانتقاد هنا ليس للتقويم وإنما للتسقيط، وأكثر من يتعرض لمثل هذه الضغوط والإساءة غير المبرّرة، هم العلماء بسبب تميزهم بالمعرفة والابتكار، لذلك نجد أن العالِم غالبا ما يكون تحت مطرقة النقد غير البنّاء، وهذا يستدعي منه أن يحمي نفسه من التشهير وما شابه من خلال الاحتماء بالعلم والمعرفة.
وقد يتعرض أناس من عامة المجتمع إلى هذا النوع من الهجوم، بمعنى أن كل إنسان يسعى للنجاح في مجال معين، يمكن أن يكون عرضة للنقد المسيء والتشهير وتدمير السمعة، أما الأسباب فإنها تكمن في طبيعة النفس البشرية التي لا تحب أن يفوقها شخص آخر، فتذهب إلى تدميره بكل السبل، لاسيما إذا كان محيط النشاط أو العمل متشابها أو متقاربا.
هناك من يطالب بأن تكون المنافسة الشريفة هي الميدان للتباري بين الأفكار والعقول والأنشطة المختلفة، لكن هناك في المقابل من لا يروق له المنافسة المتكافئة الشريفة، فيذهب إلى وسائل وأدوات أخرى كي يحطم بها منافسه، أو الشخص الذي يزاحمه في هذا المجال أو ذاك!!
من هنا يرى الإمام الشيرازي أن الحل في التخلّص من هؤلاء المسيئين، يكمن في تعليم النفس أكثر فأكثر، بمعنى كلما زادت النفس علما، صارت أكثر قدرة على الإفلات من التسقيط والإساءات التي لا تقوم على مبدأ المنافسة الشريفة، فالمطلوب دائما هو أن تكون ذا عقلية معلوماتية موسوعية دقيقة، قادرة على حماية نفسها بالمعارف والعلم الدقيق.
الإمام الشيرازي يحثّ على ذلك في قوله السديد: (من علّم نفسه أسكت منتقديه)
يوجد شرط آخر في غاية الأهمية لو علاقة وثيقة بالمعارف بمختلف أنواعها، هذا الشرط يضع سؤالا في غاية الأهمية أمام الباحث أو الساعي إلى المعرفة، مفاده لماذا تريد أن تعرف أو تتعلم؟، ودقة الإجابة وصوابها هنا، هو الذي يضع النقاط على حروفها الصحيحة.
خطوات لتحويل الفكر إلى عمل
ما هي إجابتك عن هذا السؤال تحديدا، لماذا تريد أن تعرف؟
كيف تجيب؟ والحقيقة أن مضمون إجابتك هو الذي يحدد نوع شخصيتك، ومكانتك في الوجود، فهل تريد أن تعرف الأشياء أكثر لكي تبزّ الآخرين، وتثير حفائظهم، هل تريد من وراء المعرفة أن تكون أكثر مالا وغنى من الآخرين، هل تريد أن تكون أكثر شهرة بين الناس؟، طبيعة إجابتك الصادقة، أي بينك وبين نفسك هي التي تحدد نوع شخصيتك وقيمة مكانتك في الحياة.
فإذا كانت الإجابة الصديقة الموضوعية الحقيقية عن هذا السؤال، بأنك تريد أن تعرف أكثر لكي تحوّل معارفك وأفكارك الجديدة إلى أعمال لصالح البشرية، فهذا هو المطلوب بالضبط من زيادة المعرفة، أما إذا كنت تعرف ولا تعمل، ولديك أفكار كبيرة مخزونة في رأسك فقط، فما الفائدة منها؟؟
يجب أن تتحول معرفتك إلى أعمال مفيدة، هذا هو الشرط الأهم والأساس الذي يعطي قيمة للمعارف التي تتعلمها وتتقنها، على العكس من ذلك، أي حين تعرف ولا تعمل فإنك كمن يحرث أرضا سخاء لا جدوى من حرثها.
فمن يبحث ويسعى ويجهد نفسه لكي يعرف، ثم بعد ذلك يُبقى على معارفه سجينة في رأسه، فإنه لا يختلف عن الجاهل قيد أنملة، الجاهل هو من لا يتمكن من تقديم عمل ذا فائدة لنفسه وللناس، لسبب واضح أنه يجهل ذلك، لأنه لا يعرف، فما الفرق بينه وبين من يعرف لكنه يحجم عن تحويل معارفه وعلومه إلى عمل يفيد به نفسه وأهله ومجتمعه والآخرين؟؟
لهذا يقول الإمام الشيرازي بوضوح: (من عرف ولم يعمل فهو جاهل).
وفي عودة إلى الأخلاق التي يجب أن ترافق العلم، فإننا سوف نفهم أهمية هذا الترابط بين الاثنين، فإن لم يكن العلم محكوما بالأخلاق، فإنه سوف يتحول إلى الضد من الإنسانية، وغالبا ما يكون في هذه الحالة ممزوجاً بالدماء، بمعنى العلم غير المرتبط بالأخلاق سوف يستخدم ضد الإنسان، كما في صناعة الفايروسات القاتلة مثلا، فهذا علم أيضا لكنه مجرَّد من الأخلاق، لهذا فهو علم مميت أو قاتل.
هذا النوع من العلوم والمعارف القاتلة، يبدو للجميع علماً أو معرفة، لكنه في حقيقته يؤدي إلى القتل أو الموت، أو إلى تدمير الإنسانية، فهل يصحّ في هذه الحالة أن يتساوى مع العلوم والمعارف التي ساعدت الإنسان على أن يطوّر حياته نحو الأفضل مع مرور الزمن؟.
يقول الإمام الشيرازي: (علْمٌ فيه حدّة كلبن فيه دم)، والحدّة هنا تعني القسوة والتطرف، والخروج من دائرة العلوم المفيدة والمساعدة للبشرية.
وأخيرا فإن الفكر والأفكار موجود في رأس الإنسان (دماغه) على هيأة كلمات وجمل ذات معنى محدّد، هذه الكلمات لها معنى محدّد أيضا، فإن كانت (في حال أطلقها اللسان) صالحة وتصب فيما يصلح الناس، فمرحى بها، وإن كانت على العكس من ذلك، أي تفسد وتؤذي وتدمر، فلا ترحيب بها ولا تهليل لها، لذلك يجب أن يرتبط الكلام بالتفكير الصحيح والعلم المفيد، وإلا لا فائدة في إطلاقه.
كما أكد ذلك الإمام الشيرازي حين قال: (من تكلم بدون تفكر كان ما يفسد أكثر ما يصلح).
فيما تقدّم أعلاه، خطوات يمكن للإنسان أن يلتزم بها، ويتابعها، لكي يتمكن من تحويل علومه ومعارفه إلى منجزات، تصب في صالح الإنسانية، وعليه أن يتجنب كل معرفة وكل علم لا يفيد الناس، كذلك عليه أن يحوّل علومه إلى أعمال جيدة، وعليه أن ينتقي الكلمات وفقما يتناسب مع جودة الأفكار وجمالها.
اضف تعليق