أصبحت الأحزاب السياسية أمام خيارين لا ثالث لهما، أما الاستمرار في مسلسل الفشل وتغليب المصالح الضيقة، والمضي في قافلة الانحدار المتواصل والسقوط التام، والخروج من دائرة اللعبة السياسية بشكل تام، أو تعديل اتجاه بوصلة العمل السياسي للأحزاب، بما يضمن علاقة وثيقة مع الشعب، بعد الكف عن الاستئثار بالمغانم، وإيقاف سياسة الصراع...
ينبئ المشهد السياسي الحالي في العراق، عن ضعف الأداء الحزبي ويشي بعجز شبه تام عن تحقيق تطلعات الشعب وطموحاته ما بعد إزاحة الحكم الدكتاتوري، فبعد الانتهاء من نظام الحزب الواحد، والقبضة الحديدية للنظام الدكتاتوري في نيسان 2003، بدأ العراق عهدا جديدا مع الديمقراطية عبر السماح بتشكيل الأحزاب وإطلاق الحريات السياسية والإعلامية، وحرية الرأي، مما شكل قفزة كبيرة في ميدان الحريات السياسية.
ونظرا لتعطّش العراقيين لحرية العمل السياسي، تشكلت عشرات الأحزاب الجديدة، وهي خطوة جيدة على طريق الديمقراطية، بالنسبة لشعب لم يجرّب النظام الحزبي المتعدد، ولم يذقْ سوى قمع واستبداد نظام الحزب الواحد، لتبدأ مرحلة جديدة من الحريات لم يألفها العراقيون مع الحكم المستبد، واستبشر الجميع بمشاركة واسعة للشعب في صناعة سياسة البلاد، عكس ما كانت عليه من تفرد واستبداد.
مع أجواء الحرية التي بدأ العراقيون يتنفسونها مع أول لحظة لإزاحة النظام الدكتاتوري، ظهرت الكثير من النشاطات التي تعبّر عن فسحة كبيرة من الحرية بدأ يتمتع بها العراقيون، ليس في مجال الرأي، وطرحه كما يحلو أو يرغب المتكلم، وإنما حتى في تشكيل المنظمات الناشطة في المجالات المختلفة، ومنها منظمات المجتمع المدني التي كانت حكرا على مؤيدي النظام الفردي.
ومع نمو التجربة الديمقراطية في العراق، بدأ عيوب الأحزاب تظهر للعيان، ويبدو أن هناك فشلا للأحزاب السياسية في التجارب الآسيوية ومنها العربية، مما انعكس على تجربة الواقع الديمقراطي الجديد في العراق، فعجزت الأحزاب العاملة في الميدان السياسي عن تقديم صورة جيدة للديمقراطية، متأثرة بالإرث العربي السياسي، إذ تحكمت الأنظمة الدكتاتورية بالأحزاب بشكل تام فأفشلت دورها.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، تطرق لتجربة العمل الحزبي في كتابه القيّم (الشورى في الإسلام)، فقال: (واجهت الأحزاب السياسية الفشل منذ بداية تجربتها الاجتماعية، المرتبطة بالانتخابات النيابية وانتخابات مجالس المدن).
ظهرت أسئلة حائرة على أًلسنة الجميع، حول الأسباب التي أضعفت فرصة الانتعاش السياسي التعددي، وتداول معظم الناس أسئلة عن مدى قدرة الأحزاب على التفاعل الجاد مع الشعب وخياراته، وعدم تحقق الأمنيات الضائعة في عهد الحزب الواحد، والحكومات المستبدة الفاشلة، وهل هذه الأحزاب تشكّلت من أجل الصالح العام، أم أنها غرقت في المصالح الذاتية والحزبية الضيقة؟؟؟
ما أسباب إخفاق سياسة الأحزاب؟
وقد جاءت معظم تلك التساؤلات على لسان الإمام الشيرازي مسبقا، كأنه يستشرف أو يتنبّأ بما يحدث اليوم: (هل للأحزاب مقدرة على تجسيد الخيارات الاجتماعية للشعوب؟ وهل هي قادرة على أن تكون سنداً وقوةً للجماهير الشعبية؟ وهل هي قادرة على أداء الرسالة والقيام بالواجبات، وتكون الحصيلة إقبال الناس على عضويتها والعمل على إعلاء البلاد؟).
وهكذا حدثت شبه قطيعة بين عامة الناس والأحزاب، مما جعل منها ذات طابع نخبوي مترفّع فوق الناس، فانعدم أو قلّ إقبال الناس على الأحزاب، ولن يحدث العكس ما لم تثبت تلك الأحزاب بأنها قادرة على الإجابة عن تلك الأسئلة بصيغة عملية ملموسة، فإن كانت الأحزاب قادرة على جعل العلاقة بينها وبين الشعب، علاقة حقوقية وليس علاقة غالب ومغلوب، فإنها لا ريب سوف تستقطب الملايين لتعمل في صفوفها وتدعمها وتؤيدها.
لذا من أسباب القطيعة عدم قدرة الأحزاب لاسيما قادتها، من إقامة وإدامة علاقة جيدة مع الجماهير، تردم تلك الفجوة الواسعة بين أحزابهم وبين عامة الناس.
وقد تساءل الإمام الشيرازي عن أسباب هذا النوع من العجز، في إقامة علاقة وطيدة من قبل الأحزاب وقادتها مع الجماهير، فقال:
(هل يمكن لزعمـاء الأحزاب أن يوجدوا رابطةً أو صلةً مع جماهير الشعب على أساس الخيارات المشتركة؟ وفـي أي ظروف يمكن للأحزاب السياسية أن تكون مكملّةُ للديمقراطية الاستشارية؟).
السؤال واضح في مفرداته وطرحه ومغزاه، وطبيعة الإجابة عنه من قادة الأحزاب، ومن الأعضاء الفاعلين فيها، هي التي يمكن أن تجعل العلاقة التبادلية سليمة وقائمة على الثقة أم سيحدث العكس، والحقيقة أن الواقع السياسي في دول آسيوية عديدة ومن بينها العراق، يدل على أن الأحزاب تعاني من جفوة كبيرة بينها وبين الجماهير، والأسباب لا تحتاج لتفسير، فعجز الأحزاب وقادتها عن تقديم الديمقراطية بصورتها الصحيحة للجماهير من أقوى أسباب فشلها.
على العكس تماما من تجارب الأحزاب الغربية التي استطاعت أن تؤثر في الجماهير، وتبني معها صروحا رصينة وقوية من الثقة، حتى توطّدت العلاقة بينهما وباتت الأحزاب تهدد أقوى الحكومات بالسقوط فيما لو رفضت الأحزاب تأييدها، وبات مصير الحكومات مرهونا بقبول الأحزاب السياسية التي تتمتع بعلاقات وطيدة مع الجماهير، وهذا ما عجزت عنه أحزابنا العراقية التي قدمّت مصالحها على مصالح الشعب، ففقدت تأييده ولم يعد يثق بها بسبب منهجها الخاطئ.
لا يوجد وجه للمقارنة بين الأحزاب الغربية وأحزابنا، فالأخيرة تتمتع بعلاقات وطيدة مع الجماهير، مما جعلها قوة ضاغطة على الحكومات، في حين تفتقر أحزابنا للعلاقة الجيدة مع الجماهير، فبات كل همها امتيازات السلطة، الأمر الذي جعلها تفقد تأييد الشعب ودعمه، وباتت فيما بين الطرفين عزلة واضحة.
الإمام الشيرازي أكد على: (إن قوة الأحزاب في البلدان الغربية في تصاعد نظراً لإقبال الناس عليها، حتى باتت الحكومات غير قادرة على البقاء في السلطة أو في سعيها للسلطة دون دعم ومساندة من الأحزاب).
كيف للأحزاب إعادة الأمور إلى نصابها؟
من المؤسف أن تكون مصالح أحزابنا السياسية مقدَّمة على حقوق الناس، وهي علامة فشل لا يمكن الاعتراض عليها أو إنكارها، كما أنها تهدد بقوة مستقبل هذه الأحزاب ووجودها، ومن الواضح أن قادة هذه الأحزاب ونسبة كبيرة من قواعدها لم تطّلع على تجارب حزبية مهمة في التاريخ السياسي العالمي، كما أنها أغفلت التعلّم من تجاربنا الإسلامية الناجحة في الحكم وفي الحريات وحق المعارضة والأمانة وحفظ حقوق الشعوب.
وأمام هذا العجز والشلل الذي عانت وتعاني منه الأحزاب السياسية (في العراق)، ضاع الحكم الديمقراطي النموذجي للدولة العراقية وربما تضيع فرصة العهد الديمقراطي ما بعد زوال الحكم الاستبدادي، في حين أن الأحزاب الغربية على سبيل المثال، قدمت نموذجا جيدا في بناء أنظمة الحكم، حتى بات وجود الأحزاب من المستلزمات التي لا يمكن للديمقراطية أن تتحقق من دونها!.
وهذا ما ينبغي أن تتنبّه له أحزابنا السياسية في العراق، وعليها أن تتعلم من تجارب أحزاب الأمم الأخرى، وأن تفهم بأنها جزء لا يتجزأ من دعم العملية الديمقراطية، وتثبيت أركانها وإنجاحها في العراق، حتى لا تتوفر فرصة عودة الاستبداد والدكتاتورية من جديد، كم تم غلق الأبواب أمام الأنظمة القمعية في الغرب بفعل النشاط الحزبي الناجح.
وهذا ما أشار إليه الإمام الشيرازي في قوله: لقد (أصبحت الأحزاب السياسية في المجتمعات الغربية من مستلزمات الديمقراطية).
هل هناك حلول يمكن أن تلجأ إليها الأحزاب العراقية كي تنقذ فرصة الديمقراطية وتنقذ نفسها، سؤال ليس وليد الخيال، ولا ينتمي للطوباوية التي تفوق الواقع إلى ما فوق المعقول، إنه سؤال واقعي يقف الآن بقوة أمام الأحزاب وقادتها، وإذا أجابت الأحزاب بنعم نحن نبحث عن حلول واقعية تنقذ التجربة الديمقراطية والتعددية، فإن الإمام الشيرازي يقدم مقترحات يمكن أنْ يُعمَل بها في حال توافرت النيّة الصادقة مع القدرة على الالتزام الإجرائي.
نعم لا تزال الفرصة سانحة لتغيير البوصلة نحو نجاح العمل الحزبي، شريطة (أن يكون للأحزاب السياسية ومؤسساتها، تأثيراتها الواضحة على تحسين الحياة الاجتماعية وغيرها) كما أكد الإمام الشيرازي.
بهذا أصبحت الأحزاب السياسية أمام خيارين لا ثالث لهما، أما الاستمرار في مسلسل الفشل وتغليب المصالح الضيقة، والمضي في قافلة الانحدار المتواصل والسقوط التام، والخروج من دائرة اللعبة السياسية بشكل تام، أو تعديل اتجاه بوصلة العمل السياسي للأحزاب، بما يضمن علاقة وثيقة مع الشعب، بعد الكف عن الاستئثار بالمغانم، وإيقاف سياسة الصراع من أجل المال والسلطة والنفوذ، والقيام بدور سياسي مشرّف تتصدى له الأحزاب بضمير جمعيّ سياسي حيّ.
اضف تعليق