ورغم ما أخفاه التاريخ من حقائق، وما زوّر وشوّه، فان الأئمة الاطهار، بتضحياتهم وجهودهم الجبارة حافظوا على جانب من الحضارة بتأسيسهم لقواعد ونظم الاخلاق، والأحكام، والآداب التي بقت في وجدان الأمة جيلاً بعد جيل، فيما بقي أهل السلطة متشبثين بالحكم، مضحين بأرواح الناس وثروات الأمة بحثاً عن...
مقدمة:
يفترض من التاريخ؛ هذا الكائن الحيّ –حسب وصف أحد المفكرين- أن يعكس صورة المجتمعات والأمم خلال مسيره الهادر وإطلالتهم عليه، لينقل لنا تجارب حياتهم، وافكارهم، ومنجزاتهم، وحتى اخفاقاتهم الى حدّ السقوط والانهيار، بيد أن تاريخنا الاسلامي تحدث عن كل شيء خلال مسيرة الاربعة عشر قرناً من الزمن، لكنه أغمض عينيه عن أكبر وأهم منزل مرّ به، وهم أهل بيت رسول الله، والأئمة المعصومون من بعده، ومعهم الصديقة الزهراء، عليهم السلام، علماً أن أمير المؤمنين، طيلة فترة حياته؛ من الصبا وحتى استشهاده كان يمثل علامة فارقة في "المجتمع العربي" آنذاك في كل ما يتميّز به إنسان، من العلم والشجاعة والأخلاق، والإيمان، حتى ثبتوا له أن "كرّم الله وجهه"، وهكذا الحال في سائر المعصومين من بعده، لم يكن أحد يدانيهم في أي منقبة او صفة، سواءً العالم أو الحاكم، او عامة الناس، الجميع يشهدون لهم بالفضل والصلاح والكمال.
ولكن!
عندما نقلب هذا التاريخ لا نجد لهذه القامات ذكراً بما يناسب –على الاقل- منزلتهم بين الناس في حياتهم، إلا ما ترافق مع الاحداث السياسية فقط، كما هو الحال مع أمير المؤمنين، وسبطي رسول الله؛ الحسن والحسين، عليهم السلام، وفي فترة لاحقة؛ الامام الكاظم، والامام الرضا، فيما تحدث التاريخ شيئاً يسيراً عن الامام الصادق عندما فرض نفسه على الساحة العلمية آنذاك، بينما نلاحظ الامام الجواد –مثلاً- يكاد يجهله التاريخ، ويعده غير موجوداً بالمرة، وكذلك الامام السجاد، عليهم السلام.
نعم؛ المكتبة العلمية والمكتبة الاخلاقية والمكتبة العقدية هي التي تبحث في سيرة حياة تلكم القامات الشاهقة وما قدمته للانسانية والحضارة، فكيف حصل ذلك؟ وما الذي خسره المسلمون –ومايزالون- في حاضرهم ومستقبلهم من هذا التجاهل المتعمد عن سبق الإصرار؟
الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في مقطع من محاضرة صوتية يؤشر الى خطورة هذا الغياب على مصير الأمة، مما يجعلنا أمام مسؤولية إعادة النظر في هذا التاريخ حتى لا نخسر الحاضر والمستقبل، كما خسر الذين من قبلنا.
لنقرأ ثم نستمع الى هذه الالتفاتة الرائعة:
الحكام همّشوا الأئمة فدمروا الحضارة الاسلامية
"هناك ثلاثة عوامل اجتمعت لقلع جذور الاسلام؛ القوى الخارجية وحضاراتها، وانحراف الحكام، وطمع المتزلفين، وقد نجحوا في عملهم هذا –بالنسبة لغير الشيعة- ، ولذا كان الأئمة المعصومين بين خيارين: أن يكونوا بُناة وحكام، أو ان يكون مؤسسين للبناء.
أنا شخصياً لو خُيّرت بين أن أكون حاكماً على العراق، أو أن أكون حاكماً للإسلام في العراق؟ لاخترت الثاني، علماً أني لا أتمكن من الاثنين.
كان الأئمة الاطهار مجبرين بالعمل ضمن الظروف التي يعيشها الناس، لا أن يكونوا متميزين ومثاليين، والآية الكريمة تقول: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً}، لان الله يريد أن يجعل النبي والامام أسوة للناس.
ولو نلاحظ كتاب بحار الانوار الذي جمع روايات وأحاديث المعصومين، من النبي وحتى الامام الحجة المنتظر، كم هي حصة أمير المؤمنين، وحصة النبي الأكرم، وهما في قمة الحكم؟ لقد اخذنا شريعتنا من هؤلاء، وإلا لماذا قال النبي عن الامام الباقر: انه يبقر العلم بقرا؟ لماذا لم يقل هذا في حق الامام الحسن، ولماذا وصف الامام الصادق بانه صادق، والدليل عندما أخرجوا الامام الصادق والباقر والسجاد من تاريخ المسلمين، انهارت حضارة المسلمين. كما كانت عاقبة حضارة الروم وحضارة الفرس وحضارة الهند.
والدليل على انهيار حضارتنا بغياب الأئمة المعصومين، ظهور التيارات الفكرية ونشوء مذاهب تقول بتعدد الإله، وأنه –تعالى- يضحك ويبكي ويندم! نفس المشكلة وقعت فيه الديانات الاخرى التي قالت بأن الانبياء يشربون الخمر وليسوا معصومين، وأن الله يضلّ الناس! وأنه غضب على موسى واراد قتله! حتى أن أمير المؤمنين –كما جاء في تفسير الصافي والبرهان وغيرها- أنه حذر من تداول قصة النبي داود مع زوجة أوريا الذي يدّعي المسيحيون أنهم ارتكب الزنا بها، وكان أوريا قائداً عسكرياً في جيشه، ثم تسبب في مقتله، وقال أن من يتداول هذه القصة الملفقة في الانجيل على النبي داود جلدته جلدتين.
مع كل ذلك فقد اعتمد الأئمة الهداة خيار تشييد أسس الحضارة لتبقى معالمها حتى اليوم، وذلك من خلال الأخذ بالموازين البشرية، والشيء نفسه فعله الانبياء من قبل، فقد تحدثوا بمنطق العقل والفطرة والوجدان، لا بمنطق السيف والمال كما فعل ويفعل الحكام".
البناء والتأسيس يخيف الحكاّم
منذ انطلاق "الحركة الاسلامية"، أو ما يُعرف بـ "العمل الاسلامي" في بدايات القرن الماضي، على يد العلماء والمفكرين، واكبتها جدلية الحكم و البناء؟ أو ممارسة الدعوة الى الله وأحكامه أم ممارسة السياسة؟ وكان لسماحة الإمام الراحل القرار الحاسم منذ بواكير تحركه في مسيرة العمل الاسلامي في خمسينات القرن الماضي، انطلاقاً من العراق ومنه الى جميع أنحاء العالم، بأن الخيار للبناء والتأسيس، وليس للحكم، ولو أنه أشار في المقطع الصوتي تواضعاً بأنه "لا يقدر على الاثنين، اذا ما خيروني بين أن أكون حاكماً على العراق، أو أن أكون حاكماً للإسلام في العراق"، فمن الصعب جداً الإدعاء تطبيق أحكام وقوانين الاسلام بشكل كامل، والسبب ليس في الأحكام والقوانين السماوية، وإنما في سوء الفهم، وعدم الاستيعاب الفكري والعملي للناس، وهو في ذلك يسير على منهج الأئمة الاطهار وسيرة رسول الله في البناء الحضاري.
ولكن؛ بقيت المشكلة في المصاديق العملية، إذ كانت الحركة والعمل الاسلاميين في العصر الحديث يشكو من فقدان الخلفية التاريخية لفكر النهضة والتغيير، فالتاريخ الذي كان يحيط بالأمة، تاريخ الأمويين والعباسيين، وفي أحسن الاحتمالات؛ تاريخ "الخلفاء الراشدين".
فعندما أدرك الأمويون والعباسيون أنهم لن يصلوا الى قمة السلطة مع وجود رموز الوحي والتنصيب الإلهي، ومن يمثل هذه المدرسة، أخذوا بناصية التاريخ ليكتبوا وقائع حروبهم، وانتصاراتهم، وسيرة حياتهم رغم ما فيها من المجون والضلال وتبديد ثروات الأمة على المغنيات والمداحين، ولعل هذا ما اكتسبه الأمويون تحديداً من الرومان –أصدقاء معاوية- عندما خصصوا لجنة خاصة بكتابة وقائع معركة الطف، ترافق جيش عمر بن سعد، فكان من أبرزهم حميد بن مسلم الذي ينقل عنه أصحاب المقاتل اجزاءً من تلكم الوقائع، ولكن ماذا عن الأئمة المعصومين، فكيف كانوا يعيشون، وما هي مواقفهم إزاء قضايا اجتماعية وسياسية عديدة حصلت؟ ربما تكون سياسة التضييق والمراقبة هي التي حالت دون وجود تدوين تاريخي لهم، عليهم السلام.
هذا التاريخ الذي رسمه الأمويون والعباسيون، تسلّمه الحكام المعاصرون عادين إياه التاريخ الكامل للإسلام ليقدمونه الى الجيل الجديد، فبات التلاميذ وحتى طلبة الجامعة يقرأون أن معاوية "مؤسس الدولة العربية"، وأن المنصور الدوانيقي له الفضل في بناء بغداد، و هارون صاحب "العصر الذهبي" للدولة الاسلامية، وهنا لا نلوم التاريخ ولا حتى المؤرخين في ذلك الزمان، فربما كانوا يمارسون مهنتهم سياط الترهيب ودنانير الترغيب، إنما اللوم كل اللوم على اساتذة التاريخ وكتاب المناهج في زماننا ممن يدرسون هذه المادة التي اصبحت علماً مستقلاً في المراكز الاكاديمية، كيف أنهم يتصفحون سيرة حياة الحكام وما كانوا يفعلوه على موائد الخمور، وبين أحضان الغانيات، وكيفية تعاملهم مع المعارضين، وحتى طريقة انتقال الحكم (الخلافة) من الاب الى الابن، حيث كانت تسيل الدماء من غرف القصور، ثم لا يتحدثون عن المنجزات الحضارية للإسلام ومن الذي أوصلها الى الآفاق، هل معاوية ومن بعده المروانيين؟! أم أمير المؤمنين، الذي عرف العالم بمبادئ الحرية، وأسس لمحاربة الطبقية، والعبودية؟ وهل إن المنصور وهارون ومن على شاكلتهما ممن أنفقوا الملايين على الشعراء المتزلفين، وعلى مجالس اللهو والطرب وبناء القصور، هم من أغنوا الحضارة الاسلامية، أم الامام الصادق الذي شيد الجامعة الاسلامية الكبرى لتضم كبار عباقرة وعمالقة العلوم الطبيعية والدينية، ويكتشفوا المبهرات من علوم الهندسة والكيمياء والفلك؟
وحسناً قال أحد العلماء أنه في وقت كان العباسيون مشغولون بإنشاء قاعدة سياسية للحكم، كان الامام الصادق، عليه السلام، مشغولٌ بإنشاء جامعته العلمية الكبرى وتربية حوالي ثلاثة الاف تلميذ انتشروا في الشرق والغرب وهم يقولون: "حدثني جعفر بن محمد".
هذا كان خيار الأئمة المعصومين، بل وحتى خيار النبي الأكرم نفسه، وهو رسول الله، وخاتم النبيين، جاءه جبرائيل ذات مرة وهو ينقل اليه رسالة من العليّ الأعلى بأن بامكانه أن يكون ملكاً لديه جبال من الذهب والجواهر، ولا ينقص من منزلته المعنوية شيء، فأبى وقال: "أجوع يوم، وآكل يوم"، ثم قال: "ألا أكون عبداً شكورا"، بهذه الكلمتين اختصر النبي قاعدة حضارية لم يرق اليها البشر إلا بعد قرون عديدة من الطغيان والظلم والتمييز الطبقي، فالحضارة الانسانية السليمة هي القائمة على العمل والانتاج والقناعة.
وفي مقال سابق تحدثنا كيف أن النبي بزواجه من ابنة قائد يهودي مهزوم، وكانت بين الأسرى، أخذ بيد المرأة الى أعالي الكرامة والعزّ في وقت كانت المرأة –وكل أنثى- لا تكون مكرمة ومحترمة وسعيدة في حياتها إلا اذا كانت حرّة، ومن عائلة مرموقة، وعلى هذا المنهج سار الأئمة الاطهار فيما يتعلق بشخصية المرأة.
ولعل هذا يذكرنا بكنه ما قاله أمير المؤمنين للمتجمهرين حوله لمبايعته للخلافة، بأن "أكون لكم وزير خير من أن أكون لكم أمير"، فهم يتصرفون وفق الثقافة التي بناها الحكام الثلاثة من قبل، وهي ثقافة السلطة والحاكم القوي، بينما كان، عليه السلام، يتطلع الى مستقبل هذه الثقافة الفاسدة ومآلاتها عليهم، فقد كان يرغب أن يكون معلماً لهم، ومبلغاً للأحكام والآداب، والعقيدة، حتى يختاروا الحاكم عن دراية ومعرفة ثاقبة، وليس بدافع المال والتهديد والاستفزاز.
ورغم ما أخفاه التاريخ من حقائق، وما زوّر وشوّه، فان الأئمة الاطهار، بتضحياتهم وجهودهم الجبارة حافظوا على جانب من الحضارة بتأسيسهم لقواعد ونظم الاخلاق، والأحكام، والآداب التي بقت في وجدان الأمة جيلاً بعد جيل، فيما بقي أهل السلطة متشبثين بالحكم، مضحين بأرواح الناس وثروات الأمة بحثاً عن الانتصارات الوهمية في ظل شعارات وأفكار فاسدة، والمحصلة؛ أن الشعوب الاسلامية تمتلك المعنويات فيما تمتلك الشعوب الاخرى العلوم والتقنيات الحديثة، ومن ثم الحياة التي يبحث عنها المسلمون اليوم ويدفعون أرواحهم ثمناً للوصول اليها.
اضف تعليق