تغيير العقلية والأفكار والقيم ومن ثم السلوك، ليصبح قائما بين الناس على أساس إنساني ضامن للحدود والحقوق، من خلال ترسيخ شبكة من القيم والمبادئ التي تصون النفس وتضيء القلوب بنور القيم الإسلامية العظيمة، فقد كان سكان الجزيرة مكبّلين بالظلمات، تائهين في بحار من التعصب...
قبل أن تبزغ البعثة النبوية إلى النور، كان الناس في الجزيرة العربية يتمرغون في وحل الجاهلية، ويأكلهم الشتات، ويذبحهم الاحتراب من الوريد إلى الوريد، أما الجهل والتطرف فكانا كالمطرقة والسندان يُسحَق بينهما المجتمع الجاهلي، ويُحال إلى ملل وطوائف ومشايخ متحاربة، لا يجمع بينها مبدأ ولا فكر ولا هدف إنساني محدد وهي الروابط التي لابد منها لتشكيل الأمة.
حتى إذا ما أشرق عليهم نور النبوة، تحوّل كل شيء إلى ضدّه، وانقلب الشر إلى خير، والقيم تحولت من أردئها إلى أحسنها، فجاءت بعثة الرسول إليهم بمثابة إنقاذ لهم حين كانوا يغرقون في بحر العنف والتشتت والجهل والتناحر، لتبدأ رحلة التغيير العظمى بقيادة الرسول الأكرم (ص)، ولتتحول بؤر التطرف والاقتتال والأحقاد إلى منظومة قيم ومبادئ جديدة تحمي الإنسان وتحفظ كرامته وأمواله وحدوده وتصونها من أي اعتداء.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (المعصومون الأربعة عشر):
(كانت حالة الناس قبل بعثة النبي (ص) على شر حالة، فأنقذهم الله تعالى برسول الله الذي أخرجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الهداية، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين (ع) قائلاً: فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزل، وإطباق جهل! من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة، فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً).
هذا درس لقادة اليوم، فيما لو أرادوا تعلّمه عبر الاقتداء بقائد الأمة الأعظم الرسول محمد (ص)، فمن يريد من القادة إصلاح الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية في دولته، هذا ليس عصيٌّ عليه لاسيما إذا كان من المؤمنين الملتزمين بخط أهل البيت عليهم السلام، فلقد نقل الرسول الأكرم (ص) مجتمع الجزيرة من الجهل والتطرف والاحتراب وقوانين الغاب، إلى مجتمع الدولة العادلة التي تقوم العلاقة فيها بين الحاكم والمحكوم على قاعدة التوازن بين الحقوق والواجبات.
نور القيم الإسلامية العظيمة
يُضاف إلى ذلك تغيير العقلية والأفكار والقيم ومن ثم السلوك، ليصبح قائما بين الناس على أساس إنساني ضامن للحدود والحقوق، من خلال ترسيخ شبكة من القيم والمبادئ التي تصون النفس وتضيء القلوب بنور القيم الإسلامية العظيمة، فقد كان سكان الجزيرة مكبّلين بالظلمات، تائهين في بحار من التعصب، تحكمهم قيم الإثم والتناحر والكبرياء الفارغة، حتى حلَّ عليهم النور النبوي الأعظم، فقادهم نحو النور وبنى دولة المسلمين التي ضاهت بل تفوقت على إمبراطوريات عصرها.
يقول الإمام الشيرازي عن ذلك:
(إنّ الناس في شبه الجزيرة ـ بل في كل العالم ـ كانوا بأمس الحاجة إلى من يخلّصهم ممّا هم فيه من الظلمات، فمنّ الله عليهم بمن ينقذهم من ذلك الوضع وهو رسول الله (ص) الذي هذّب النفوس ونوّر العقول وحوّل أوضاعهم من شرّ حال إلى خير أمة أخرجت للناس).
من غير المقبول أن يتذرع القائد بخشونة طباع الناس ليبرر فشله في القيادة والإدارة، أو بتعصبهم وجهلهم، أو تمسكهم بالعادات البالية، وليس صحيحا أن يعزوا القادة عدم قدرتهم على تحقيق النجاح في إدارة الدولة ومواردها إلى العُقَد الاجتماعية، أو الصفات الصعبة التي تَسِم أفراد المجتمع، فهذه كلها تبريرات لا تعدو كونها شواهد ودلائل قاطعة على فشل قادة اليوم في إصلاح الناس، وبناء الدولة التي تحمي الجميع وتصون حقوقهم وحرياتهم.
فكما يؤكّد التاريخ، أن مجتمع الجزيرة لم يكن مجتمعا مثاليا، بل لم يرقَ إلى صفات المجتمعات العادية، إنه وُصفَ بصفات التوحش حيث وأد البنات بأيدي آبائهن!!، مع انتشار السلوكيات الفَضّة، والأخلاق الهابطة، والتطاول على الآخرين، وتوارث الأعراف المتخلفة الظالمة جيلا بعد جيل، وكل هذا الانحطاط كان متغلغلا في عمق النسيج المجتمعي، لذلك من الصعوبة بمكان تنقية الأجواء والنفوس والقلوب وتنوير العقول وتهيئتها للالتزام بحقوق الآخرين، ومع ذلك حدث التغيير المنشود.
بماذا يجب أن يتحلى قادة اليوم؟
قادة اليوم يجب أن يفهموا بأن التغيير والإصلاح، يتطلَّب نموذجا يسير الآخرون في هدي خطاه، ومن الأهمية بمكان أن يتحلّى القائد بكل الصفات العظيمة التي ترتقي بالإنسان إلى مصاف الأتقياء المخلصين الملتزمين والمترفّعين عن الصغائر، وكيف لا إذا كان قائدهم نموذجا لهم، هذا على وجه الدقة ما يحتاجه الناس اليوم، قادة من طراز العظماء، وهذا ليس بالأمر المستحيل، بل هو في متناول القائد إذا اتخذت مسيرته من العدل والإنصاف والقيم الأصيلة الأخرى داعما لخطواته في الإصلاح.
يقول الإمام الشيرازي:
(قد يكون من السهل أن يجذب الإنسان الناس العاديين بأخلاقه الحميدة، ولكن من الصعب جداً أن يؤثر على ذوي الأخلاق الفضّة ويحوّل سجاياهم وطبائعهم التي تربوا عليها وتوارثوها من أجيالهم الماضية. ومن المعروف أن المجتمع الجاهلي في عهد النبي (ص) كانت تطغى عليه حالة من القسوة والفضاضة والخشونة والوحشية، حتى مع أقرب الناس إليهم وهم بناتهم حيث كانوا يدفنونهن أحياءً).
هذه الشواهد إنما تدل على أن القائد يمكنه إصلاح المجتمع حتى لو كان من أسوأ المجتمعات، وبإمكانه أن يغير القيم والمبادئ والعادات من الأسوأ إلى الأفضل، ولكن يتطلّب الأمر إيمانا بهذه الأهداف، والتزاما ذاتيا نقيّا يمنح القائد قدرة على التغيير، فمن يسعى لتغيير الناس وبناء الدولة العادلة، عليه أن يبدأ بنفسه، ومطلوب منه الإطلاع العميق على تجارب الإسلام السياسي المتميزة، والاقتداء بقادة المسلمين العظماء وعلى رأسهم نبينا الأكرم (ص).
توجد تعقيدات ومشكلات كثيرة تقف في وجه القائد في عصرنا الراهن، يحدث هذا نتيجة لتعقيد الحياة نفسها، مع حجم التهديد المادي الاستهلاكي الذي يروج له عالم اليوم، لكن هذا لا يمنع أن يبرز قادة من طراز خاص، قادة المراحل الحرجة في تاريخ الأمم والشعوب، يظهر هؤلاء حين يغوصون في بطون التاريخ ويستخرجون لآلئ التجارب العظيمة للقادة العِظام، فهل درس ساسة اليوم وقادتنا بعمق ودقة سيرة الرسول الأكرم (ص)، وهل تفحّصوها جيدا واستقصوا دروسها، كي يقودوا الأمة بما يحقق لها المكانة التي تليق بتاريخها؟؟
يتعذّر بعض القادة بحجم الأذى الذي يتعرضون له، وحجم المعارضة له ولخطواته الإصلاحية، فيصيبه اليأس، ويتراجع عن أهدافه في الإصلاح، متذرّعا بما يواجهه من عقبات ومشكلات وأذى مادي أو معنوي، إلا أن هذا ليس تبريرا مقبولا، فالقادة العظماء لا تلين عريكتهم ولا تُهزَم إرادتهم، ولن يتراجعوا قيد أنملة عن تحقيق الأهداف التي آمنوا بها وخططوا لها، وأمامنا النموذج القيادي الأعظم، منه نستمد الدروس، ومنه نستلهم القوة والإرادة في الإصلاح.
فقد ذكر الإمام الشيرازي بأن النبي الأكرم (ص) (تحمّلَ العناء الكثير وقاسى المحن والشدائد ونزل به ما نزل، من أجل الرسالة حتى قال مقولته المشهورة: (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت). ولكنه (ص) صمد أمام التحديات والمغريات والمشاكل والصعوبات وبلّغ الرسالة أفضل تبليغ، وأدّى ما أمر به من الله عزّ وجلّ).
فمن يبحث عن النموذج الذي يقتدي به فهم أمام بصره وبصيرته، سيرةً وخطوات ومعالجات، حتى العًقَد المستحيلة لم تقف عائقا أمام أهدافه، بهذه الروحية يجب أن يتحلى قادتنا اليوم، إذ لم يعد لديهم الكثير من الوقت أو محاولات التجريب، فلقد بلغ المسلمون مرحلة يتوجّب معها حدوث التغيير التام والالتحاق بركب العالم المتقدم، ولن يحدث هذا الهدف الكبير إلا من خلال بناء دولة العدالة التي لابدّ منها.
اضف تعليق