الكثير من الافراد يشعرون بنشوة داخلية ورغبة نفسية عند مدّ اليد في الجيب وإخراج ورقة نقدية معينة وإعطائها للفقير ليكون مساهماً في سد حاجته ولو باليسير، ولكن لا يخطر بباله يوماً أن يقدم كل ما في جيبه، او كل ما يملك من رصيد في البنك، او ما يدخره في البيت...
يقسم العلماء القدرات في الحياة الى صنفين؛ ما تدركه الحواس الخمس والعقل، وما يسميه العلماء في بحوثهم العقدية بـ"عالم الشهود"، والصنف الآخر ما لا تدركه الحواس ولا حتى العقل لانه يعود الى عَالَم الغيب حيث القدرات غير المحدودة الصادرة من صاحب القدرة المطلقة، وهو؛ الله –جلّ وعلا-.
وحتى تكون الفاصلة بين الصنفين قريبة جداً، واحياناً تكون لصيقة، صار الايمان بالغيب من أهم دعائم العقيدة والايمان بالله وبرسالاته، وايضاً؛ بقيمه وأحكامه، فيكون الانسان حينئذ مؤمناً حقيقياً، فهو يؤمن ويثق بقدراته الذاتية، كما يؤمن من أعماق قلبه بالقدرات الغيبية، وأن تغيير الاحوال والاوضاع عند الله –تعالى- دونها الكاف والنون، فيقول للشيء كُن فيكون، وكما أنه يعمل ويجتهد ويبدع فيجني ثمار أتعابه، فان للغيب دورٌ ايضاً في مساعدة الانسان في رزقه وفي إنجاح مساعيه من حيث لا يحتسب، وفي أحيان كثيرة نجد أن هذا التدخل يسبق جهود الانسان ويهبه عطايا باهرة لم يتخيلها.
والامام الحسين، عليه السلام، وهو آخر من بقي على وجه الأرض من أصحاب الكساء، وآخر ابن بنت نبي في العالم الى يوم القيامة، يجسد هذا الايمان بأروع صورة، ليس فقط في ميدان المعركة في واقعة عاشوراء التي يعدها الكثير محور البحث في حياة الامام الحسين، عليه السلام –للأسف- وإنما في الميدان الاجتماعي ايضاً، وهو ما سلط عليه الضوء سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي القصير والمعبّر.
لنقرأ ثم نستمع:
الله يبارك بالإنفاق
"جاء أحد الاشخاص الى الإمام الحسين، عليه السلام، يستعطيه، ولم يكن فقيراً عادياً، إنما كان يتميز بالفهم والمعرفة والآداب، فأنشد أبياتاً في حق الإمام، قال فيها:
لم يخب الآن من رجاك
ومن حرك من دون بابك الحلقة
أنت جوادٌ كريمٌ ومعتمدٌ
وأبوك كان قاتل الفسقة
لولا الذي كان من أوائلكم
كانت علينا الجحيم منطبقة
فتوجه الإمام الى خادمه وقال له: أعطه ما في خزانتنا"، والخزانة كانت بمنزلة المكان الآمن الذي تودع في الاموال، كما هو الحال اليوم في البنوك والمصارف، فرأى الخادم في أن الخزانة أربعة آلاف دينار ذهب، وهو مبلغ ضخم جداً في ذاك اليوم وفي يومنا الحاضر.
وبعد أن أعطاه الإمام كل مايملك قال له الخادم: يا ابن رسول الله، إن أعطيت كل ما لديك، فماذا يبقى للعائلة؟
قال له الامام الحسين: "الله للعائلة".
لنفترض أن الامام لم يكن يعطي الاربعة آلاف من الدنانير، هل كانت تبقى بعد ذلك؟ قطعاً كلا.
لذا نرى هنالك من يشترون بأموالهم الذكر الطيب في المجتمع، كما فعل حاتم الطائي، فقد كان شيخ قبيلة الى جانب مئات من شيوخ القبائل في الحجاز، بيد أن حاتم الطائي كان ذكياً فخلّد نفسه، والى اليوم يذكر على الألسن بالخير، وأنه مثال للكرم، بينما سائر شيوخ القبائل الذين عاصروه طواهم الزمن والنسيان".
اعتماد الغيب لخدمة المجتمع
لو حصل لأي شخص اليوم موقفاً مشابهاً لما حصل للإمام الحسين، وطلب منه فقير شيئاً من المال، وهو في سيارته عند إشارة المرور، او في بيته، او في الطريق او الاسواق و أي مكان آخر، وهو يحمل في محفظته مبلغاً لا بأس به المال، فهل يخرج كل ما في المحفظة –هذا فضلاً عما في البيت كما فعل الإمام- للفقير؟
الكثير من الافراد يشعرون بنشوة داخلية ورغبة نفسية عند مدّ اليد في الجيب وإخراج ورقة نقدية معينة وإعطائها للفقير ليكون مساهماً في سد حاجته ولو باليسير، ولكن لا يخطر بباله يوماً أن يقدم كل ما في جيبه، او كل ما يملك من رصيد في البنك، او ما يدخره في البيت، فهذا مما لا يتقبله البعض عقلاً، حتى وإن قيل له: سيعوضك الله –تعالى-، فالمال من أشد ما يعتزّ به الانسان في حياته، ومن الصعب عليه إيكال أمر تعويض ما بذل من أجله عرق جبينه، وشبابه، ثم يقدمها مرة واحدة لمن يحتاج الى المال والمساعدة.
كان بإمكان الامام الحسين إعطاء ذلك الفقير –مثلاً- عشرة دنانير، او مائة دينار، ولن يعترض عليه الفقير، ولن يلمه التاريخ مطلقاً، فهو لم يرد السائل دون عطاء، ولكن؛ العبرة بالإيمان بالغيب، وبالعناية الإلهية في أمر الانفاق والتكافل الاجتماعي، ولعل هذا الدرس يكون مصداق الآية الكريمة: {َمنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، فكيف تكون عملية المكافأة المضاعفة؟ وأين؟ هل في الدنيا أم في الآخرة، أم في الدارين معاً؟
وما فعله الامام الحسين مع ذلك السائل، و ما فعله من قبل أخوه الحسن، وحتى أبوهما أمير المؤمنين، وايضاً الصديقة الطاهرة مع من كان يسألهم العطية في قصص كثيرة ربما لا تخفى على القارئ لكثرة تداولها من على المنابر وفي الكتب ووسائل الاعلام، كلها تمثل انعكاس للمدرسة المحمدية التي لم تدخر جهداً في عملية البناء الاجتماعي، وايضاً المساعدة على بناء الذات والشخصية الانسانية وفق القيم والمعايير السماوية، وهو ما يقابله من لطف إلهي و رعاية غيبية بتوظيف الاسباب نحو المنفق والمعطي لئلا يكون انفاقه و فتح باب البر والخير على المحتاجين، سبباً في فتح باب العَوَز والازمة على صاحبه، وهذه المعادلة فهمها المؤمنون الاوائل من أتباع الأئمة المعصومين، عليهم السلام، وحتى العلماء والصالحين من بعدهم، فقد كانوا يحرمون أنفسهم من عديد وسائل الراحة والرفاهية ليصل منها –ولو القليل- الى عامة الناس، لاسيما الشريحة الفقيرة، دون أن يخامرهم شعور باحتمال اصابتهم بالفقر والحاجة او أزمة معيشية.
وفي مقدمة العطاء الإلهي لهم في الحياة الدنيا؛ الذكر الحسن، والسمعة الطيبة في حياتهم وبعد مماتهم، كما أشار سماحة الامام الشيرازي، مما يمثل رصيداً اجتماعياً غاية في الاهمية لمن يخلف ذلك الانسان المنفق والبار الذي سيجد في هذا الرصيد المعنوي العظيم ما يؤهله لأن يكرر شخصية أبيه بل ويزيد عليه في البر والإحسان.
وربما لا يكون السمعة الحسنة مطلب جميع أهل البر والاحسان، وكانوا يسعون ليكونوا مصداقاً جديداً للآية الكريمة: {لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا}، ولعل هذا النمط من العطاء يكون أبلغ وأكثر تأثيراً في معالجة تصدعات المجتمع، وفي كل الاحوال فان اعتماد الغيب والتسديد الإلهي في مشاريع العطاء والانفاق من شأنها ان تجمع شتات المجتمع والامة على جوهر الدين وقيمه ومبادئه اكثر من ذي قبل، والعكس بالعكس، وهذا ما حرص عليه الامام الحسين، عليه السلام، في فترة الهدوء التي سبقت العاصفة في كربلاء، يوم كان في مدينة جده المصطفى، ولعل من يسأل عن سبب عدم اعتماد الامام على الغيب والمدد الإلهي يوم عاشوراء، وهو جديرٌ به، فرأسه الشريف لم يكن بأهون على الله من ناقة صالح التي لحق بمن عقرها ومن سكت عليه من القوم أجمعين، عذاباً مدمراً وساحقاً، ولكن؛ في يوم عاشوراء كان الميثاق بين الامام الحسين، وبين الله –تعالى- بشكل مباشر، فترك الامام الامور تجري بأسبابها، فاستقبل المخرجات والنتائج السيئة والكارثية برحابة صدر مضحياً بنفسه وبأهل بيته لأمر يريده الله –تعالى- لهذه الأمة ويكون القائد هو؛ الامام الحسين، وقد تحقق، فيكون الامام الحسين منار الإصلاح والتغيير عبر الاجيال والزمن.
اضف تعليق