عيد الغدير الأغر، نافذة لأمة المسلمين كي تستعيد مجدها التليد، وذلك بالنظر إلى هذا العيد وما جرى فيه من أحداث مصيرية، على أنه قضية حق وضع فحواها وتفاصيلها نبي المسلمين محمد صلى الله عليه وآله، وأن كل من يسير على خطاه، عليه أن يعيد الحق إلى نصابه...
نعيش هذه الأيام ذكرى عيد الغدير الذي وُصف بأنه أعظم أعياد المسلمين، انطلاقا مما حدث في هذا اليوم التاريخي، حيث أعلن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، علي بن أبي طالب عليه السلام خليفة له، وتمّ ذلك على رؤوس الأشهاد، وتمت مبايعة من قبل كبار قادة المسلمين آنذاك ولم يعد الأمر قابلا للتلاعب أو التغيير.
لكن ما حدث في السقيفة يعد تنصلا من الالتزامات التي قُطعت في حياة الرسول صلى الله عليه وآله، ونكران مبايعة الإمام علي عليه السلام، وهي لحظة تاريخية مؤلمة أكدت أن السلطة والتعلق بها، تفوقت على العهود والالتزامات التي قطعها قادة المسلمين في حياة الرسول الأكرم (ص)، ومنذ تلك اللحظة بدأ خط الانحراف السياسي في تاريخ المسلمين ليشكل بؤرة للفرقة والتصادم فيما بينهم.
يوم الغدير يكتسب أهميته من البصمة النبوية التي صاغته بحضور الجميع، وبموافقتهم على جعل الإمام علي عليه السلام قائدا لهم، لهذا يعدّ هذا اليوم عظيما في تاريخ المسلمين، كونه ضمّ في طياته أعظم الأحداث طرّا، حيث أُعلِن فيه علي بن أبي طالب خليفة للرسول الأكرم (ص)، وقائدا للمسلمين من بعده.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (عيد الغدير أعظم الأعياد في الإسلام):
(يوم الغدير هو اليوم الذي تمت به النعمة واكتمل به الدين، فهو يوم عظيم ذو أهمية خاصة وقدسية كبيرة عند المسلمين وخصوصاً الشيعة منهم، وذلك هو بمثابة إعلاناً رسمياً في تعيين الإمام علي -عليه السلام-في هذا اليوم أميراً للمؤمنين من قبل الله تعالى).
الذين يغمضون عيونهم عن الحقائق، ويحيدون بصائرهم تحت حجج غض الطرف عن محطات التاريخ المؤلمة لا يمكنهم الاستفادة من أخطائهم، وسوف يبقون يدورون في حلقة مفرغة، بحثا عن الصواب وهو يتجسد أمامهم في محطات الحق التي لا ينبغي عبورها دون استجلائها جيدا، بما يجعلهم أكثر وضوحا وقدرة على إعلاء كفة الحق ومعالجة الأخطاء السياسية أو غيرها.
خطورة غض الطرف عن الأخطاء
ارتكاب الأخطاء في تاريخ الأمم ليس حكرا على أمة بعينها، جميع الأمم تتعرض لأخطاء كبرى في تاريخها، لكن الأفضل من بينها، هي الأمة التي تقرأ تلك الأخطاء بعين الحق والعدل والإنصاف، ثم تسعى للتصحيح والاعتراف، ومعالجة جروح الماضي بعقول راجحة ونفوس ترتفع فوق الضغائن والأطماع.
في حين أن غض الطرف عن الزلّات الكبرى، ومحاولة عبورها بحجة التقارب والانسجام، فهذا لا يلغي حقيقة الأخطاء وفداحتها، فما بالك حين يطول الخطأ رجلا عظيما من رجال المسلمين مثل الإمام علي عليه السلام الذي كسب احترام القاصي والداني، من المسلمين أو من الأمم الأخرى الذين يكنون له بالغ الاحترام، حتى تبوّأ مكانة العظماء في تاريخ البشرية.
يقول الإمام الشيرازي:
(المنقّب في التاريخ تنكشف له حقيقة ناصعة لا يمكن إخفاؤها، وهي: أنّ التاريخ يذكر العظماء في صفحة من نور، ويسجّل لهم فيها الإجلال والإكبار كلاً على قدر عظمته).
منهج التلاعب والتزييف وتعتيم الحقائق أثبت فشله للجميع وفي مراحل التاريخ كافة، كما أنه يدل على تعنت أخرق ضد الحق، فمن يريد القفز على الحقائق سوف يحصد الفشل المستدام، مثله مثل من يريد أن يغطي شمس الحقيقة بغربال، وهذا لن يتحقق مطلقا، فحقائق التاريخ ثابتة والأدلة قاطعة والأسانيد لا يمكن تحريفها.
لهذا فشلت سياسة تحريف واقعة الغدير، كونها تقف بالضد من الشواهد والإثباتات غير القابلة للتحريف، كما أن صياغة التاريخ بما يحقق للمنحرفين مآربهم لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، ولا يمكن أن تصمد أمام المحطات الحاسمة المسنودة بالشهود والتدوين المقرون بالدلائل التي لا يمكن تحريفها.
وقد جرب من جرّب على مدى التاريخ الإسلامي كي يحرّف وقائع يوم الغدير، فما هي نتائج تحريفه؟، وتدخلت ماكنات التضليل الفكري والإعلامي بقوة المال والنفوذ وما شابه من أساليب، وسعت بقوة لتغيير وتزييف ما حدث تحت (السقيفة)، لكن ما هي النتائج التي حصدتها أساليب التضليل والتشويه؟، فالحقائق التاريخية بقيت متوهجة وتمّ تدوينها بأحرف من نور، وبقي الإمام علي عليه السلام شخصية تاريخية إنسانية مضيئة على مدى الأزمان.
خطوات العودة إلى الجادة الصواب
الإمام الشيرازي أكد هذه النقطة حين قال:
(مهما حاول شخص أن يتلاعب في التاريخ ويشوّه الحقائق ويحرّفها، فإنّ مصيره الفشل عاجلاً أم آجلاً؛ لأنّ الزيف والتحريف يظهر من تضارب أقوال المزيفين وتناقضها).
فإذا تمكن المزيِّفون من إخفاء الحقائق، وتبديلها بما يتنافى مع الحق، ومع ما حصل فعلا في السياق التاريخي، فإن هذا الجهد التضليلي الذي صرُفت عليها أموالا طائلة وجهودا مضنية، لم يستطع أن يصمد أمام ضوء الحقيقة الساطع الذي فضح كل أنواع التضليل، وكشف كل مآرب التحريف، وبقيَ يوم الغدير معروفا بحقائقه الدامغة، غير القابلة للتزييف.
فيما بقي البطل التاريخي للمسلمين، الإمام علي عليه السلام، علامة فارقة في تاريخ الإنسانية كلها، علْماً وعدلاً وشجاعةً وصبراً وحكمةً، فاكتسب مكانته العظمى، وهي المكانة التي استعصت على أعدائه، فذهبوا إلى التضليل والتحريف كي ينالوا من شخصيته وتاريخه، لكنهم فشلوا لأنهم كمن يسعى لدحر الحق.
الإمام الشيرازي يقول:
(لقد بقي الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام- رغم أنوف أعدائه علماً من أعلام الدين وركناً من أركان الهدى والتقى، ليس عند شيعته فقط بل وحتى عند الآخرين).
درس الغدير يجب أن لا يمر دون تمحيص واستقصاء وبحث عميق، فنحن كمسلمين وكدول إسلامية نحتاج اليوم في هذا العالم المطرب الذي يضج بالظلم إلى مراجعة صادقة وعميقة لما وقعنا فيه من كبوات مريرة، إننا يجب أن نستفيد مما حدث في ماضينا، ومن أهم وقائعه وحقائقه وأحداثه، ما حدث تحت (السقيفة) من تشويه وتحريف وتآمر.
تنظيف الواقع الإسلامي اليوم من شوائبه، وعودة المسلمين إلى مكانتهم بين الأمم، يستدعي عودة إلى تلك المحطات الخاطئة، وعلينا تصحيحها بتصميم من فهم كبواته وأسبابها، وآمن اليوم بأنه لا مجال للعودة إلى جادة المجد والسؤدد، إلا بفهم ملابسات (السقيفة)، وبحثها وفق الشواهد والأسانيد القاطعة، ومن ثم إحقاق الحق، والاعتراف بكل ما حملته وقائع الغدير دون مواربة أو تردد، أو محاولات لا تصمد أمام قوة الحقائق والأدلة التاريخية الموثَّقة.
ونظرا لأهمية يوم الغدير، في دعم الحقيقة التاريخية، وتعديلا لمكامن الزلل والانحراف، وإيمانا بأن الأخطاء المفصلية الكبرى يمكن وضعها تحت مجهر البحث والمناقشة والتصحيح، دعا أئمة أهل البيت عليهم السلام إلى التشبث بهذا اليوم (يوم الغدير) لأنه يمثل جوهر الحق والتمسك به، والاحتفال به بطريقة تنسجم وقيمته العظيمة في تاريخ المسلمين وحياتهم الحاضرة والمستقبلية.
يقول الإمام الشيرازي:
(كان الأئمة من أهل بيت رسول الله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يوصون شيعتهم بالاحتفال بهذا العيد العظيم وإظهاره بأجلى المظاهر، فهم -عليهم السلام- كانوا يجعلونه يوما فريدا ومشهودا بين أهليهم وذويهم).
عيد الغدير الأغر، نافذة لأمة المسلمين كي تستعيد مجدها التليد، وذلك بالنظر إلى هذا العيد وما جرى فيه من أحداث مصيرية، على أنه قضية حق وضع فحواها وتفاصيلها نبي المسلمين محمد صلى الله عليه وآله، وأن كل من يسير على خطاه، عليه أن يعيد الحق إلى نصابه، وأن يدعم هذا الحق إلى ما لا نهاية.
اضف تعليق