بناء المنظومة الاخلاقية والتربوية اضافة الى أنها تفيد الانسان الفرد وتساعده على تلمّس طريق الرشاد والسعادة، فانه يفيد سائر افراد المجتمع بتعزيز التماسك والتلاحم فيما بينهم، وهو ما أشار اليه سماحة الامام الشيرازي، ولكن ماذا لو حصل وأن تركز العمل على البناء لمصلحة الذات...
مقدمة:
الشعوب التي حققت تقدماً اقتصادياً وازدهاراً معيشياً، والتي أحرزت انتصارات على قوى الاستعمار وانتزعت منه الاستقلال والسيادة والكرامة، كانت قبل هذا قد انتهت من البناء الداخلي لإنسانها ليكون مؤهلاً لقيادة المرحلة القادمة والاستفادة من الفرص المتاحة بأفضل ما يكون، فالشعب الهندي لم يتذوق الاستقلال من الاستعمار البريطاني إلا بعد أن بنى فيه قائده غاندي روح التسامح والتعاون والتكافل، وكذا الحال في الصين الذي بنى قادته في نفوس ملايين الشعب روح العمل والمساواة، فأضحت الصين اليوم قوة تنافس القوى الاقتصادية العالمية، وتتفوق عليها في كثير من الجوانب.
الحضارة الاسلامية التي بزغت من الجزيرة العربية وأطلقت شعاعها في آفاق العالم كانت سابقة على الجميع في هذا البناء الداخلي، والآية الكريمة من سورة الأعراف التي تبين مهمة النبي الأكرم ودوره: { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، تكشف جانباً من هذا البناء، وهو ما استشهد به سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، داعياً المسلمين للعودة الى مشروع البناء الداخلي لاستعادة التماسك الاجتماعي، و وعي القيم والمبادئ والايمان بها من أعماق القلب، ثم لتكون المنطلق لحل المشاكل والازمات التي يتخبط فيها المسلمون.
لنقرأ ونستمع:
المنظومة الاخلاقية تضمن حاجات المجتمع
"ضمن الاسلام للبشرية حاجاتها الاساسية من زواج، ومسكن، وعمل، وغيرها من خلال قوانين ثابتة تقوم على بنائين: الأول: البناء الداخلي، والثاني: البناء الخارجي، بالنسبة للبناء الداخلي فهو يتمثل في؛ الصدق، والامانة، والتعاون، والنشاط، والاستقامة، والشجاعة، والغيرة، وغيرها من القيم والمبادئ الحقّة، والاسلام يهتم بهذا البناء ويؤدي الى تماسك المجتمع وقوته، وقد قالها الشاعر أحمد شوقي:
إنما الأمم الاخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والاخلاق من لُبنات البناء الداخلي التي تجعل الانسان مستقراً في بلده عندما يكون متوفراً على الاجواء الايمانية، والنظم القيمية، لكن عندما يفتقد لكل هذا في بلده فانه سيهجره قطعاً ويختار مكاناً آخر للعيش، فمعيار البقاء والحب للبلد ليست الوظيفة والمال والمسكن والظواهر الجميلة، وإنما الحب في الله –تعالى- والايمان والفضيلة.
ولذا عندما ينهار البناء الداخلي فان المجتمع سيتمزق ويتشتت وينهار ايضاً، فالذي يجمع الناس في مناسبة معينة هو المشاعر المشتركة، وهي؛ الحب والولاء الذي نجده بأشكال مختلفة كأن يكون الولاء للوطن، والولاء للشعب، والولاء لأهل البيت، والولاء للأب والولاء للأم، وسائر الولاءات الموجودة".
ما معنى أن يكون لديك ولاء وانتماء؟
في مقال سابق بحثنا فيه العلاقة بين افراد الأمة والأئمة المعصومين؛ بدءاً من أمير المؤمنين، وانتهاءً بالإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، أشرنا الى حقيقة ضآلة عدد الموالين الحقيقيين للأئمة طيلة فترة حياتهم التي تصل ربما الى حوالي ربع قرن من الزمن، فهم لم يتجاوزوا بضعة مئات، بمن فيهم أصحاب الامام الحسين يوم عاشرواء، وذكرنا حديث الامام السجاد، عليه السلام، بأن اصحابنا لم يتجاوز عددهم العشرين! وكذا قصة الامام الصادق مع الدعاة للثورة على الأمويين وتسلم مقاليد الحكم، وكشف لمن يعده بالبيعة من الآلاف المجندة، بان اصحابه الحقيقيين المستعدين للتضحية عن إيمان عميق هم من أمثال ذلك الرجل الذي دخل التنور المسجور بأمر من الامام، ثم خرج منه بأمر منه، عليه السلام.
البناء الداخلي الذي يدعو اليه الامام الشيرازي هو الذي جعل ذلك الرجل يدخل التنور المسجور دون أدنى تردد، وقبله بسنوات؛ هو الذي دفع بالحر الرياحي لأن يقطع علاقته بمعسكر الباطل الى الأبد ويلتحق بمعسكر الامام الحسين، وفي رواية تاريخية من الاحداث التي سبقت يوم عاشوراء أن مشادة كلامية حصلت بين الإمام الحسين والحر، وهو بعد على ألف فارس من الجيش الأموي، ففاجأه الإمام بالقول: "ثكلتك أمك يا حُر"! فتغير وجه الحر، وتعرض لموقف حرج وصعب للغاية أمام افراد جيشه، ولكن؛ أسعفه بناؤه الداخلي، فحافظ على رباطة جأشه، وقال للإمام: ماذا أقول لك وأنت ابن فاطمة الزهراء؟! وكما اسعفته معرفته في تلك اللحظة الحاسمة، فقد اسعفته مرة أخرى في الاختبار الأخير والكبير عندما عرف أن القيم والمبادئ التي بُني عليها عقله ووجدانه لا تنسجم بالمرة بقواعد البناء لدى شخص مثل عمر بن سعد، بل وجميع من تجحفل خلفه طالباً الإسهام في قتل ابن بنت رسول الله.
إن هذا الولاء يصنعه البناء الداخلي في نفس الانسان للقضايا الكبرى في حياته، لذا نجد من يضحي بدمه وماله دفاعاً عن وطنه وعرضه، وايضاً عن عقيدته كما حصل في التجربة الرائعة في العراق عندما خرج آلاف الشباب من بيوتهم، فمنهم المتزوج حديثاً، ومنهم المقبل على الزواج والعمل والمستقبل الواعد، ليواجهوا بحزم وشجاعة اجتياح عناصر تنظيم داعش التكفيري للاراضي العراقية عام 2014.
ونفس هذا الوطن (العراق) في عهد صدام، كان يُساق الشباب في ثمانينات القرن الماضي الى جبهات الحرب (الحرق) وهم كارهون، فقتل من قتل، ونجى من نجى بالهرب داخل او خارج العراق.
البناء لمصلحة الذات أم لخدمة المجتمع؟
بناء المنظومة الاخلاقية والتربوية اضافة الى أنها تفيد الانسان الفرد وتساعده على تلمّس طريق الرشاد والسعادة، فانه يفيد سائر افراد المجتمع بتعزيز التماسك والتلاحم فيما بينهم، وهو ما أشار اليه سماحة الامام الشيرازي، ولكن؛ ماذا لو حصل وأن تركز العمل على البناء لمصلحة الذات، وأن يفكر الفرد كيف يكون ناجحاً، وشجاعاً، وسعيداً في حياته، فهل بالضرورة يستفيد الآخرون من هذه الشجاعة، والنجاح والتألق والتفوق الشخصي؟
علماء التنمية البشرية افترضوا هذا الاحتمال، وحاولوا الربط بين نجاح مشاريع نهضوية وتنموية شاملة لجميع افراد الشعب، ونجاح الفرد الواحد في استثمار "طاقاته الايجابية"، وفي تنمية مهاراته الخاصة، بيد إن عدم وجود ضمانات مؤكدة في هذا الطريق بسبب خاصية هذا النمط من البناء وآلياته، هي التي تدعونا دائماً الى خيار البناء القيمي والحضاري الذي نجح طيلة قرون من الزمن، ليس فقط في تماسك المجتمع الاسلامي والامة العابرة للحدود والفوارق، بل وفي تمهيد الطريق لتصدير التجربة الى جميع سكان العالم.
لنلق نظرة سريعة على آثار هذا النمط من البناء الحضاري في واقعنا اليوم، فما أن نكون بحاجة الى مساعدة الشريحة الفقيرة وذات الدخل المحدود خلال جائحة كورونا، واجراءات الحظر، وحتى قبلها في مناسبات اخرى، حتى نكون لصيقين بهذا البناء الداخلي القائم على حب الخير للآخرين، وتكريس ثقافة التكافل والتعاون والشعور بالمسؤولية الجماعية، وكلما كانت آثار هذا البناء في نفس الدكتور، وفي نفس التاجر، وفي نفس كل فرد من افراد المجتمع، أكثر بروزاً، كانت الآثار أكبر على صعيد الواقع.
اضف تعليق