ان استشراف المستقبل لسماحة الامام الراحل لم يلق التفاعل المطلوب من معظم الاطراف والجهات، كونها تستهدف مصالحهم وكيانهم، وتجعلها ضمن علامة استفهام في بعض الحالات، فيما يتعلق بنظام حكم، او تنظيم سياسي، او حتى في الأوساط العلمية والثقافية، وهنا تكمن شجاعته طاب ثراه في محاولة إيصال الحقيقة الى...
"هل العالم سليم الصياغة"؟!
من كتاب: الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والسلام
عندما أطلق المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي هذا التساؤل في أول كلمة لكتابه الصادر في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، كان العالم آنذاك يدّعي أنه وصل الى حافة التاريخ في العلوم والتكنولوجيا وتقديم أفضل الخدمات، فكانت الانظمة السياسية مستقرة بالعالم نسبياً، ولا أثر لفوضى او حروب أهلية او أزمات اقتصادية عالمية، وحتى الحروب التي كانت تشتعل آنذاك في افغانستان والخليج، إنما كانت ضمن سيناريو الهيمنة والنفوذ الذي أعطى نتائجه فيما بعد، حتى بلغ الأمر أن يطرح الاسرائيليون، وبقلم شمعون بيريز نظرية "الشرق الأوسط الجديد" في مطلع التسعينات، لذا كان تساؤل من هذا النوع بحاجة الى قدر كبير من الجرأة والشجاعة للتشكيك بالنظام العالمي المغرور آنذاك.
وليس من السهل التنبؤ بعواقب الاعمال وسوء الواقع في بلد ما، لما يمكن ان يثيره من مخاوف أصحاب المصالح الاقتصادية والمناصب السياسية، إذ الجميع يسعى لإبقاء الامر الواقع دون تغيير، فما بالنا اذا كان التنبؤ هذا يشمل العالم بأسره وليس بلداً واحداً، فهذا يحتاج الى أدوات، ورؤية، الى جانب الشجاعة والصلابة في الرأي والثقة العالية بالنفس. وهو ما توفر في شخصية المرجع الديني الراحل الذي نعيش هذه الايام ذكرى وفاته، ففي معظم كتبه وأحاديثه كان يؤشر الى مآلات الواقع السيئ الذي تعيشه البلاد الاسلامية، والعالم بأسره، وأن البناء غير الصحيح للنظام العالمي لابد وأن يتصدّع يوماً ما، وهو ما حصل فعلاً وبشكل غريب ومريع في الوقت الحاضر، وتحديداً بعد سقوط العالم أجمع صريعاً أمام فيروس "كوفيد19".
كانت لدى المرجع الراحل أدوات لاستشراف المستقبل، جعلت تنبؤاته تضرب في الصميم وتعالج الازمات بشكل واقعي وصريح، نذكر من هذه الأدوات:
1- القرآن الكريم والسنّة المطهرة
عندما كان سماحته يدعو الى السلم ويحذر من عواقب الانزلاق في متاهات الحروب، فانه يستشهد بتجربة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في بداية تأسيسه الدولة الاسلامية في المدينة، بعدم البدء بأي حرب على الكفار والمشركين وحلفائهم، وإنما التوقف عند الدفاع عن النفس، وهكذا كانت استراتيجية أمير المؤمنين، ومن بعده الإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام، والأئمة من بعدهم، فجميع من خاض الحروب والمعارك في الجبهة المضادة لم يبق لهم أثر اليوم، بينما نجد النبي الأكرم، وأمير المؤمنين، والأئمة الاطهار يذكرون كرموز حضارية، ليس في البلاد الاسلامية، بل وفي جميع أنحاء العالم.
كذلك الحال عندما كان يدعو الى الحرية والعدل والمساواة، كانت الآيات القرآنية وأحاديث المعصومين، عليهم السلام، تعزز من الرؤية المستقبلية لهذه القيم والمبادئ، وتكشف عن العمق الحضاري لها، لاسيما في قضايا خلافية تسبب السياسات الحاكمة في العالم في حدّتها وتعقيدها، مثل؛ تحديد النسل، وحرية العمل والتجارة والبناء، والحدود الجغرافية المصطنعة التي يعدها المرجع الراحل فتنة زرعها المتسعمرون في البلاد الاسلامية.
اعتماد المرجع الراحل على هذه القاعدة الرصينة جعل استشرافه للمستقبل يكون ذو مصداقية عالية ومشهودة، فما برحت السنين إلا وثبت لدى الدول التي حاربت الأجنة في بطون الأمهات لأن تنقلب على اعقابها وتطالب بشدّة بتكثير النسل! بعد أن أصبح المجتمع ينحدر نحو الشيخوخة وفقدان الشباب، وهو أهم عامل قوة في أي بلد بالعالم، ومن اجل ذلك كان سماحته من أوائل المشجعين على الزواج، وكان يدفع بالمؤسسات لإقامة حفلات الزواج الجماعي، فكانت بواكير هذه المبادرة التي لم يشهد له العالم مثيلاً في بداية الثمانينات، ولمن كان يتحدث عن التكاليف والمشاكل الاقتصادية، كان يجيبه بالآية القرآنية: {وإن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله}، وكان يسأل الشباب، اذا وعدك تاجر بإعطائك مبلغاً للزواج لاشك أنك تصدق به، فماذا تقول: اذا وعدك الله –تعالى- بأن يجعلك غنياً؟
2- تحسس آلام الناس
الدوافع والنوايا لها مدخلية كبيرة جداً في مسألة التنبؤ للأحداث والقضايا الراهنة، فتارةً يكون الدافع للشهرة العلمية، وتارةً اخرى لمصالح مادية ولكسب امتيازات معينة، بيد أن مصالح الأمة ومصيرها، وما تعيشه من آلام وأزمات خانقة كان يمثل أكبر دافع ومحفّز لمساحة الامام الراحل لأن يستشرف المستقبل ويبحث في المآلات لحؤول دون تفاقم الازمات وتعاضم المصائب على الامة، يبقى فيمن يطبق ويلتزم بهذه التنبؤات التي تعد من شخصية مثل الامام الراحل المعروف بشخصيته العلمية واهتماماته، وايضاً بخلفيته التاريخية، بمنزلة النصائح.
وهذه النصائح هي بدورها بحاجة الى شجاعة فائقة في الطرح في ظروف غاية في التعقيد، كالظروف التي مر بها العراق قبل الاطاحة بنظام صدام، ففي بدايات التسعينات من القرن الماضي، حيث تنحّى العراقيون عن محاولتهم الاطاحة بنظام صدام من خلال الانتفاضة الشعبانية في شهر اذار عام 1991، وفي غمرة اليأس والاحباط، مضافاً اليه سياسة القمع الدموية التي مارسها صدام في تلك الفترة، واذا بسماحة الامام الراحل يدرج فقرة في كتابه القيّم؛ "اذا قام الاسلام في العراق"، تحت عنوان: "العفو العام" في سياق اجراءات وبرامج مستقبلية لنظام ناجح لما بعد صدام، الامر الذي أثار استغراب واستنكار البعض من المناوئين له في بلاد المهجر، بكيفية إصدار العفو عن المجرمين ورجال السلطة ممن "تلطخت أيديهم بدماء العراقيين".
هذه القضية الجنائية لا يناقشها الامام الراحل قانونياً، وإنما يناقشها حضارياً لما يفيد مستقبل الاجيال، وليس حاضر العراق فقط، ويؤكد ان "عدم العفو يوقع الحكومة في مشاكل لا تُعد، حيث ان القتل والملاحقة لا تبقى في دائرة خاصة، بل تتعداها الى دوائر أوسع وأوسع، اضافة الى أن عدم العفو من معانيه؛ مصادرة الاموال، وكلا الأمرين يوجبان تكوين الاعداء، وأحياناً يتسبب ذلك في الإطاحة بالحكومة كما شاهدنا ذلك في بعض الحكومات التي قامت في العراق".
ولعل أروع ما استشرفه الامام الراحل في هذا المجال ما يتعلق باستغلال وسائل الاعلام لحالة العنف والعنف المضاد، كما حصل طيلة السنوات الماضية، فان "عدم العفو يوجب تأليب الإعلام في سائر البلاد على الحكومة الفتية مما يسبب فقدان شوكتها وضياع سمعتها، وذلك يوجب الفشل".
علماً أن سماحته قد أشار الى هذه الفقرة في كتابه القيّم والرائع؛ "الصياغة الجديدة" منذ بداية الثمانينات، مؤكداً على قضية العفو عن المسيئين وحتى المجرمين، وذلك في نطاق الدولة الاسلامية الكبيرة، بيد أن مجريات الاحداث في العراق منذ غزو الكويت، ثم الحرب المدمرة لإخراج القوات العراقية من الكويت، ومن ثمّ اندلاع الانتفاضة الجماهيرية المسلحة كإفراز للهزيمة العسكرية المؤلمة، وما أعقبها من قمع وحشي لها، دفع بسماحة الإمام لأن يستشرف المستقبل ويؤكد بأن النظام العراقي كتب نهايته بنفسه منذ قمعه لهذه الانتفاضة، لذا يتعين التفكير بالمستقبل وصياغة نظام حكم بديل بمعايير ومنهجية مميزة تنتشل العراق من كل ما عاشه من ديكتاتورية وفساد وانحراف طيلة قرن من الزمن، وإلا فان التكهنات والتوقعات كانت تخرج من هنا وهناك بشأن مستقبل الوضع السياسي في العراق، كلها لا ترقى الى الواقع الاجتماعي لانها كانت تحوم في دائرة الإعلام والسياسة والمصالح الخاصة.
3- المطالعة والمتابعة
التصدّي لقضايا مستقبلية للأمة، وفي جميع المجالات مهمة غاية في الصعوبة والتعقيد، تشوبها تحديات جمّة، أبرزها؛ المصداقية، ومن أجل تحقيق هذا المطلب، يجنح العاملون في هذا الاتجاه صوب التخصص بغية الوصول لاستشراف يتوفر على حقائق وبراهين وأدلة، كأن يكون الاستشراف لقضايا في الاقتصاد، او في السياسة، او في السلم والحرب من خلال المطالعة المتخصصة في هذا الجانب او ذاك، فكيف يا ترى، تسنّى لسماحة الإمام الراحل استشراف المستقبل فيما يتعلق بقضايا مختلفة ومتباعدة من حيث الاختصاص، فأين السلم والحرب، من قضية تحديد النسل، والحثّ على الزواج؟ وأين حرية العمل والبناء، من قضية إنشاء منظومات اقتصادية وسياسية بين الدول الاسلامية على طريق التخفيف من الحدود المصطنعة التي أوجدها الاستعمار والتقريب بين مصالح الشعوب الاسلامية؟
كل هذا وغيره، ألمّ به سماحة الامام الراحل من خلال سلسلة من المطالعات والمتابعات من مصادر مختلفة لجمع أكبر قدر من المعلومات والمعطيات، فقد كان –رحمه الله- قارئاً نهماً لاسيما الكتب المترجمة من مؤلفين غربيين ومن بلاد اخرى، هذه المطالعة لما قدمه الآخرون من نظريات وأفكار، اضافة الى متابعة أحوال الشعوب الاسلامية ممن يحضر لديه، للحصول على تفاصيل دقيقة، من شأنها تكوين رؤية مستقبلية ثم التنبؤ لما يحصل.
وفي الختام؛ أجدني ملزماً بالقول: أن استشراف المستقبل لسماحة الامام الراحل لم يلق التفاعل المطلوب من معظم الاطراف والجهات، كونها تستهدف مصالحهم وكيانهم، وتجعلها ضمن علامة استفهام في بعض الحالات، فيما يتعلق بنظام حكم، او تنظيم سياسي، او حتى في الأوساط العلمية والثقافية، وهنا تكمن شجاعته –طاب ثراه- في محاولة إيصال الحقيقة الى هذه الجهات ليفيدها في حاضرها ومستقبلها، فيما هو راحل يوماً ما، ولن يستفيد مما يقوله سوى الاجيال القادمة، ولا أدلّ على هذه النقطة تحديداً مما التزمت به شريحة في المجتمع بالبرامج الروحية والمعنوية، من إقامة مجالس الذكر، وإحياء المناسبات الدينية، لاسيما ما يتعلق بالإمام الحسين، عليه السلام، وثقافة "الإطعام" مع نشر ثقافة المجالس الحسينية في البيوت لنشر الوعي الديني والثقافي، وما يتركه هذا من آثار تكوينية، ومعنوية مباشرة على اصحابها، وهو ما لامسه هؤلاء اليوم، ويستمر الامر لاجيال قادمة الى أمد غير معلوم.
فرحم الله الامام الشيرازي، الذي ترك برؤيته الشفافة واستشرافه الدقيق للمستقبل، بصمات عميقة في نفوس محبيه واتباعه، بل وعموم أفراد الامة بما انطوى ذلك من مصداقية وواقعية.
اضف تعليق