ولا تنشغل المنظومة الفكرية للإمام الشيرازي في المجالات المادية وحدها كالإدارة والسياسة والاقتصاد، بل هناك انشغال عميق بالأخلاقيات، وفي إطار ذلك يقدم الإمام نظريته العتيدة في اللاعنف، وما قدمته هذه النظرية من مقترحات ومعالجات قامت على حصر الأسباب والمسببات، وبحثت في المدخلات، وركّزت على المخرجات...
الأفكار مكمنها عقل الإنسان ورأسه، وإذا كان الناس والعلماء منهم يملكون عقولا يبدعون من خلالها، فإن العقول تختلف من حيث القدرات ونوع الأفكار التي تخرج منها، إضافة إلى مدى قدرة تلك الأفكار على التطابق مع الواقع والانبثاق منه ومجاراته وتصحيح مساراته الخاطئة.
سمة التنوع الفكري والانبثاق من الواقع، نجدها كباحثين أو متابعين أو متلقين، في المنظومة الفكرية للإمام الشيرازي، فأفكاره التي تحتضنها مجلدات وكتب نافت على الألف مؤلَّف بحثت في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والإصلاح وشؤون المرأة والشباب، وخاضت في الفروع أيضا، حين تصدّت هذه الأفكار المركّزة للصناعة والزراعة، والإدارة، والعقائد وسواها من المجالات التي تمس حياة الإنسان بصورة مباشرة، وكل ما تقدّم ذكره صيغَ بواقعية تامة.
لا يوجد بون أو فارق كبير بين الأفكار التي يطرحها الإمام الشيرازي كمعالجات أو مقترحات، وبين الواقع المُعاش، لهذا تميزت كتابات الإمام الشيرازي بالوضوح والدقة والبساطة والعمق في نفس الوقت، كما أنها امتلكت ميزة الرؤية الواقعية الثاقبة، إذ يندر أن يجد الباحث تعارضا أو تناقضا بين (فكر الإمام الشيرازي) وبين الواقع من حيث التطبيق.
هذه الميزة (تطابق الفكر مع الواقع المبحوث)، لا نجدها إلا عند العقول المتميزة بثرائها الفكري والخصوبة الكبيرة في الرؤية التي تسعى لمعالجة إخفاقات البشرية، بعد تأشير أسبابها، ومن ثم تقديم الحلول والمقترحات التي تتناسب مع واقع تلك الأسباب، ومن المؤسف حقا أن لا يتنبّه (القادة السياسيون والاقتصاديون والإداريون والعلميون) لهذه الميزة في كتابات الإمام الشيرازي.
على أننا يجب أن نقرّ بندرة الأفكار التي تنطلق من رؤية واقعية لمعالجة الإشكالات، مما انعكس ذلك على ندرة العلماء، أما في مؤلّفات ومحاضرات الإمام الشيرازي، فإن الباحث والمهتم والمعني يستطيع أن يكتشف بسهولة ويسر هذه الميزة العلمية النادرة للإمام الشيرازي.
فرادة المنظومة الفكرية للإمام الشيرازي
السياسي سواءً كان قائدا أو مسؤولا، يمكنه أن يجد الحلول التي تواجهه في أفكار الإمام الشيرازي التي تخوض في الواقع السياسي كما نقرأ ذلك في كتابه (عالم مجانين)، وكتابه (الفهم السياسي)، وغيرهما من المؤلَّفات التي نبشت الواقع السياسي وتحرّت عن تفاصيله بتركيز ودقة، وعرضت بعد ذلك المقترحات والحلول الناجعة التي يمكنها أن تساعد القادة السياسيين على معالجة المشكلات والعقبات التي تعترض مسؤولياتهم وقراراتهم وتطبيقها.
فكان لزاما على الساسة (المحليين والعالمين)، الانتباه للمنظومة الفكرية للإمام الشيرازي، وتخصيص ما ينبغي من وقت واهتمام عال لفهم هذه المنظومة، والتركيز عليها وفهما بكثير من النباهة والذكاء، ومن ثم الشروع في تطبيق المقترحات البناء (سهلة التنفيذ في الواقع)، ولا نخطئ إذا قلنا أن الساسة المسلمين في الدول الإسلامية وفي العالم خسروا الكثير من فرص الحلول لمشاكل العالم حين أخفقوا في التنبّه إلى المنظومة الفكرية للإمام الشيرازي والاستفادة منها وتوظيفها في تحسين النظام السياسي العالمي.
وهذا ينطبق على القادة الإداريين أيضا، فهؤلاء الذين يتحملون مسؤولية تقدم الأمة والدولة أو تأخرها، كان ولا يزال عليهم استغوار ما طرحه الإمام الشيرازي في مجال علم الإدارة، ويمكنهم القيام بذلك بعد الإطلاع المركّز على الأفكار والطروحات الإدارية التي يتضمنها كتاب (فقه الإدارة) للإمام الشيرازي، حيث لم يترك شاردة أو واردة لها علاقة بالإدارة إلا وتناولها بأسلوبه الذي يتميز بالوضوح والواقعية ويسر التطبيق وسهولته.
مثال ذلك ما يطرحه هذا الكتاب من مواصفات يجب أن يتحلى بها القائد الإداري، وهي مطروحة بشكل سلس واضح محبّب وبعيد عن الغموض أو التعقيد، فمن يسعى لكي يكون قائدا إداريا متميزا، عليه أن يتحلى بالصفات والإجراءات والمهمات والخصال التي أوجب الإمام الشيرازي توافرها عند القائد الإداري، وهي كما نعتقد مساهمة فكرية إدارية فعّالة وغنية قدمها الإمام الشيرازي للقادة الإداريين بما يساعدهم على أداء ريادتهم الإدارية بأفضل الطرق والخطوات.
ميزة الانشغال الفكري المادي والأخلاقي
لا يستثنى من ذلك المدراء في المدارس، أو رؤساء الجامعات والعمداء، وقادة المشاريع الكبيرة، بل حتى ربّ العائلة (الأب والأم)، كل هؤلاء سوف يجدون في المنظومة الفكرية السهلة الواقعية العلمية التي يضعها الإمام الشيرازي بين أيدين وفي مدار أبصارهم، الخرائط العملية التطبيقية التي تضع أقدامهم وخطواتهم على الجادة الصواب، وتجعل منهم قادة ناجحين متميزين، وهذا جل ما تميزت به كتابات وأفكار الإمام الشيرازي.
ولا تنشغل المنظومة الفكرية للإمام الشيرازي في المجالات المادية وحدها كالإدارة والسياسة والاقتصاد، بل هناك انشغال عميق بالأخلاقيات، وفي إطار ذلك يقدم الإمام نظريته العتيدة في اللاعنف، وما قدمته هذه النظرية من مقترحات ومعالجات قامت على حصر الأسباب والمسببات، وبحثت في المدخلات، وركّزت على المخرجات، ورسمت للبشرية الخطوط الواضحة لمعالجة الاحتقان العالمي وتخفيف أو تجفيف بؤر التوتر.
ومن ثم صناعة نظام عالمي يقوم على العفو والتعاون، واعتماد اللاعنف في جميع سواها، ونبذ العنف واستبعاده بشكل كلي في المحافظة على المصالح بمختلف مستوياتها، فاللاعنف من شأنه أن يحمي الأمم والدول الصغيرة، والأقليات من عنف وجشع الرؤوس الكبيرة التي تسعى للتحكم بالبشرية عبر نظام استحواذي احتكاري قائم على استخدام القوة والتعنيف المخيف وغير المشروع.
هذه الأساليب ترفضها نظرية اللاعنف للإمام الشيرازي، ولا تقف عند حدود الرفض اللفظي، بل تقترح أنظمة وحلول وخطوات لابد أن تسترعي انتباه قادة اليوم، خصوصا الدول والشركات العظمى والكبرى التي تحاول الاستفراد والتغوّل وفرض نظام الغاب على العالم كله، نظرية اللاعنف تقترح وتدعو إلى إقامة نظام عالمي بديل يستطيع جعل العالم أفضل باللاعنف.
وأخيرا لقد اجتهد الإمام الشيرازي، في رحلته الفكرية العلمية الرصينة إلى تقديم جهد فكري علمي منظّم، يقدّم من خلاله خرائط طريق للتطبيق القائم على الدقة والرصانة والتوازن والوضوح، حيث تتميز منظومته الفكرية بكونها الدليل الأصيل الذي يمكن أن يستعين به القادة السياسيون والإداريون والمدراء والمعلمون وحتى الآباء والأمهات وشريحة الشباب، لتطوير أدائهم ومن ثمة تحسين سبل العيش والارتقاء إلى مراتب الأمم المتطورة.
اضف تعليق