يوجد شرح لمأزق الأحزاب وطبيعة عملها، والنتائج التي تحققت على الأرض، مع إبراز خطر هدر التجربة الديمقراطية، وأخيرا هنالك حلول ومقترحات واقعية طرحها الإمام الشيرازي في أعلاه، يمكن للأحزاب من خلالها أن تنقذ النظام الديمقراطي وتنقذ أنفسها من جفوة شعبية قد تكون مزمنة أو أبديّة...
بعد الانتهاء من نظام الحزب الواحد والقبضة الحديدية للنظام الدكتاتوري في 2003، بدأنا في العراق عهدا جديدا مع الديمقراطية عبر السماح (دستوريا) بتشكيل الأحزاب وإطلاق الحريات السياسية والإعلامية، وحرية الرأي، وحماية الحقوق، فطفقت تتشكل عشرات الأحزاب الجديدة التي لم نسمع بها سابقا وهو شيء جيد بالنسبة لشعب لم يجرّب النظام الحزبي المتعدد، ولم يذقْ سوى قمع واستبداد (نظام الحزب الواحد)، لتبدأ مرحلة جديدة من الحريات لم يألفها العراقيون مع الحكم المستبد، ورافقتها العديد من المناظر الجديدة.
حصل المواطنون على حرية اقتناء جهاز الستلايت، وصار بإمكانهم متابعة مئات القنوات الفضائية بعد أن كانت حكرا على قناتين فقط وهما ترتبطان بحكومة الحزب الواحد، كذلك صار بمقدور العراقي أن يتصل بجميع أنحاء العالم عبر الهاتف النقال، وهي صور جديدة أدخلت الاستبشار في نفوس الجميع، ومع الإعلان عن أول دورة انتخابية لمجلس النواب، أتيحت المشاركة فيها لأكثر من 200 حزب، في مظهر ديمقراطي لم يعشه العراقيون بهذا العنفوان من قبل، وفي وقتها أقبلوا على صناديق الانتخابات كأنهم في أجمل الأعراس، لكن ما الذي جرى بعد ذلك؟
للأسف هناك فشل متجذر للأحزاب السياسية في التجارب الآسيوية عموما، وفي العراق أيضا، ويبدو أن الفشل القديم قد انعكس على الواقع الديمقراطي الجديد، ففشلت الأحزاب العراقية ولم تقدّم الصورة الناصعة للديمقراطية، في عموم مدن العراق، وهذا ما دوّنه التاريخ السياسي الحديث.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) قال في كتابه القيّم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام):
(إنّ الأحزاب السياسية واجهت الفشل منذ بداية تجربتها الاجتماعية المرتبطة بالانتخابات النيابية وانتخابات مجالس المدن).
أسئلة حائرة على ألسنة الجميع
عن أسباب فشل الأحزاب، أُثيرت أسئلة حائرة على أًلسنة الجميع، أسئلة عن مدى قدرة الأحزاب على التفاعل الجاد مع مجتمعاتها، وعن الخيارات التي ترتفع بمنسوب المتحقق من الأمنيات الضائعة في عهد الحزب الواحد، والحكومات المستبدة الفاشلة، وهل هي أحزاب تشكّلت من أجل الصالح العام، بحيث تأبى تقديم مصالحها على واجباتها، وبالتالي هل هي أحزاب تعمل من أجل إبراز بلادها من بين بلدان العالم، وهل إعلاء شأنه في ومقدمة أهدافها.
الإمام الشيرازي طرح الكثير من تلك الأسئلة: (هل للأحزاب مقدرة على تجسيد الخيارات الاجتماعية للشعوب؟ وهل هي قادرة على أن تكون سنداً وقوةً للجماهير الشعبية؟ وهل هي قادرة على أداء الرسالة والقيام بالواجبات، وتكون الحصيلة إقبال الناس على عضويتها والعمل على إعلاء البلاد؟).
إقبال الناس على الأحزاب لا يمكن أن يتم من دون أن تثبت تلك الأحزاب بأنها قادرة على الإجابة عن تلك الأسئلة بصيغة عملية ملموسة، فإن كانت الأحزاب قادرة على جعل العلاقة بينها وبين الشعب، علاقة حقوقية وليس علاقة غالب ومغلوب، فإنها لا ريب سوف تستقطب الملايين من الناس للانضمام في صفوفها.
ولكن هذا يطرح أسئلة جدّية، يتم تقديمها لتلك الأحزاب، وعلى الأخص تُقدَّم إلى قادتها، ومدى قدرتهم على ردم الفجوة الواسعة بين أحزابهم وبين عامة الناس، من ضمن تلك الأسئلة الجادة والمصيرية، ما صاغهُ الإمام الشيرازي على النحو التالي: (هل يمكن لزعمـاء الأحزاب أن يوجدوا رابطةً أو صلةً مع جماهير الشعب على أساس الخيارات المشتركة؟ وفـي أي ظروف يمكن للأحزاب السياسية أن تكون مكملّةُ للديمقراطية الاستشارية؟).
السؤال واضح في مفرداته وطرحه ومغزاه، وطبيعة الإجابة عنه من قادة الأحزاب، ومن الأعضاء الفاعلين فيها، هي التي يمكن أن تجعل العلاقة التبادلية سليمة وقائمة على الثقة أم سيحدث العكس، والحقيقة أن الواقع السياسي في دول آسيوية عديدة ومن بينها العراق، يدل على أن الأحزاب تعاني من جفوة كبيرة بينها وبين الجماهير، والأسباب لا تحتاج لتفسير، فعجز الأحزاب وقادتها عن تقديم الديمقراطية بصورتها الصحيحة للجماهير من أقوى أسباب فشلها.
على العكس تماما من تجارب الأحزاب الغربية التي استطاعت أن تؤثر في الجماهير، وتبني معها صروحا رصينة وقوية من الثقة، حتى توطّدت العلاقة بينهما وباتت الأحزاب تهدد أقوى الحكومات بالسقوط فيما لو رفضت الأحزاب تأييدها، وبات مصير الحكومات مرهونا بقبول الأحزاب السياسية التي تتمتع بعلاقات وطيدة مع الجماهير، من خلال استجابة تلك الأحزاب لطموحات الناس واحتياجاتهم وحفظ حقوقهم وصيانة كرامتهم، على العكس من العلاقة الفاترة بين أحزابنا والجماهير، وانعدام الثقة شبة التامة بها!.
يقول الإمام الشيرازي: (إن قوة الأحزاب في البلدان الغربية في تصاعد نظراً لإقبال الناس عليها، حتى باتت الحكومات غير قادرة على البقاء في السلطة أو في سعيها للسلطة دون دعم ومساندة من الأحزاب).
مقترحات وحلول للأحزاب الفاشلة
من المؤسف أن تكون مصالح أحزابنا السياسية مقدَّمة على حقوق الناس، وهي علامة فشل لا يمكن الاعتراض عليها أو إنكارها، كما أنها تهدد بقوة مستقبل هذه الأحزاب ووجودها، ومن الواضح أن قادة هذه الأحزاب ونسبة كبيرة من قواعدها لم تطّلع على تجارب حزبية مهمة في التاريخ السياسي العالمي، كما أنها أغفلت التعلّم من تجاربنا الإسلامية الناجحة في الحكم وفي الحريات وحق المعارضة والأمانة وحفظ حقوق الشعوب.
وأمام هذا العجز والشلل الذي عانت وتعاني منه الأحزاب السياسية (في العراق)، ضاع الحكم الديمقراطي النموذجي للدولة العراقية وربما تضيع فرصة العهد الديمقراطي ما بعد زوال الحكم الاستبدادي، في حين أن الأحزاب الغربية على سبيل المثال، قدمت نموذجا جيدا في بناء أنظمة الحكم، حتى بات وجود الأحزاب من المستلزمات التي لا يمكن للديمقراطية أن تتحقق من دونها!.
كما أكد الإمام الشيرازي ذلك في قوله: (أصبحت الأحزاب السياسية في المجتمعات الغربية من مستلزمات الديمقراطية).
هل هناك حلول يمكن أن تلجأ إليها الأحزاب العراقية كي تنقذ فرصة الديمقراطية وتنقذ نفسها، سؤال ليس وليد الخيال، ولا ينتمي للطوباوية التي تفوق الواقع إلى ما فوق المعقول، إنه سؤال واقعي يقف الآن بقوة أمام الأحزاب وقادتها، وإذا أجابت الأحزاب بنعم نحن نبحث عن حلول واقعية تنقذ التجربة الديمقراطية والتعددية، فإن الإمام الشيرازي يقدم مقترحات يمكن أنْ يُعمَل بها في حال توافرت النيّة الصادقة مع القدرة على الالتزام الإجرائي.
الإمام الشيرازي يطرح الحل التالي: (يجب أن يكون للأحزاب السياسية ومؤسساتها تأثيراتها الواضحة على تحسين الحياة الاجتماعية وغيرها).
هل انعكست نتائج أنشطة الأحزاب على حياة العراقيين كما جاء في الحلّ أعلاه، وهل تحسَّنت أوضاع الناس في ظل نظام الأحزاب الحالية والنظام البرلماني الذي يعدّ عالمياً من أفضل الأنظمة في دول كثيرة؟، الإجابة عن ذلك لا تحتاج إلى عناء كبير، فواقع حياة العراقيين وهدر مواردهم البشرية والطبيعية، وحالات التقاسم والصفقات والاختلاس والفساد السياسي والإداري المتعاظم، يدل على عدم رغبة قادة الأحزاب بتحسين حياة الشعب.
ويرى الإمام الشيرازي أهمية أن تبادر الأحزاب بخطوات جادة لدعم المجتمع، تتجسد من خلالها مشاركة فعالة في بناء هيكلية المجتمع، بمعنى تصبح عامل قوة لتقليل الفوارق الطبقية، وتعمل على دعم الطاقات الشبابية في الميادين الفعالة، كالعمران والصناعة والزراعة، مع المبادرات المستمرة لامتصاص البطالة، وتشجيع المشاركة السياسية، ونشر العدالة الاجتماعية، ولن يتحقق هذا من دون التخلي التام عن استئثار الأحزاب بالسلطة ومغانمها!.
يقول الإمام الشيرازي: (يجب أن تُشكّل الأحزاب السياسية أساساً أو دعامات هيكلية المجتمع).
فيما تقدّم يوجد شرح لمأزق الأحزاب وطبيعة عملها، والنتائج التي تحققت على الأرض، مع إبراز خطر هدر التجربة الديمقراطية، وأخيرا هنالك حلول ومقترحات واقعية طرحها الإمام الشيرازي في أعلاه، يمكن للأحزاب من خلالها أن تنقذ النظام الديمقراطي وتنقذ أنفسها من جفوة شعبية قد تكون مزمنة أو أبديّة!!.
اضف تعليق