قد ينشغل الإنسان في دوّامة التفاصيل اليومية الكثيرة والعابرة، وينسى ما أودعه الله فيه من طاقات عظيمة وهائلة، فريدة في تنوّعها، وغنية بعمقها، ورائعة في بساطتها، وغاية السهولة في استخدامها، إذا كان الإنسان واعيا عارفا بهذه الطاقات المتنوّعة، ومقدِّراً لقيمتها ومكانتها العظيمة في تطوير حياته...
قد ينشغل الإنسان في دوّامة التفاصيل اليومية الكثيرة والعابرة، وينسى ما أودعه الله فيه من طاقات عظيمة وهائلة، فريدة في تنوّعها، وغنية بعمقها، ورائعة في بساطتها، وغاية السهولة في استخدامها، إذا كان الإنسان واعيا عارفا بهذه الطاقات المتنوّعة، ومقدِّراً لقيمتها ومكانتها العظيمة في تطوير حياته، وجعله من المتفوقين المتميزين دائما بين أقرانه ومن حوله.
الطموح يعدّ بمثابة الوقود الذي يحرك الطاقات الإنسانية، فلكل حركة وقود، وكل نشاط يستدعي طاقة تحركه وتغنيه وتدفع به إلى مرامه، والطموح هو طاقة ووقود الإنسان وهو يحثّ الخطى نحو ما يخططه من أهداف منشودة.
ما هي الطاقات التي أودعها الله في الإنسان، وما الغاية منها، وكيف يمكن استثمارها بالصور والطرائق المثلى؟
أسئلة تطرح نفسها على الإنسان المبالي والمهتم بها، الساعي والمخطط لارتقاء الدرجات العليا من بين أقرانه، نعم هناك أناس لا تعني لهم طاقاتهم شيئا، بل هم لا يعرفونها أصلا، إلا ما يتعلق بالغرائز التي لا يختلف فيها الإنسان المتميز بالعقل عن الحيوان الذي يفتقد له، فهناك غرائز جامعة بين الإنسان والحيوان، كالخوف والجوع والتكاثر الجنسي، هذه كلها غرائز جامعة، لكن الإنسان مودعة فيه طاقات إلهية هائلة، إذا بادر باستثمارها سوف يتربع ويتصدر القمة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يفصّل موضوع الطاقات الإنسانية، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (الطموح في حياة الإنسان والمجتمع)، فيقول:
(إن الطاقات التي أودعها الله تعالى في الإنسان، ليستعين بها في حياته كثيرة منها طاقات أربع هي: الطاقة الذهنية. الطاقة البدنية. الطاقة الزمانية. الطاقة المالية. وهناك طاقات أُخر مودعة في الإنسان لها شأنها ومكانتها وتأثيراتها في حياته الخاصة والعامة).
أسئلة الطموحات الكبيرة ؟!
سؤال في غاية الحساسية والأهمية، لاسيما حين يُطرَح على أناس ليس لديهم طموح في تطوير أنفسهم وحياتهم، فهناك من يكتفي بما لديه من صفات وأفكار، ناسيا أن جميع الصفات يمكن تطويرها نحو الأجود دائما، وذلك من خلال تنويع الأفكار وتطويرها، ومدّها بالجديد الفكري المستمد من الإطلاع والتبادل الفكري مع الآخر، حتى المختلف علينا أن نعرف أفكاره، حتى يتسنى لنا المقارنة معه وكيف نتفوق عليه، لا أن نمتنع عن قراءة أفكاره، فالطاقة الذهنية تمنحنا قدرة التفكير وتعميقه وتنويعه، وهي مرتبطة بالعامل الأهم ونعني به الطموح.
هذه هي الطاقات الكبيرة والمتنوعة المودعة في الإنسان، والميزة الفريدة التي تفرزها هذا الطاقات، هي حالة التآزر فيما بينها، وليس التناقض أو التعارض، بمعنى أنها مترابطة متسلسلة داعمة لبعضها البعض، وليست معيقة، أو حاجزة، فالطاقة الذهنية تدعم البدنية والحسية، والطاقة المتأتية من النشاط البدني والحركة تتبادل المنفعة مع الطاقة المالية، والطاقة الداعمة لجميع الطاقات والتي تمنحها الديمومة في الوجود، هي الطاقة الزمانية.
يقول الإمام الشيرازي: (يرتبط بكل هذه الطاقات الأربع، سلسلة من الأمور الكونية! فالطاقة الذهنية: تدير الحركات الفكرية للإنسان. والطاقة البدنية: تدير الحركات الحسيّة والجوارحية للإنسان. والطاقة الزمانية: تمد الطاقتين الأوليتين بالوجود. والطاقة المالية: تنظم مختلف نشاطات الحياة).
لكن مما يؤخذ على الكثير منّا، أننا ميّالون للراحة والدِّعة والنوم والكسل، والسبب هو انطفاء محركات الطموح في عقولنا وأذهاننا، وضمور ملَكة الخيال لدينا، وتلاشي الرغبة في التغيير نحو الأفضل، وإذا وُجدت هذه الرغبة فقد يكون الطموح صغيرا أو بائسا في بعض الأحيان، حيث يكتفي الإنسان بما هو عليه، بل ويأكل من مخزونه الضئيل أصلا، فيما يفكّر غيرنا من الأمم المتقدمة بالمزيد من الطموحات والأهداف، حد أنّ بعضها يصل درجة المغامرة بفقدان الروح، كما نلاحظ في التزاحم المحموم حول الاكتشافات الفضائية، أو عموم المخترعات الإلكترونية والتكنولوجية في نحو أعمّ.
ليس صحيحا ولا حتى مقبولا أن تسعى أمم من حولنا، كي تبقى في المقدمة دائما، فيما نبقى نجتّر ما حققه الأجداد من منجزات وأمجاد، كان علينا أن لا نكتفي بالتفاخر بها، بل أن نشكل الامتداد الناجح لها، فتستمر تلك المنجزات الباهرة، ويستمر ذلك العلوّ والاختلاف المضيء، لنبقى نحتلّ المكانة التي وصلها أجدادنا، كل هذا مرهون باستثمار الطاقات الإنسانية المودعة فينا، بالطرائق والأساليب التي تبقينا من الأمم الحيّة المنتجة الذكية البارعة والطامحة نحو العلا دائما.
الفرص تمرُّ فوق رؤوسنا كالسحاب
على أننا لابد أن نفهم ونؤمن بأن الطموح الفردي، في حاصل جمعه هو طموح الأمة كلها والمجتمع كلّه، فلنستثمر طاقانا إلى أقصاها، وفق تخطيط سليم مدعوم بإصرار لا يكلّ، ونكف عن تضييع الفرص التي تمر من فوق رؤوسنا كالسحاب، وكم هو مؤسف ومؤلم أنها تمر، وكان يمكننا أن نستثمرها قبل أن تختفي عن أنظارنا وأفكارنا، لكننا لا نفعل، فتضيع الفرص، ويبقى الكسل مخيّماً على رؤوسنا، هذا هو جانب واضح من واقعنا الذي لا يليق بالإنسان ولا بطاقاته المذهلة.
يقول الإمام الشيرازي: (على الإنسان أن يستغل هذه الطاقات الإنسانية، الاستغلال اللازم والمناسب لها؛ فلا يركن للنوم والكسل، بل يسعى بطموح وأمل نحو الأفضل، فعن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: من دام كسله خاب أمله).
ومما يمنح الإنسان الأمل والذود بالطموح وتغذيته باستمرار، إمكانية تحقيق سعادتنا في الدنيا والآخرة معا، بمعنى أن من يطمح لحياة أفضل في دنياه، هذا لا يعني أنه يفرّط بالسعادة الأبقى والأكثر خلودا، بل هنالك إمكانية لترابط وثيق بين السعادتين، خصوصا إذا سعى الإنسان لاستثمار طاقاته الإنسانية التي وضّحها الإمام الشيرازي في أعلاه، بالطرائق التي يوازن فيها بين حق الطموح والحفاظ على روح المنافسة المشروعة بين المتنافسين.
كلٌ منا عنده أهداف منشودة، تسقها آمال ينبغي أن لا تتأسس على أوهام، فمن يطمح بتغيير حياته، عليه أن يتجنب الوهم، ويجب أن تتأسس وتنهض آماله على حقائق وحسابات وتخطيط وإمكانيات، حتى لا يتهاوى الطموح ولا تُصاب الأهداف بالضبابية، وحتى لا يكون هناك موقع للأوهام في حياتنا، فكلّ منا لديه مقومات الطموح، ولديه طاقات الإنجاز أيضا، وما يتبقى هو السعي في المسارات الصحيحة المدروسة مسبقا.
على أننا ونحن نطمح ونخطط ونسعى، لاستثمار طاقاتنا الإنسانية، يجب أن لا يغيب الاعتدال عنّا في استخدامنا لهذه الطاقات، ولكن في نفس الوقت، يجب أن لا نتردد ولا نتلكّأ في قضية استخدامنا لطاقاتنا الإنسانية بأقصى ما يمكن من درجات أو مستويات، فطالما أن الطموح مشروع، وأن الأساليب والإمكانيات المستخدَمة مقبولة ومشروعة ومتَّفق عليها إنسانيا، فإن سعينا في استثمارها يجب أن يكتسب الدرجة القصوى في إطار المشروعية، وصولا إلى النتائج المأمولة التي تمنح الإنسان والأمة سعادة الدنيا والآخرة.
الإمام الشيرازي يقول حول ذلك: (على الإنسان الذي يطمح إلى حياة فضلى في الدنيا، وفوز بالجنة والغفران في الآخرة، أن يجد ويسعى، ويجنّد كل طاقاته: الذهنية، والبدنية، والزمانية، والمالية، بصورة معتدلة ومتوازنة، في خدمة الهدف المنشود، ويستعين بها على تحقيق كماله، وتوفير سعادته في الدنيا والآخرة).
تبقى قضية استثمار طاقات الإنسان، من أهم القضايا التي يجب أن نبحث فيها، وننشغل بها، لاسيما أن ماضينا قد حقق مراتب عالية في تحقيق الطموحات المشروعة من بين جميع الأمم والمجتمعات، وما هو مطلوب منا اليوم، هو قراءة معمّقة لواقعنا، حتى ننتشل أنفسنا من مستنقع الكسل والخمول وضآلة الطموح.
اضف تعليق