يلتهب العالم من حولنا، ويوم بعد آخر تزداد بؤر الصراعات العالمية، ويسود أسلوب كسر الإرادات، فيما يتحمل العالم وزر سياسات الرؤوس المعاندة، وفي الوقت الذي تسعى فيه العقول الأكثر حكمة إلى محاصرة النزاعات للخروج منها بأقل ما يمكن من الخسائر، نجد هناك حكومات وحكام...
يلتهب العالم من حولنا، ويوم بعد آخر تزداد بؤر الصراعات العالمية، ويسود أسلوب كسر الإرادات، فيما يتحمل العالم وزر سياسات الرؤوس المعاندة، وفي الوقت الذي تسعى فيه العقول الأكثر حكمة إلى محاصرة النزاعات للخروج منها بأقل ما يمكن من الخسائر، نجد هناك حكومات وحكام لا تعنيهم نتائج التوتر العالمي، ولا يعنيهم الحوار الذي يستند لتداول الأفكار الصحيحة وإقامة قواعد العلاقات المتينة القائمة على العدل والتساوي والتعاون، فضلا عن السعي لنشر الفكر المعتدل، كي تنعكس مثل هذه الأعمال النوعي على تحسين السلوك البشري، فهناك قاعدة معروفة تقول، كلما تحسَّن الفكر تحسن السلوك، يُضاف الى ذلك أن علم النفس تحقق من الأسباب التي تقف وراء العنف، وأسباب إثارة النزاعات، واكتشف أن القائم بهذه الأفعال مريض نفسيا.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (كل فرد حركة وفلسفة التأخر):
(إن الجنوح إلى النزاع والاختلاف نوع من أمراض النفس، وانحراف في الذات).
ومن المفارقات المؤسفة حقا، أن صانع العنف بالنتيجة سوف يتلقى نتائج حالات العنف التي يصنعها بنفسه، فهي أولا وأخيرا سوف تعود عليه، لتصيبه في الصميم، حتى قبل أن يضر غيره في أعمال العنف التي تصدر منه بسبب أمراضه النفسية التي تدفع به الى العنف والشدة واتخاذ القمع سبيلا الى تحقيق ما يصبو إليه بدلا من أن يتخذ العنف والتعاون والعدل طريقا الى غاياته التي ينبغي أن تكون مشروعة.
يرى الإمام الشيرازي:
(إن العنيف في قول أو كتابة أو فعل، إنما يضر نفسه قبل أن يضر الآخرين).
فلابد أن يتم التركيز على أهمية الحد من العنف أو القضاء عليه، خصوصا في التعاليم والمبادئ الإسلامية التي أوجبت ردع العنف بكل أشكاله والجنوح الى السلم مع العمل المستدام على احتواء الأزمات التي تثير الأعمال العنيفة، وقد لمس المسلمون منذ أوائل الرسالة النبوية الفوائد العظمى لكبح العنف فاتخذوا منه طريقا ومنهج حياة قبل غاندي بقرون من الزمن.
يقول الإمام الشيرازي: (مبدأ اللاعنف هو شعار الإسلام قبل أن يتخذه غاندي شعاراً كما أن من شعار الإسلام السلام، قبل أن يتبناه بعض دول العالم صدقاً أو كذباً).
وأد العنف مطلب عالمي
في ظل تصاعد التوتر في العالم، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، تقع على الدول الكبرى مسؤولية ردع العنف، وليس تأجيجه، لذا لابد من العمل على إيجاد السبل التي تؤدي الى تحقيق هذا الهدف، فالعنف هو تعبير عن القوة الجسدية التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى. وتشير استخدامات مختلفة للمصطلح إلى تدمير الأشياء والجمادات مثل تدمير الممتلكات، ويستخدم العنف في جميع أنحاء العالم كأداة للتأثير على الآخرين، كما أنه يعتبر من الأمور التي تحظى باهتمام القانون والثقافة حيث يسعى كلاهما إلى قمع ظاهرة العنف ومنع تفشيها، ومن الممكن أن يتخذ العنف صورًا كثيرة تبدو في أي مكان على وجه الأرض، بدايةً من مجرد الضرب بين شخصين والذي قد يسفر عن إيذاء بدني وانتهاءً بالحرب والإبادة الجماعية التي يموت فيها ملايين الأفراد، وجدير بالذكر أن العنف لا يقتصر على العنف البدني فحسب.
علماً توجد أنواع عديدة من العنف، منها العنف النفسي، والعنف اللفظي، والعنف الإيحائي، والعنف المدرسي وكذا المدرسي، والعنف ضد الأطفال، والنساء والأسرى، الى غير ذلك، لذلك ينبغي أن تنهض الجهات والدوائر والمؤسسات والشخصيات المعنية بقضية ردع العنف والتقليل من انتشاره، ومن هذا السبل التلقين والإيحاء والتمرين، الذي يتم تقديمه للأفراد والجماعات.
الإمام الشيرازي يقول: (لاشك أن الإنسان فيه حالة العنف، لكن يمكن إزالته بالتلقين والإيحاء والتمرين، وعند ذاك تكون ملكة له وطبعاً من طباعه يأتي بكل يسر وعفويّة، كما هو كذلك في سائر الحالات والملكات الرديئة).
اقتران العنف بالمتكبر
هل القوي متكبّر دائما، وهل تقترن حالات العنف بالأقوياء، بالطبع لا يمكن تعميم هذه الحالة، ولكن في الغالب يكون مصدر العنف متكبرا على الآخرين، تحت دافع نفسه المريضة بالقوة والعنف، هل ينطبق هذا على بعض الدول، خصوصا التي يُطلَق عليها بالدول الكبرى، هذه ليست قاعدة، ولكن هناك من تقترن قوته باللين والهدوء والاتزان، هذا هو المطلوب من أقوياء العالم اليوم وليس العكس الذي يؤدي إلى تأجيج الحروب في العالم.
تذهب بعض الدراسات والاستبيانات إلى أن الإنسان العنيف في الغالب يكون متكبرا، فيشعر بالتعالي على الآخرين، ويظهر هذا التعالي في السلوك والأقوال والتفكير وأنواع التصرف حتى في أدق الأمور، حيث يشعر بعض الناس المرضى نفسيا بأنهم أفضل من الآخرين في أمور كثيرة، فيدفعهم هذا الشعور المشخص مرضيا الى التكبر على الناس في الفعل والقول، والمشكلة عندما يكون مثل هذه الأشخاص في السلطة، وتكون مصائر الناس بأيديهم، هنا تبدأ مشكلة الظلم السياسي، وقمع الطغاة، لا ينحصر هذا النوع من العنف بالحكام، فحتى الأشخاص من ذوي الوظائف الصغيرة، وبعضهم بلا وظائف ولا سلطات ولا صلاحيات، لكنه يحترف العنف في حياته اليومية المعتادة فيكون لفظه نابيا وأخلاقه سيئة وسلوكه مؤذٍ للآخرين، وأمر طبيعي أن المتعالي على الآخرين ينظر الى نفسه بإعجاب وتفاخر، فيستبد في الرأي والفعل وقد يتضخم ذلك الى إلحاق الأذى بالناس.
يقول الإمام الشيرازي:
(مما يقود الى التأخر أن يرى الإنسان نفسه كبيراً، ويترفّع على الآخرين عملاً، فإن هذا يتسبب بانفضاض الناس من حوله. لا يأخذ الإنسان من الآخرين ما يصلحه. والكبر يستلزم كثيراً من الرذائل كالعجب والاستبداد وإهانة الناس بالقول والعمل).
يعد التكبر من صفات التأخر وأسبابه للدول والأفراد، كما هو الحال مع رغبة الإنسان بالعنف، فهناك أناس عنيفون بطبيعتهم، وقد يرتبط العنف بأفكارهم وأقوالهم وحتى سلوكهم، فيذهبون الى صنع المشاكل هنا وهناك، ويستعملون العنف ويثيرون الأزمات في أي محيط يتواجدون فيه، وأينما حل مثل هؤلاء الأشخاص تجد العنف قائما وحاضرا بحضورهم، لذلك من الأفضل أن تكون هناك إجراءات قانونية شديدة وعادلة لضبط العنف، فقد لا يتمكن الردع الذاتي من تحقيق هذا الأمر، وقد يعجز السائد العرفي والأخلاق عن تحقيق هذا الهدف.
يجب أن يتم ردع العنف بالوسائل والإجراءات المناسبة، قانونية أو عرفية أو دينية أو مجتمعية أو سواها، ومن الأفضل العمل على زيادة أعداد الرافضين للعنف أو الحياديين على الأقل.
يرى الإمام الشيرازي:
إن (من فلسفة التأخر الجنوح إلى النزاع، فإن بعض الناس يميلون إلى المشاكل والاختلاف مع الآخرين في الصغائر والكبائر، وفي كل أبعاد الحياة).
بالنتيجة ما يحدث في عالمنا اليوم، يصنعه أفراد أو قادة مرضى، لا يؤمنون بحق الإنسانية بحياة أكثر عدلا واتزانا، تغلبهم المصالح، ويؤرقهم حماية السلطة، وفي كل الأحوال عالمنا اليوم يحتاج إلى نبذ العنف وتطويق النزاعات، لا تأجيجها، وعلى الأطراف والقوى المتصارعة، أن تحسب وقود العنف الذي يلجأون إليه، وهو وقود يزهق أرواح الأبرياء قبل غيرهم.
اضف تعليق