ان التجديد الثقافي ينعكس بصورة متواترة على المجالات المختلفة، ويسرّع في تغيير المناهج العلمية والسياسية والاجتماعية، فتشتبك هذه المجالات الحيّة وتتداخل مع بعضها البعض لنصل في الحصيلة إلى مجتمع راقٍ ودولة مستقرة ومتفوقة في السياسة والاقتصاد الذي سينعكس بأثر فاعل على الآفاق الاجتماعية والإنسانية.
للثقافة قصب السبق في تغيير الأمم ودفعها نحو الصدارة، هذا الدور الكبير للثقافة ليس محصورا بعصر معيّن أو بمجتمعات محدّدة، فعلى مدى العصور وعبر سلسلة متّصلة في سلّم الارتقاء، كان الأثر الثقافي هو الذي يمنح الأمم والمجتمعات الطاقة الإيجابية التي تمنحهم هوية التميّز والاستمرارية في التطور المذهل متفوقين على غيرهم من الأمم، لذلك ليس جزافا أن تبدي الدول والحكومات تحسينات استثنائية في المدار الثقافي، وتضع الخطط الكفيلة بإيصال الآثار الثقافية إلى عموم مفاصل المجتمع.
كما أن التجديد الثقافي ينعكس بصورة متواترة على المجالات المختلفة، ويسرّع في تغيير المناهج العلمية والسياسية والاجتماعية، فتشتبك هذه المجالات الحيّة وتتداخل مع بعضها البعض لنصل في الحصيلة إلى مجتمع راقٍ ودولة مستقرة ومتفوقة في السياسة والاقتصاد الذي سينعكس بأثر فاعل على الآفاق الاجتماعية، فتحدث القفزات المتتابعة في حياة المجتمع تحت مفعول الثقافة وأثرها في زرع الحماسة للتغيير المجتمعي الفعّال.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد في كتابه القيّم الموسوم بـ (الرأي العام ودوره في المجتمع) على:
(إن التغيير الثقافي يساعد على تغيير المناهج العملية والمناهج السياسية والاجتماعية لدى الناس، وهذه هي آثار الثقافة، ودورها الكبير في تغيير حياة الناس نحو الأفضل).
وكلّما تعدّدت وتنوعت وسائل التثقيف وواكبت لغة العصر، كلما كان التأثير في عموم المجتمع أقوى وأسرع وأفضل تأثيرا، ففي السابق كان الخطباء في المساجد والمنابر يبثّون الأمواج الثقافية والفكرية لتحسين الوعي المجتمعي، ولكن بعد أن تمّ تحديث وسائل التوصيل والتثقيف في العصر الراهن، استجدت أدوات وأساليب حديثة منها طباعة الكتب ونشر مختلف المطبوعات، واعتماد القنوات الفضائية، بالإضافة إلى توظيف مواقع التواصل عبر الانترنيت، وكل هذه الوسائل والأدوات والأساليب جعلت من قضية الوصول إلى عقول الناس والتحاور معهم وكسب رأيهم ودعمهم، أمراً ممكنا، وصار الاقتراب من جميع شرائح ومكونات المجتمع وبلورة أفكارهم وكسب تأييدهم هدفاً مضموناً.
كما أكّد ذلك الإمام الشيرازي حين قال سماحتهُ:
(في السابق كانت المساجد والخطباء أكبر وسيلة لكسب الرأي العام والتأثير عليه، أما في وقتنا الحاضر فتوجد وسائل حديثة أخرى بالإضافة إلى المسجد والمنبر، وهي طباعة الكتب والصحف والمجلات ونشرها، والقنوات الفضائية والانترنت وأمثالها).
وحدة المسلمين في ظل الفتن الفكرية
أعداء المسلمين سعوا بخطط مدروسة لتفريق المسلمين وزرع أنواع الفتن الفكرية فيما بينهم، وكان ولا يزال على المسلمين، خصوصا النخب القيادية، التنبّه لهذه المآرب الخبيثة التي سعت بكل ما أوتيت من حيلة وخبث وذكاء لتفريق المسلمين وإضعافهم عبر زرع الخلافات فيما بينهم، لذلك ركّز الإمام الشيرازي على هذه القضية، ونبّه المسلمين كلهم لاسيما قادتهم الدينيين والسياسيين والفكريين على أهمية رصد تلك المحاولات الساعية إلى تشرذم الأمة وبعثرة جهودها ونسف كل ركائز التقدم فيها، حتى يبقى المسلمون يتعثرون في خطواتهم نحو التطور، ويتشبثون بأذيال الغرب أو سواه من الأمم عبر استنساخ التقدم الشكلي وترك التطور الجوهري الذي يمثل العلامات الأساسية للتغيير الأجود.
لذا من الأهمية بمكان أن تكون الخطوة الأولى هي بثّ الإخاء بين عموم المسلمين، ورفع الحواجز التي تعيق تماسكهم وتهدّم أواصر التلاقي فيما بينهم، لأن التفريق وفق مبدأ (فرّق تسدْ) يقف في قمة الأهداف التي يرومها أعداء المسلمين، كما علينا أن نعي مثل هذه الأهداف ونرصد أساليب تحقيقها، حتى يتسنى لنا مواجهتها بأساليب تفوقها في القدرة والقوة والاحتراز، ونجعل من الإخلاص والزهد والتقوى معيارا حاسما لتفوّق وتفضيل الإنسان على غيره.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على:
(إن الخطوة المهمة الأخرى في مجالات التغيير أن يعرف المسلم العربي أنه أخ للمسلم الهندي والفارسي والتركي وينصره ويدعمه، كما جعل رسول الله صلى الله عليه وآله بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وأبا ذر العربي، أخوة لا يمتاز أحدهم على الآخر إلا بالتقوى).
وقد يتوهّم بعضهم أن اللغة هي الرابط الأوحد بين أفراد الأمة، أو العِرْق أو المعيار المكاني الجغرافي هو من يوحّد المسلمين، هذا التفكير ليس صحيحا، ولا يمكن أن تكون القومية أو اللغة أو الجغرافية هي المعايير السليمة لأفضلية شخص أو مكوّن على آخر، فإذا تمكن قادة الفكر والسياسة والدين من إقناع المسلمين بهذه الثقافة التي تؤاخي بين جميع المسلمين، سوف يتحقق خلاصهم عبر وحدتهم الكبرى.
الإمام الشيرازي يقول:
إنّ (اللغة واللون والقوميات والجغرافيات ليست هي المقاييس السليمة، وليست سبباً لأفضلية هذا على ذاك. فإذا استطعنا صنع ذلك كله نستطيع أن نصنع من المسلمين صفاً واحداً متراصاً يسعى نحو خلاص جميع المسلمين).
طبع مليار كتاب تثقيفي
من أهم خطوات التأثير الثقافي لتغيير الأمة وجعلها تتصدّر الأمم الأخرى، كما يرى الإمام الشيرازي إيصال الأفكار الفاعلة والإيجابية إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ويرى سماحته من مضاعفة المطبوعات الثقافية والفكرية وسيلة ناجعة لتثقيف العقول، فالكتاب الذي يحمل حلولا ومعالجات لهموم الناس ويتفاعل مع تطلعاتهم، ويفتح لهم آفاقا نحو التجديد والإبداع، سوف يكون مطلوبا من قِبَلِهم، لذلك نرى الناس تُقبل على الكتاب الذي يعرض لهم حياتهم، ويقترح لهم ما يجعلهم في حالة مستمرة من الشعور الإيجابي، الذي ينقلهم من الخمول والحيادية إلى الوعي الضارب، ولا ينحصر الكتاب الثقافي في محور محدّد وإنما يشمل السياسة والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك مما يمنح العقول رؤية ثاقبة متفحّصة ومضيئة.
كذلك من الأهمية بمكان أن يُفرَد لكتب التثقيف على محاور التحرر والشورى والانتخاب الديمقراطي، حيّزا واسعا يتناسب مع الأهمية القصوى لتنمية هذه المضامين بين أفراد الأمة، وتعد هذه الخطوة هي الأهم في كسب الرأي العام، فضلا عن أنها تجعل من مبادئ الشورى والانتخاب منهج حياة يتغلغل في عقول وحياة الناس ليعتادوا على حرية الرأي والاختيار، ولتنتقل هذه الثقافة من جيل إلى جيل، وتُصبح الحريات محكمة ومحصّنة من الانتهاك الدكتاتوري.
الإمام الشيرازي يقول حول هذه النقطة:
(إحدى الخطوات المهمة في طريق التغيير وكسب الرأي العام هي طبع ألف مليون كتاب توعوي في مختلف النواحي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وزراعياً وصناعيا وتربوياً، وفي مجال الحريات والشورى).
ومن خلال الخطوات الفعلية الفكرية في أعلاه، نكون قد حققنا المهمة الأعظم، وهي كسب الناس في الداخل، وتنويرهم لمواجهة كل المخططات الفكرية والثقافية وحتى الاقتصادية التي تهدف إلى تدمير العقل الواعي المتفتح والواثق بأفكاره وعقائده وشخصيته التي لا تشعر بالدونية إزاء الآخر، وستأتي الخطوة اللاحقة بعد ضمان كسب الداخل، وهي خطوة كبيرة أيضا إذ لابد من كسب الرأي العالمي لصالحنا، من خلال طرح قضيتنا باعتدال وبأساليب معاصرة تحاكي العقل الآخر بوضوح وثقة وذكاء ومثابرة، على أن نحرص على ولوج هذه الأساليب الراقية في التعاطي العالمي ليس في العراق وحده وإنما في عموم بلدان المسلمين.
الإمام الشيرازي يؤكد ذلك بقوله:
(حينئذ نقول: إننا خطونا خطوة مؤثرة في كسب الرأي العام الداخلي، والوقوف أمام المؤامرات الاستعمارية والدفاع عن النفس، ثم نعمل للتأثير على الرأي العام العالمي حتى نتمكن من الوصول إلى الأهداف السامية في العراق، وغير العراق من سائر البلاد الإسلامية).
إن خطوات الأثر الثقافي التي وردت في متن هذه الكلمة، كان قد طرحها الإمام الشيرازي منذ عقود وقدّم فيها رؤية واضحة وقابلة للتطبيق، لكي يرتقي المسؤولون والنخب بأمة المسلمين ويتسلقون القمة الإنسانية مرة أخرى كما كان عهدهم ومكانتهم.
اضف تعليق