إسلاميات - الإمام الشيرازي

الزراعة: الكيمياء الأكبر

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

ما هو خير للإنسان قبل مماته وبعده، أن يترك غرساً أو شجرا يُستظلّ به، ويؤكل منه، وتُدام الحياة به، فما يُنتفع به بعد ممات الإنسان سيبقى يدرّ عليه من الحسنات حتى بعد مماته، فإدامة الشجر سيبقى منتفعا به كما البنيان، كالمساجد والحسينيات، والمؤسسات الخيرية...

الإنسان بدأ رحلة النشوء مطاردا للكائنات الأضعف، كي يديم بقاءه على قيد الحياة، وما أن تطور بعض الشيء، ونضج عقله قليلا، اهتدى إلى الغرس بصورة متدرجة، أما المسلمون فقد وُصِفوا بأنهم مزارعون أشدّاء، أفنوا أعمارهم بالزرع، وبخصوص العراق فهو البلد الإسلامي الأشهر بالزراعة عبر التاريخ، حتى وُسِمَتْ أرضه بعنوان شهير (أرض السواد) لكثرة البساتين والأراضي المزروعة فيه.

وبعد الرسالة النبوية المباركة، وتوسّع دولة المسلمين أضعافاً، كان جلّ الخراج القادم إلى بيت المال، يأتي من الزراعة، وحتى وقت ليس ببعيد كان العراق في مقدمة البلدان الزراعية، لاسيما في أعداد النخيل التي فاقت الـ 30 مليون نخلة تنتج مختلف أصناف التمور وأجودها، فضلا عن بساتين الأعناب والكروم، والأراضي الشاسعة التي تُزرَع بالرزّ العنبر كما في مدينة المشخاب المشهورة بهذا النوع من الحبوب على المستوى العالمي بسبب فرادة وجودة هذا المنتوج.

وقد ركّز المسلمون على الزراعة، ووجدوا فيها عنصر قوة وتميّز لهم على باقي الأمم، حتى عدّها أئمة أهل البيت عليهم السلام، والعلماء والمختصون بأنها (الكيمياء الأكبر).

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، أكد هذا الوصف في كتابه القيم الموسوم بـ (الفقه: الزرع والزراعة)، فجاء فيه:

(روي أن أبا عبد الله عليه السلام قال: (الكيمياء الأكبر الزراعة) وكونه أكبر لأن معيشة الناس بسببه. ومن الواضح: أن الزارع يبدل الأرض والماء إلى الطعام والغذاء، كما يبدل الكيمياء النحاس إلى الذهب والعسجد).

وقد وردت تأكيدات مسندة بأن الله تعالى أحبَّ الزراعة وجعلها من أحب الأعمال إليه جلَّ وعلا، وتبعاً لهذا، فإن الزارع نال مقاما عظيما يوم القيامة من بين جميع الناس، ولهذا يطالب الإمام الشيرازي بالاهتمام الكبير والجاد بالزراعة، ليس لأنها تديم الحياة، وترضي الله تعالى فقط، بل هي تجعل الإنسان غنياً مكتفياً يعيش بعرق جبينه وبكدّهِ، وفي ذات الوقت يمنح الآخرين فرصاً لديمومة الحياة، فما أعظم من يمنح الحياة للآخرين، لهذا جاءت مكانة المزارع كبيرة ومتميزة إلى هذا الحد، ليس في غنى الحياة وحدها، بل في المكانة العظيمة التي يفوز بها في الدار الأخرى.

يقول الإمام الشيرازي في هذا الموضوع:

إنَّ (من أحب الأعمال إلى الله عز وجل الزراعة. ومِن أحسن الناس مقاماً في يوم القيامة الزارعون، فينبغي الاهتمام بالزراعة وبالمزارعين).

الزارعون كنوز الأيام

إن المزارعين في نظر الأولياء الصالحين، هم بمثابة الكنوز التي تديم أعمار البشر والكائنات الأخرى، ولنقف لحظات ونتصور، لو أن الأرض خلتْ كليّاً من المحاصيل الراعية، ماذا سيحدث؟، أليس النتيجة هي هلاك البشرية وكل الكائنات الحية مهما بلغت التكنولوجيا والعلوم والابتكارات من قوة وتميّز، فلا فائدة من كل العلوم والصناعات، ما دام الزرع يتوقف، والأرض يجف ضرعها وتتحول إلى يباس وجفاف، من هنا جاءت مكانة المزارعين المتفرّدة.

ثم ألا يستحق دورهم هذا في إدامة الحياة بأن يتم وصفهم بكنوز الأيام، بالطبع يستحقون هذا التشبيه وأكثر، لأنهم بالفعل تلك الكنوز الممتلئة التي تمنح الجميع القدرة على البقاء ومواصلة الإبداع والإنتاج والتميّز.

لذلك جاء في كتاب الإمام الشيرازي المذكور:

(عن يزيد بن هارون قال: سمعت أبا عبد الله يقول: الزارعون كنوز الأنام، يزرعون طيباً أخرجه الله عز وجل، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأقربهم منزلة، يدعون: المباركين).

إن الكنز في ثقافة المسلمين هو ما يتم استخراجه من المخابئ، ومن أعماق الأرض، نظرا لندرة وغنى ما يحتوي عليه، كذلك فإن ما يقوم به المزارع، هو استخراج طيبات الطعام من تحت التراب، أو بكلمة أدق من تربة الأرض،، وكم يبذل من الجهود حتى يصل إلى النتيجة التي تكلل بالحصول على الغلال من حبوب وثمار مختلفة، تقوم بمنح الإنسان فرصا أكثر كي يستمر بمواصلة حياته، مع ما يعنيه ذلك من فرص لتطوير العلوم والصناعات الأخرى التي تعتمد أيضا على المواد الأولية التي استخراجها أو الحصول عليها من المزروعات، وطالما أن هذه الغلال والمحاصيل المتنوعة لا يمكن الحصول عليها من دون الجهود التي يبذلها المزارعون، من هنا فإن المزارع الإنسان هو الكنز الحقيقي كونه يحوّل ما في باطن الأرض إلى ما يديم حيات البشرية والعالم أجمع.

الإمام الشيرازي يصف جملة كنوز الأيام بالقول:

(معنى كنوز الأنام: أن الكنز كما يستخرج من المخابئ ومن تحت الأرض، فكذلك هؤلاء الزارعون هم الذين يستخرجون بالبذر والحرث، الزرع والنبات من الأرض ومن مخابئ التراب).

اتركوا زرعاً يَنتفعُ به اللاحقون

بعد كل هذه الرحلة التي قطعها المسلمون مع الزراعة، والأرض، والمزروعات، نصل اليوم إلى ما يُشبه الجفاء فيما بينهم وبين هذه المثلث الذي يديم الحياة، ولو جئنا إلى الزراعة في العراق اليوم فإننا سوف نُصاب بالخيبة والألم على ما يحدث اليوم للزراعة وللمزارع وللأرض في هذا البلد الذي يعد من البلدان الرائدة في الزراعة، فاليوم لا يوجد اهتمام بالأرض ولا بالمزارع، ولا يتم توفير المستلزمات التي تتطلبها عملية الزراعة، من حرث وإصلاح للتربة، أو السماد، أو الماء والارواء، حيث أهملت الأنهار الكبيرة وروافدها الصغيرة، ومثلها البساتين والأراضي الخصبة التي تحولت إلى منازل وأحياء سكنية عشوائية بعد أن تم تجريفها، وخير مثال على ذلك ما يتمّ في مدينة كربلاء المقدسة.

مخالفين بذلك أوامر الله تعالى، ونصائح أئمة أهل البيت عليهم السلام، وناصبوا الفطرة الإنسانية العداء، وانشغلوا بمنافعهم الآنية التي ستقتل الحياة المستقبلية لأجيالهم اللاحقة، بالإضافة إلى إضعافها وتشويهها لملامح الحياة الآنية، بسبب تركهم للزراعة، وعدم اهتمام الحكومات بها، أو بالمزارعين، وهذا خلاف ما يريده الله، وما يدعو له أئمتنا الأطهار في وصاياهم وأحاديثهم الشريفة.

يقول الإمام الشيرازي:

(إن الله أمر عباده بعمارة الأرض، ومن طرقها الزراعة، فقد أمر سبحانه عبادَهُ بالعمارة ليكون ذلك سبباً لمعايشهم بما يخرج من الأرض من الثمرات وما شاكل ذلك مما جعله الله معايش للخلق).

ومما هو خير للإنسان قبل مماته وبعده، أن يترك غرساً أو شجرا يُستظلّ به، ويؤكل منه، وتُدام الحياة به، فما يُنتفع به بعد ممات الإنسان سيبقى يدرّ عليه من الحسنات حتى بعد مماته، فإدامة الشجر سيبقى منتفعا به كما البنيان، كالمساجد والحسينيات، والمؤسسات الخيرية والحوزات العلمية والمدارس التي تنفع الناس وتنمي عقولهم وذكائهم وأفكارهم، فمثلما يكون المسجد مكان عبادة وأذكار وتعبّد وطاعات، فإن الزرع يديم بقاء الكائنات، ويجعل الحياة قابلة للاستمراية، وكلاهما هدفه الإنسانية واستقرارها وتطورها.

على أن يتم ذلك بالسبل المشروعة، بمعنى أن يُقام البنيان على أرض مشروعة ومن دون غصب أو اعتداء، وكذلك أن يتم الزرع من دون ظلم أحد أو الاعتداء عليه، في هذه الحالة سوف يكون الأجرُ جارياً، أي لا يتوقف طالما أن الانتفاع به بقي قائما، وهذا بالضبط ما نحن بحاجة له في عراق اليوم، فعلى المسؤولين عن الزراعة أن يضعوا في أعينهم مرضاة الله، والالتزام بما دعا إليه الأئمة الأطهار، وأن تعود الزراعة إلى سابق عهدها علامة من علامات التميز والازدهار في العراق وفي بلاد المسلمين جميعا.

(يستحب أن يترك الإنسان من بعده ما ينتفع به الناس، من بنيان أو غرس أو غيرهما. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من بنى بنياناً بغير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرساً بغير ظلم ولا اعتداء، كان له أجراً جارياً).

اضف تعليق


التعليقات

جنات الحسيني
امريكا مشيغان
قلّبَ هذا الموضوع المواجع في نفوسنا وقلوبنا، فتربة العراق وبلاد المسلمين كلها خيرات.. والزراعة تاجهم الذي فاق التيجان، اليوم تهدمت أحلامنا وترملت تربتنا وتيتمت زراعتنا، يا ليتهم أخذوا بكلام السيد الإمام الشيرازي.. لا حكام ولا ساسة وفلاحين.. كلهم ساهموا بالتدمير، أعانكم الله يا مسلمون....2018-11-26