الفكر الحسيني ومضامينه الإنسانية، والشعائر الحسينية هي الداعم الحقيقي للتأثير الفكري الثقافي في نقل المجتمع من سباته وخموله إلى الحيوية والإنتاج المتفرّد، وكما هو متعارف، فإن الشعائر الحسينية وأدواتها (كالمنبر الحسيني والمجالس والندوات والمواكب والمحاضرات)، هي الوسيط الجيد لترسيخ الثقافة والفكر الأخلاقي في عقول الغالبية العظمى من الناس...
ثمة تزاوج بين المنظومتين الفكرية والثقافية يهدف بالمحصلة إلى انتشال شعب ما من حضيض الجهل، والمنظومتان المذكورتان كي يتم استثمارهما بوجهٍ أفضل، تحتاجان إلى معاضدة قوية وفعلية تسندهما في تجسير العلاقة بينهما أولا - الفكر والثقافة- ومن ثم تركيز النتائج ونشرها وقياس مدى فاعليتها في نقل المجتمع من متاهة الظلام إلى رحاب النور، فالفكر بلا قيم تؤازره يبقى عاجزا عن التأثير في المحيط الاجتماعي الأكثر، وتظلّ الثقافة محدودة التأثير إذا لم تتطور أفقيا لتشمل الساحات الشعبية الأكثر عددا والأكثر ضعفا في التحليل والفهم والاستنتاج.
الفكر الحسيني ومضامينه الإنسانية، والشعائر الحسينية هي الداعم الحقيقي للتأثير الفكري الثقافي في نقل المجتمع من سباته وخموله إلى الحيوية والإنتاج المتفرّد، وكما هو متعارف، فإن الشعائر الحسينية وأدواتها (كالمنبر الحسيني والمجالس والندوات والمواكب والمحاضرات)، هي الوسيط الجيد لترسيخ الثقافة والفكر الأخلاقي في عقول الغالبية العظمى من الناس، ولهذا السبب دعا الإسلام في تعاليمه وفي بواكير الرسالة النبوية إلى تعظيم الشعائر وإحيائها لأنها (من تقوى القلوب).
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول عن هذا الموضوع في كتابه القيّم الموسوم بـ (إحياء الشعائر):
(إن إحياء المناسبات الإسلامية من الشعائر التي دعا إليها الإسلام).
وإذا صرنا على معرفة واضحة من فحوى الشعائر وأهميتها وما يستدل منها، فإننا لابد أن نحفظ هذه الشعائر ليس في إطار الشكلي المكرر، وليس في كونها عادة أو سجية درجت عليها عامة الناس بصورة آلية، وإنما بسبب إيماننا ومعرفتنا ماذا تمثل الشعائر، وأي المغانم الكبرى سنحصل عليها إذا التزمنا بها، والمغانم هنا تتركز على الجانب المعنوي الفكري التثقيفي، وهي مغانم كبيرة وإن لم تكن مادية، لكنها تبقى ركيزة للانطلاق إلى نحو فوائد عظيمة أهمها خلق مجتمع مفكر مثقف مؤمن مدعوم بشعائر تغذي فيه روح القيم الخلاقة المتجددة.
وإذا عرفنا لماذا علينا أن نحيي الشعائر، فإن الإسلام أكد على هذا الإجراء وهذه القيم والتمسك بها، لاسيما أن تاريخنا يضج بالمناسبات الدينية والزيارات التي تتوجه إلى المراقد المقدسة، والمطلوب الحتمي منّا هو الاستعداد التام لهذه المناسبات، وإحياء الطقوس، واستثمار المخزون الفكري الثقافي التربوي الذي يرافق الزيارات والمناسبات، ليتكرر ذلك في توقيت محدد من كل سنة، وما علينا (خصوصا هنا في العراق) سوى تهيئة الأرضية الصحيحة لاستقبال هذه الزيارات المقدسة.
يقول الإمام الشيرازي:
(من أهم الشعائر الإلهية ما يرتبط بالمناسبات الدينية فإنه يصادف في بعض أيام السنة العديد من المناسبات الإسلامية، ولابد من الاستعداد مسبقاً بشكل جيد لغرض إحيائها وتعظيمها بصورة تناسب نوع المناسبة).
الشعائر ومقارعة الطغاة
الدول المتمدنة والمجتمعات التي قطعت شوطا على طريق الحريات والحقوق المدنية، سمحت للإنسان بحرية الدين والمعتقد والفكر والطقوس أيضا، ولأن الأخيرة (الطقوس والشعائر) تستقطب أعدادا كبيرة من البشر بسبب الإيمان الجمعي، فإن الحكام وبالأخص الطغاة منهم يكرهون الشعائر، ويتبرمون من أي نوع من الطقوس الجامعة، والسبب كما ذكرنا قدر الشعائر على جمع أكبر عدد من الناس وتوحيد أفكارهم وكلمتهم، وهذا جل ما يخشاه الحكام الفاسدون.
من هذه النقطة بالتحديد نشأت العداوة بين الشعائر وأصحابها من جهة وبين الحكام الطغاة من جهة ثانية علما أن أصحاب السلطة هم من بدأ العداوة وليس من يحيي الشعائر، لذلك فالمنبر الحسيني أو المواكب الحسينية الضخمة والمجالس هذه كلها لا تروق للسلطة، وترتعب منها الحكومات بسبب امتلاك الشعائر القدرة العالية على تهديد العروش مهما كان جبروتها أو قوتها، وفضح الأساليب المعيبة التي يرتكبها الطغاة سرّا وعلنا، وتضع أمامهم مصائرهم التي لا يُحمَد عقباها.
يقول الإمام الشيرازي:
(لقد عمل الطغاة على منع ومحاربة الشعائر والمنابر، ومجالس العزاء، التي تفضح المجرمين وتبشرهم بالعذاب الأليم، وتكشف الحقائق للأمة، وتجعلهم على دراية من الأمر).
ومع معرفة الحكام والمسؤولين لأهمية الشعائر على صعيد التماسك الاجتماعي وتقوية القيم الكبيرة بين الناس، إلا أنهم رغم اقتناعهم بذلك يبقون في حرب مستمرة ضد الشعائر، من هنا تأتي أهميتها، وما الخوف والرعب الذي تبديه السلطات بمختلف أحجامها خصوصا الدكتاتورية منها إلا دليل على مكانتها وقوتها وصحة مناهجها ومضامينها وما تدعو إليه من خير وإصلاح.
لهذا فإن مجرد محاولة الحكام العزل بين الشعائر والناس، بشتى الطرق والأساليب يدل على حجم الخوف الكبير الذي تزرعه في قلوب وصدور المستبدين، وهكذا تظهر أسباب الصراع بين الشعائر الحسينية من جهة، وبين الحكومات الفاسدة من جهة أخرى، فهي لم تأتِ من فراغ، بل هو صراع بين الحرية، الحق، القيم الأخلاقية، وبين الحكام الذين لا يروق لهم كل ما يهدد مراكزهم وسلطتهم وامتيازاتهم.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن محاربة الطغاة للشعائر دليل واضح على مدى أهميتها، وقوة تأثيرها على أفراد الأمة، وإلاّ لم يكن هناك مبرر ومقتضى لمنع الناس عنها، ومنعها عنهم).
المجالس وإحياء الشعوب
وهكذا يُظهر لنا الواقع بجلاء، بين الأضداد، مع أن الشعائر ومن يتبنى إحيائها لم يختاروا الصراع مع من يلتزم ويمضي في حياته وواجباته في الاتجاه الصحيح، إن الشعائر، كما حدث سابقا ويحدث اليوم في المواكب الحسينية، تفضح السياسات الخاطئة للحكومة، وتسلط الضوء على بؤر الفساد، وتعلن بصوت عال رفض الناس للأساليب التي تنتهك حقوقهم، وتسرق ثرواتهم، وتفشل في تقديم الخدمات لهم، وتعجز في الانتقال ببلدهم إلى ضفة التقدم.
من هنا تعدّ المجالس الحسينية مدارس فكرية ثقافية ترفد العقول بما تحتاجه من غذاء روحي، والإنسان في حاجة كبيرة لما يُطرَح في هذه المجالس إذا كان المضمون وفق أفكار أئمة أهل البيت، وهي أفكار إنسانية شجاعة ترفض الاستبداد والظلم وتشجع السياسات القائمة على العدالة الاجتماعية وسواها، لذلك من حق الخطيب أن يفضح الحكومة الفاسدة، وهذا ما يجري في المجالس سابقا وحاضرا ولاحقا، فإذا كان الحاكم والحكومة ورئيس الوزراء مسيئا في تعامله مع السلطة والحقوق، فسوف يكون هدفا تقويميا وتقريعيا من قبل المجلس والخطيب، وهذا هو السبب الأساس في محاولات الطغاة المتكررة لمنع المجالس الحسينية.
الإمام الشيرازي يؤكد على ذلك في قوله:
(إن للمجالس فوائد عظيمة جداً، حيث يُطرح من خلالها رأي الإسلام تجاه كل شيء في الحياة، لاسيما مسألة الحكم والحكومة، ورئيس الدولة ومواصفاته، وكيفية سيرته، وغير ذلك من المواصفات التي ذكرها الإسلام بدقة).
وانطلاقا من ذلك، لا يمكن لأحد أن ينسى أو يتغافل عن الدور الكبير للمنبر الحسيني في نشر الوعي والثقافة والفكر الحر بين الجماهير، خصوصا عندما تكون الحكومات ظالمة، وكلما اشتد البطش الدكتاتوري ضد الخطباء والمجالس وإحياء الشعائر، نجد إصرارا أقوى لديمومة المنبر ونهوضه بمهمة الوعي الشعبي وكشف الستار عن أساليب الحكومات القمعية، مع استنهاض الهمم وترميم القيم في نفوس المؤمنين، وزرع روح الكفاح في قلوبهم، لنصل في نهاية المطاف إلى النصر المحسوم ضد الحكومات الفاشلة والحكام الطغاة عبر إحياء الشعائر والمنبر الحسيني والمجالس العامرة بخطبائها وجمهورها.
الإمام الشيرازي يصف دور المنبر بالكلمات العميقة التالية:
(للمنبر الحسيني والشعائر دوراً عظيماً في إحياء الشعوب).
اضف تعليق