لمن يقرأ آيات من القرآن الكريم، الذي يُعد دستور الحضارة الاسلامية، يجد فيه دعوات متكررة لتوسيع الرؤية نحو الحقائق الكبرى في الحياة والكون، وبمقدار النجاح في هذا المسعى، يكون نجاح الانسان في التعامل الصحيح مع الطبيعة ونجاحه في تسخير الموارد المكنونة في الارض، وايضاً ما في الكون لمصلحته...
مقدمة:
توقفت مسيرة الحضارة الاسلامية عندما اقتصر اهتمامها على الاحكام، وما تتضمنه من فرائض ونواهي، وحلال وحرام، وغابت التجارب والعبر والحكمة، وهو ألمّ به القرآن الكريم، حيث يقول علماؤنا أن نسبة قليلة منه مختص بالاحكام، والباقي حكم و.... ومن ذلك الحين، والمسلمون بعيدون عن العلوم الطبيعية والانسانية إلا القليل منها، مما جعل حياتهم تبتعد عن مسار التطور العلمي الذي نشهده اليوم في العالم، وهذا ما جعل الناس في كل مكان ما أن يطرق سمعهم لفظ الدين، حتى يتبادر الى اذهانهم؛ الحلال والحرام فقط، بل ان البعض يتوقف متسائلاً اذا ما سمع عن العلاقة بين الدين والحضارة، لان المفهوم عن الحضارة اليوم، هو ما انجزه الانسان وقدمه من فكره وذكائه وقواه العضلية والمادية، بينما الدين الذي يحمل لواء الحضارة الإلهية التي جاء بها الانبياء والمرسلين والصالحين، فانها غائبة عن الواقع الذي يعيشه الناس لاسباب كثيرة.
ولكن؛ هذا ليس كل شيء، وليس نهاية الطريق، فقد تصدّى الامام الشيرازي لتدمير جدار اليأس الحضاري – إن صحت العبارة- بالاضاءة الى طريق مستقيم يعيدنا الى تلك الامجاد.
وفي هذا المقطع الصوتي، كما في عديد المؤلفات والاحاديث، يذكرنا سماحته على أهمية الرؤية التكاملية والشمولية للدين ليكون سنداً وداعماً – كما يقول- بل وقاعدة تنطلق منها الحضارة التي ترتقي بالانسان نحو التطور في مختلف شؤون حياته، لنقرأ النصّ:
دين يجيب عن كل شيء
"الدين الذي يجب ان يكون سنداً للحضارة ينبغي ان يكون ديناً متكاملاً، البعض يتصور أن الشيوعية ليست بدين، بينما هي كذلك، إنما دينهم هو نكران وجود الله –تعالى-.
ولذا تجدون فلاسفة اليونان القديمة، امثال؛ سقراط وافلاطون وبقراط وغيرهم، هؤلاء كانوا يتحدثون عن كل شيء، يتحدثون عن الكون، وعن الانسان، وعن الحياة، وعن الطبيعة، وايضاً عن الحكم، حيث كتب افلاطون كتابه الشهير "الجمهورية" الذي يتحدث عن كيفية تشكيل الحكومة، مما جعل افلاطون من اكبر علماء ذلك العهد، لانه بحث في الفلسفة والفلك والالهيات والهيئة وغيرها من العلوم.
ان الدنيا، وعلى مر المراحل التاريخية ترسو دائماً عند حضارة متكاملة تجيب عن مختلف الاسئلة، بعكس الحضارة الصامتة التي لا تقدم شيئاً.
لذا نلاحظ الشرقيون (المعسكر الشيوعي سابقاً) يسعون لأن يقدموا حضارة متكاملة من خلال النظام الاقتصادي ومن خلال ديكتاتورية الطبقة العاملة، وهذه فروع تتبع تلك الأصول الفلسفية، ، كذلك فعل العالم الغربي، فهم قدموا للعالم النموذج المتكامل من خلال النبي عيسى، عليه السلام، والقساوسة، ومن ثمّ توصلوا الى نظرية "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، بمعنى أن الدين لا دخل له بالشؤون الزمنية (الحياة).
وقد أورد البعض إشكال على رجال الدين في هذا السياق؛ بان الغربيين وصلوا الى القمر، فماذا صنعتم انتم؟!
للاجابة: الاشكال ليس علينا نحن رجال الدين، لان ليس من شأنهم الهندسة او الطب، انما هم مثل القساوسة في العالم المسيحي، ومثل المفكرين الشيوعيين، ففي كل مدرسة فكرية او دينية هنالك متخصصون في الطب والهندسة، وهذا هو الصحيح، وهو الذي يدحض الاشكال الوارد على رجال الدين المسلمين.
وللخروج بإجابة شافية؛ ان الدين مستوعب لكل شيء، وعلى الجميع ان ينهض بأدوار متنوعة لتكريس وجود هذا الدين المتكامل، فالطبيب له دور، والمهندس له دور، والرياضي، وحتى الحكومة، وهكذا، حتى يكون الدين متكاملاً، بمعنى؛ ان ما نكتبه في الرسائل العملية يعد جزءاً من الدين، لا أن نصرّ بانه كل الدين، لان الاعمال التي يقوم بها الاطباء والمهندسون والمدرسون، إنما يمارسون اعمالاً يتكامل فيها الدين من خلال اختصاصاتهم، فالدين هو الذي يدفع الانسان لدراسة الهندسة والطب واختراق الفضاء، كما ان نفس هذا الدين يدفع الانسان لأن يتعلم الصلاة والصيام والزكاة.
اننا كرجال دين، اذا اردنا ان نكمل الحضارة الاسلامية، علينا ان نستوعب الاسلام كله، وهذا لا يعني ان اكون في نفس الوقت؛ فلكي ومهندس وطبيب، إنما تحقيق رؤية للجمع بين كل هذه الاختصاصات لجميع الشؤون، وهذا ما كان يفعله رسول الله، صلى الله عليه وآله، وكان يفعله الامام الصادق، عليه السلام، مع فارق الظروف.
ان تفهم الاسلام، لا يعني الاقتناع بشيء صغير، انما نكون على استعداد للإجابة عن كل شيء يرتبط بالدين وبالحضارة الاسلامية".
الحضارة الاسلامية وفن الحياة
أما كيف يكون لدينا الدين متكاملاً في منظومته القيمية والاحكامية؟ وكيف نفهم الاسلام؟ كما يدعونا سماحة الامام الراحل؟
لمن يقرأ آيات من القرآن الكريم، الذي يُعد دستور الحضارة الاسلامية، يجد فيه دعوات متكررة لتوسيع الرؤية نحو الحقائق الكبرى في الحياة والكون، وبمقدار النجاح في هذا المسعى، يكون نجاح الانسان في التعامل الصحيح مع الطبيعة ونجاحه في تسخير الموارد المكنونة في الارض، وايضاً ما في الكون لمصلحته، ومن هذه الحقائق؛ الصراع الأبدي بين أهل الحق وأهل الباطل، وايضاً؛ وجود عالم آخر غير عالم الدنيا الزائل، وان الانسان يثاب ويعاقب على أعماله بعد موته، وأن الظلم والجور والطغيان لن يسود العالم مهما طال الزمن، ولابد من محطة توقف ونهاية لهذا الطاغية او ذاك الظالم، بيد أن مشكلة الانسان – المسلم تحديداً- انه رغم قراءته القرآن مراراً وسماعه للآيات الكريمة في مناسبات عدّة، فهو غارق في الجزئيات الصغيرة في حياته اليومية بظنه أنها هي التي تقوده الى السعادة وتحقق له مايريد.
وفي كتابه معالم الحضارة الاسلامية، يقول المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي: "اننا كمسلمين لابد ان نصبّ جلّ اهتمامنا على المسائل الحياتية، او بتعبير آخر؛ معرفة فنّ الحياة، مستلهمين ذلك من كتاب ربنا –تعالى- ومن منهجه في فهم الحياة، أما ان نبقى في الجزئيات –سواء كانت مرتبطة بالدين أم بالحياة- ونلغي النظر في الكليات، فان هذه الحالة سوف تؤدي بنا الى إصابتنا بهزائم متلاحقة".
ولعل هذا الخطأ الحضاري الكارثي يتجسد فيما نحن فيه من تقديس الحضارة بما لها من منجزات علمية، ومدن مزروعة بناطحات السحاب وشبكات الطرق والمواصلات الرائعة والحدائق والخدمات المتنوعة وغيرها، فتولد خطأ جديداً لا يقل كارثية عن الاولى، وهو ما يشير اليه المرجع المدرسي في كتابه، بان "الحضارة مبتورة اذا ما قيست بالدين، فالدين يتحرك مع الحضارة لمسافة معينة، ثم سرعان ما تتوقف، بينما الدين يمضي قدماً الى النهاية السعيدة، والحضارة تحدثنا عن الوسيلة، بينما الدين يحدثنا عن الهدف بع أن يشير الى الوسيلة ايضاً، والحضارة تبين لنا الجزئيات، بينما الدين يقولب هذه الجزئيات ضمن إطار عام، والحضارة تزودنا العلم، بينما الدين يمنحنا فقهاً، والحضارة تلعمنا ما هي الحياة، والدين يعلمنا كيف ننتفع من هذه الحياة، ولماذا كانت وكيف ينبغي ان تكون"؟
وعندما نأتي على السيرة النبوية وايضاً سيرة المعصومين، عليهم السلام، نجد ترجماناً كاملاً لما في الكتاب المجيد، وإضاءات لطريق الانسان في الحياة، وبالرغم من التلف والضياع الذي طال نسبة كبيرة من تراث أهل البيت، عليهم السلام، طيلة وجودهم على قيد الحياة، وفي مراحل تاريخية لاحقة، بيد ان الموجود بين أيدينا يضم منظومة متكاملة من الآداب والاخلاق والعلوم والمعارف ما يجعل الانسان المسلم مستغنياً عن أي مصدر علمي ومعرفي آخر، وعندما يدعو سماحة الامام الشيرازي الى الاسلام الذي يجيب عن كل شيء، فانه بالحقيقة أمر قائم بالفعل لكن ليس بالقوة، مما يدعو العلماء والباحثين إعادة قراءة الروايات التاريخية والاحاديث المروية عن المعصومين، بشكل جديد وبرؤية عصرية، لان؛ كما القرآن الكريم، شمس تضيء كل يوم على يوم جديد، فان روايات المعصومين، عليهم السلام، بنفس الخصوصية، فهي حيّة ونابضة مع الزمن.
ولمن يقرأ هذا التراث العظيم، يجد الاهتمام بامور يعدها البعض اليوم بأن لا علاقة لها بالدين ولا بالروايات والاحاديث، مثل؛ البيئة، والصحة، والتعليم، والتربية الأسرية، والثقافة الجنسية، فضلاً عن أمور كبرى مثل الاقتصاد والتجارة والسياسة والقانون وسائر العلوم.
ولعل هذا ما دفع سماحة الامام الشيرازي لأن يحكم الربط بين هذه الاهتمامات الحياتية الكبرى، وبين الدين عندما صنع لها قالب "الفقه" فاخرج السياسة والاجتماع والاقتصاد والقانون وغيرها من كونها علوم صرفة، ووجهها للتفقه والتفهّم، وحينئذ يكون بالامكان مساهمة هذه العلوم في عملية التغيير والإصلاح في أي مكان لانها ستتحرك في مسيرة تكاملية واحدة، فعندما نتحدث عن أي مشكلة، كالمشاكل التي تعصف بالعراق، مثل الفساد الاداري، والارهاب، والفقر، فان منظومة علمية ومعرفية تتحرك في وقت واحد لمعالجة الخلل، كما أوضح سماحة الامام الشيرازي في المقطع الصوتي، بأن تحقيق شمولية الدين وإعطاءه القدرة على حل الازمات والمشاكل، يأتي من إسهامات الطبيب والمهندس والسياسي واستاذ الجامعة وايضاً من رجل الدين.
اضف تعليق