نجد الامام والمرجع الديني السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في كتابه: \"الجدال بالتي هي أحسن\"، يتحدث عن المناقشة كونها احد أدوات الجدال بانها \"فن جميل، ينبغي لكل مسلم أن يحاول تعلّمها وتعليمها، فإنّ لها منافع جمّة يستطيع بها الإنسان من الوصول إلى مراده بأقل عناء وتعب، فالشخص الذي يجيد أسلوب المناقشة يصبح من السهولة عليه أن يقنع الآخرين ويجرهم إلى فكرته وهدفه...
كافح الانسان منذ قرون بعيدة، وبذل جهوداً ذهنية عظيمة على أمل الوصول الى حقيقة وجوده في الحياة، وحقيقة الحياة نفسها، ومن أين؟ والى أين؟ فكان للتأمل والتفكّر دوره المحوري في هذا المسعى، وقد اشترك في الامر، من يحمل قدرات ذاتية، ومن يحمل قدرات معنوية موهوبة من السماء، وهم؛ الانبياء والمرسلين والأولياء الصالحين، ويقف في طليعتهم جميعاً؛ أبو التوحيد –كما يسميه أحد العلماء- نبي الله ابراهيم، عليه السلام، عندما وقف تلك الوقفة التاريخية الخالدة أمام النجوم تارةً، وأمام القمر تارة اخرى، ثم توقف عند الشمس على أنها "أكبر"، ليبين لقومه من الذي يجب ان يكون الخالق والجبار في الحياة والوجود؟ ثم وصل الى ما وصل اليه في مشهد يرويه لنا القرآن الكريم في سورة الأنعام.
ومن اصحاب القدرات الذاتية؛ من رواد المعرفة في التاريخ البشري، توصل احد فلاسفة اليونان القديمة في القرن السادس قبل الميلاد، وهو هيرقليطس، أن التبدّل هو كنه الاشياء وحقيقتها، مستنداً الى مشاهداته في الطبيعة وفي حياة الانسان، من تبدّل الليل والنهار، والخصب والجفاف، والصِغر والكِبر ثم الهَرم، والحياة ثم الموت، وحالة الطبيعية وما فيها من نبات وحيوان وكيف يحكمها قانون التبدل والتحول باستمرار، وعدّ هذا التناقض في الاشياء من حالة الى اخرى دليلاً على نظريته التي تبلورت فيما بعد بجواز الجمع بين النقيضين، وأن الشيء موجود، وفي نفس الوقت غير موجود، فالوجود اساساً –عنده- هو غير موجود، وانما هنالك التبدل المستمر.
وقد رصد الدكتور عبد الكريم اليافي في حديثه عن معنى الجدلية في كتابه "جدلية أبي تمام"، خطوات هيرقليطس نحو صياغة نظريته المعرفية هذه، بانه يقول: "ان الحياة والموت، والنوم واليقظة، والشباب والشيخوخة، كل هذه المتناقضات ليست سوى مراحل في حركة مستمرة، وان كل واحد من النقيضين محتاج لوجود الآخر، ولازم لادراك معناه، فلولا المرض ما عرفنا لذة الصحة، ولولا الشر، ما ادركنا قيمة الخير، فالكون قائمٌ على وحدة الضدين وارتباط النقيضين وتلازم الخصمين".
وربما لم يكن هيرقليطس يتصور أن نظريته في اجتماع النقيضين على اساس حركة التبدل المستمر، تتحول الى قاعدة لنمط من الحوار والنقاش يستمد روحه من ثنائية الوجود وعدم الوجود، ليأتي من بعده، من يؤسس لفكرة الحوار الجدلي – إن صحت العبارة- بناءً على لفظ "ديالوغس" اليونانية والتي تعني الحوار بين اثنين، ولتتحول فيما بعد على يد الفلاسفة المتأخرين، الى "ديكالكتيك"، ثم ليكون مذهباً فكرياً شاملاً يقود الانسان والحياة الى حالة من الصراع المستدام بين الطبقات الاجتماعية وبين الانسان وأخيه الانسان.
في مقابل هذا المآل السيئ للحوار المتقابل، ظهر عالم دين اواسط القرن العشرين، ليكون ضمن السلسلة الطويلة الممتدة الى صدر الرسالة الاسلامية، يدعو الى "الجدل الأحسن" مع الآخر، والاستفادة من هذا النمط من الحوار للبناء والتغيير والإصلاح لما يفيد الانسان والاجيال والحضارة، ولا يلحق الأذى بأحد؛ مادياً ومعنوياً، لذا نجد الامام والمرجع الديني السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في كتابه: "الجدال بالتي هي أحسن"، يتحدث عن المناقشة كونها احد أدوات الجدال بانها "فن جميل، ينبغي لكل مسلم أن يحاول تعلّمها وتعليمها، فإنّ لها منافع جمّة يستطيع بها الإنسان من الوصول إلى مراده بأقل عناء وتعب، فالشخص الذي يجيد أسلوب المناقشة يصبح من السهولة عليه أن يقنع الآخرين ويجرهم إلى فكرته وهدفه".
مَن نُجادل؟
قبل الاجابة على هذا السؤال المحوري، لابد ان نتذكر أن الجدل، حالة انسانية أقرها القرآن الكريم في غير آية كريمة، {...وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}، سورة الكهف/54، كما جاءت لفظة الجدل في آيات عدة كسلوك تبناه الانسان لمواجهة ما لا يرتضيه لنفسه حتى وإن كان الحق المبين، {أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ}، سورة غافر/69، وهذا ما جعل الامام الشيرازي ينطلق لتقويم هذه الحالة وتوجيهها نحو البناء لا الهدم، من الآية الكريمة: (...وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، سورة النحل/125.
إن من يمارسون الجدل في الوقت الحاضر، ليسوا من اشباه الخوارج الذي جادلوا أمير المؤمنين، عليه السلام، في مسألة الحكم ثم كفروه، ولا هم على شاكلة الزنادقة ممن مرقوا عن الدين وواجهوا الامام الصادق، عليه السلام، بكل عنف وعناد، انما هم – على الاغلب- من جيل الشباب الطامح للوصول الى الحقيقة، والتخلص من وطأة التناقض الحاصل بين النظرية والتطبيق في النظام الاسلامي الذي نؤمن ويؤمن الجميع انه الأنجح والأكمل في العالم، انما يمارسون هذا النمط من النقاش للدفاع عن موقفهم السلبي والتشاؤمي إزاء ما يعيشونه من انتكاسات وتناقضات.
والحل الذي يراه الامام الشيرازي لمن يتشبث بهذا النمط من النقاش هو الصدمة بالمنطق، إن جاز التعبير، ويطلق عليها في كتابه باسلوب الهجوم في النقاش بدل الدفاع، وهذا الهجوم "لا نقصد به ما ينافي الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، بل هجوماً منطقياً خاضعاً لإحدى المراتب الثلاثة المذكورة في الآية الكريمة، أي هجوماً بحكمة، أو هجوماً بموعظة حسنة، أو هجوماً جدلياً بالتي هي أحسن".
ويورد سماحته أمثلة عدّة في كتابه لطريقة ذكية في الجدال مع شباب اعتراهم التشكيك والإنكار فنجح معهم اسلوب الصدم بالمنطق والعقل الذي يتوقفون دونه، كما جرى في الجدال الذي دار مع احد الشباب الملحدين، الذي كان رافضاً للحوار مع الامام الشيرازي لانه يستدل بالقرآن والروايات، وأكد له ذلك في بداية اللقاء، ثم راح ذلك الشاب يستند لدعم رؤيته وفكرته على افكار لينين وستالين، فأوقفه الامام الشيرازي، وقال له: انك لا تعترف بالقرآن ولا بالروايات، وانا وعدتك بأن لا استند عليهما لاثبات حقانية عقيدتي، بينما تدعوني لأن اقبل باستدلالك استناداً الى اشخاص لا أؤمن بهم، فتوقف عن الجدال وتحول من الهجوم الى الدفاع، وبعد حوار ساخن وطويل، انسحب ذلك الشاب، ولم يأت ثانية، رغم وعده بذلك، واعرب لصديق له بأن ما سمعه من الامام الراحل لم يسمعه من قبل.
إن لفظة "أحسن" تدل على مرتبة عليا طالب به القرآن الكريم لمواجهة التشكيك والتجديف في العقيدة، حتى نصل الى النتيجة المرجوة وهي إزالة جميع الشبهات واللوابس عن الاذهان وتنقية النفوس، وحتى نعرف كيف يكون الجدال بالتي هي أحسن يبين سماحة الامام الشيرازي كيف يكون الجدال بالقبيح من القول: "يلزم على الشخص المجادل حتى إذا كان على الحق، أن يحترز عن سوء التعبير والإزراء بالخصم وبما يقدّسه من المعتقدات، وأن لايجرح مشاعره، ويبتعد عن السبّ والشتم، وأي جهالة أخرى، فإنه من الجدال القبيح، وإن كان لإثبات الحق، لأن ذلك من إحياء للحق بإحياء الباطل وهذا مرفوض، لأنه بالتالي إماتة للحق؛ لأنّ الحق لايحييه الباطل، بل الحق يحيى بإحيائه وباتباع الأساليب الحقة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وليس الحَسَن فحسب".
ولابد من القول قبل الختام؛ بأن الآية الكريمة التي تأمرنا بما هو أحسن في جدال الكافرين والمعاندين والنواصب، بيد ان الازمة الفكرية والثقافية في الساحة الاسلامية بلغت من الشدّة أن تحولت شريحة من المجتمع الى ما يشبه المرآة العاكسة للتكفير والتجديف في العقيدة والدين من الاعداء الحقيقيين، ومن هم خارج كيان الامة، بل وممن لا يقوون على الاقتراب من الساحة ليكونوا وجهاً لوجه في مناظرات جدلية حول العقيدة، وما ينكرونه على الدين وعلى الاسلام تحديداً، وإلا هل بوسع أحد ان يخوض جدالاً في مرتبة الأحسن والأكمل مع من يروج لفكرة زواج المثليين، او يروج لفكرة المصلحة والنفعية في حياة الانسان؟ بينما نجد اليوم من يتحدث بين شريحة الشباب رغبته بأن يكون "شيطان سعيد بدلاً من أن يكون ملاك حزين"! فهذا يبحث عن السعادة، لكنه ظل الطريق، كما ظل الخوارج، وانطبق عليهم قول الامام علي: "كلمة حق يُراد بها باطل".
فاذا كانت ثمة اسباب موضوعية وراء تحول شريحة في المجتمع الى صنف المجادلين والمعاندين، بحيث لا تنفع معهم "الحكمة والموعظة الحسنة"، فهذا لا يعني بأي حال من والاحوال وضع هؤلاء في خانة الاعداء الخطرين على الأمة، انما يتطلب الأمر بذل المزيد من الجهود لاضاءة الطريق امامهم وانقاذهم مما هم عليه وإعادتهم الى جادة الصواب بما ينفعهم هم انفسهم بالدرجة الاولى، ثم يفيدون بذلك ابناء مجتمعهم والامة جمعاء.
اضف تعليق