انطلق الامام الشيرازي في تطبيق فكرة التنظيم ليواجه جبهات عريضة من التنظيمات في الساحة ممن كانت تحمل افكاراً ماركسية او قومية بما لا يرتبط بهوية الشعب العراقي وثقافته المستمدة اساساً من الدين، ثم لا ننسى الامكانات الهائلة التي وظفتها الانظمة السياسية المتعاقبة على العراق في العقود الماضية، وفي مجال التنظيمات الشبابية تحديدا...
ربما يكون الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي –طاب ثراه- من قلائل مراجع الدين اهتموا بأمر التنظيم نظرياً وعملياً في حياة الامة من أجل إخراج هذه الفكرة الحضارية من قبضة الساسة وأهل الحكم، وهو ما حصل، فأي تنظيم يظهر في بلادنا، ومنها العراق، يخال السامع أن ورائه اهداف وطموحات سياسية بحتة ، بينما سماحة الامام الراحل في كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" يعد التنظيم "واجب شرعي وسنّة كونية، وضرورة حيوية ملحة للأمة"، بل ومن الناحية العقلية، ليس من مصلحة الانسان الشذوذ عن سائر الكائنات الحية والموجودات في الكون التي تعمل كلها وفق نظام دقيق تجعل الحياة طبيعية على طول الخط، ولعل جمال الحياة في كثير من مظاهرها، وما تدره الارض من خيرات هائلة، انما هو نتاج هذا النظام المتقن في الطبيعة والكون.
وفي مقابل حالة النظام في الحياة والكون، والتنظيم الذي يجب ان يمارسه الانسان في حياته، يؤشر سماحة الامام الراحل الى الضعف والتمزق ومن ثمّ تعرض البلاد الى هيمنة القوى الكبرى التي يسميها دائماً بـ "القوى الاستعمارية"، وذلك في مختلف الصعد؛ السياسية والاقتصادية والثقافية، الامر الذي يستدعي ان يكون التنظيم حالة منبعثة من صميم واقع الناس، وليس فكرة تلقى اليهم من الخارج، او بقرار حكومي او عبر نظرية حزبية تطرح عليهم، فان "كل فرد بامكانه تشكيل تنظيم معين، سواء بالانتماء الى إحدى التنظيمات الاسلامية المستقيمة، او ان يبدأ تنظيماً جديداً بنفسه، وذلك بأن يلتقي باربعة من الافراد الصالحين، يغذيهم بالفكر السليم وينظمهم".
وأنشط شريحة في مجال التنظيم؛ الشباب لما يحظون به من قدرات ذهنية وطراوة فكرية، فضلاً عن القوة العضلية تمكنهم من تأسيس تنظيمات مختلفة تكون القاعدة الرصينة للأمة في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية ايضاً.
ويمكن القول؛ ان التنظيمات الشبابية شكلت احدى مرتكزات المشروع النهضوي والإصلاحي للإمام الشيرازي منذ الايام الاولى، وتحديداً منذ ستينات القرن الماضي، عندما أطلق أول مبادرة من هذا النوع لتكون نواة لحركة اسلامية ذات خلفية فكرية أصيلة ومشروع حضاري متكامل، وكانت البداية من مجالس القرآن الكريم في الجوامع والحسينيات في كربلاء المقدسة، وفيما بعد في مدن اخرى، ثم وسع دائرة الاستقطاب لتشمل الهيئات والمواكب الحسينية لتكون هي الاخرى مصنعاً للرجال الأشداء القادرين على تحمّل مسؤولية محاربة الاستبداد والفساد والانحراف مهما كلف الثمن.
وفي زمن المعارضة لنظام صدام، تميز سماحته – طاب ثراه- من بين علماء الدين بتشجيعه تشكيل التنظيمات والحركات ضمن المشروع الاسلامي – الرسالي، وكان لهذه التنظيمات الفضل في استيعاب قدرات وكفاءات عدة في الساحة، فقد اصبح لعلماء الدين تنظيم خاص بهم تحت اسم "حركة العلماء المجاهدين"، وهنالك "حركة الجماهير المسلمة"، وحتى للمهجرين ممن رحلهم نظام صدام قسراً الى ايران، اصبح لهم "حركة المهجرين العراقيين"، بل من المثير حقاً؛ تشجيعه الفتيان الصغار على تشكيل تنظيم خاص بهم، وهم من ابناء العوائل المهجرة في ايران، وحملوا اسم "حركة اشبال الامام الحسين"، يستمدون نشاطهم الثقافي والتوعوي ممن سبقوهم في الحركة الرسالية في كربلاء في سني الستينات والسبعينات، حيث إقامة مجالس القرآن الكريم و اصدار المنشورات وتسيير التظاهرات في الشوارع والمشاركة في التعبئة العامة لأجواء المعارضة لنظام صدام في المهجر، وكانت تحركات الاشبال من الفئات العمرية بين الخامسة عشر والثامنة عشر من العمر، مثار اعجاب الكثير من العراقيين في بلاد المهجر.
الى جانب التنظيمات ذات الصبغة السياسية، فان الامام الراحل كان يوجه الى تنظيمات في ميدان آخر لا يقل فاعلية وتأثيراً في الساحة السياسية والاجتماعية، وهو ميدان الشعائر الحسينية، ولعلها تجسد اكثر من غيرها فكرة التنظيم، كما تجسد دور الشباب في تقديم نتاج ثقافي للساحة، فجاءت معظم الهيئات الحسينية تحت اسم "هيئة شباب..." لأسماء متعددة لأبطال واقعة الطف، مثل القاسم، وعلي الأكبر، او شباب كربلاء وغيرها، وقد أوصى سماحته –طاب ثراه- بأن يتضمن عمل هذه الهيئات الحسينية، فعاليات اجتماعية وثقافية الى جانب إحياء ذكرى الامام الحسين، عليه السلام، بالتوسع في نشاطات تتعلق بمكافحة الفقر والبطالة والعزوبية وتضييق الفاصلة بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة من خلال المساعدات العينية او توفير فرص عمل، وفي نفس الطريق دعا المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي منذ سنوات في عراق ما بعد نظام صدام، بأن لا تغلق الهيئات الحسينية ابوابها بعد انتهاء مراسيم العزاء في شهري محرم وصفر، بل تستمر في النشاط الثقافي والاجتماعي، بل وتفتح لها نوافذ اعلامية نحو العالم مستفيدين من الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
ان مطالبة الامام الشيرازي بالتنظيم في كل شيء تنطلق من رؤيته الموضوعية للحياة، وأنها "دار اسباب ومسببات، والمسببات تتولد –بشكل قهري- من الاسباب سواء وجدت الاسباب بعمد، او بغير عمد"، الكمن لا يشرب الماء، فاذا أصاب بدنه ضعف او هلك من العطش، هل يعذروه الناس بأنه لم يجد الماء؟! فالنتيجة من عدم وجود التنظيم في حياتنا لا يتوقف على العلم او الجهل، او الامكان وعدمه – كما يقول سماحته-، بمعنى؛ وجوب السعي الجاد نحو التنظيم القادر على قيادة الامة وصناعة احسن الاوضاع للناس.
وعودة على بدء؛ فقد انطلق الامام الشيرازي في تطبيق فكرة التنظيم ليواجه جبهات عريضة من التنظيمات في الساحة ممن كانت تحمل افكاراً ماركسية او قومية بما لا يرتبط بهوية الشعب العراقي وثقافته المستمدة اساساً من الدين.
ثم لا ننسى الامكانات الهائلة التي وظفتها الانظمة السياسية المتعاقبة على العراق في العقود الماضية، وفي مجال التنظيمات الشبابية تحديداً، وكيف انها نجحت في صنع شريحة من المجتمع تعلن لها الولاء وتصفق لهذا الزعيم وذاك الرئيس، وذلك تحت مسميات الاتحادات الوطنية للطلاب، او الجيش الشعبي، بل وذهب حزب البعث في العراق لأن يشمل الاطفال والفتيان ايضاً، من طلبة الابتدائية والمتوسطة، في هذه التنظيمات ضمن ما كان يسمى بـ" الطلائع" و"الفتوة"، هذا فضلاً عما كان يسمى بـ "اتحاد نساء العراق"، مما يعني اتخاذ اجراء حازم اليوم إزاء الإهمال المريع لشريحة الشباب، لاسيما طلبة المدارس والجامعات الذين ينتظمون اليوم في توجهات فكرية وثقافية، مثل الإلحاد والتشكيك والاحتكام الى المادية، في غياب التنظيم الموجه نحو الفكر الاسلامي الذي يوفر كامل الاجوبة لمختلف التساؤلات عن العقيدة والتاريخ والانسان، ويلبي الاحتياجات كافة في حياة الشباب والناس اجمعين.
اضف تعليق