كلّما تأصّلت العقيدة في النفس الإنسانية طفحت في السلوك وانعكست في الأخلاق. وكل إناء بالذي فيه ينضحُ. وشهر رمضان هو شهر تأصيل العقيدة وتقويتها وترسيخها وتركيزها في القلوب والأذهان. وستكون ثمرة هذا العقيدة هي الاستقامة في الحياة في القول والفعل.
العقيدة هي خريطة العمل التي يسير في هديها الإنسان، لكي لا تنفرد به الغرائز وتودي به في هاوية الانحراف، والعقيدة في الإسلام مأخوذة لغويا من الفعل عقد، نقول عقد البيع واليمين والعهد أكّده ووثّقه. وعقد حكمه على شيء لزمه. ومنه الفعل اعتقد بمعنى صدّق. يقال اعتقد فلان الأمر إذا صدّقه وعقد عليه قلبه أي آمن به. ويفهم من هذا أن العقيدة في اللغة تأتي بمعنيين الأول: العقيدة بمعنى الاعتقاد، فهي التصديق والجزم دون شك، أي الإيمان. الثاني: العقيدة بمعنى ما يجب الاعتقاد به. ومن هنا يقولون الإيمان بالملائكة من العقيدة، أي مما يجب الاعتقاد به.
أما المعنى الاصطلاحي للعقيدة فهي التصور الإسلامي الكلي اليقيني عن الله الخالق، وعن الكون والإنسان والحياة، وعما قبل الحياة الدنيا وعّما بعدها، وعن العلاقة بين ما قبلها وما بعدها. فالعقيدة تتناول مباحث الإيمان والشريعة وأصول الدين والإعتقاديات كالإيمان الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وسائر ما ثَبَتَ من أُمور الغيب، وأُصول الدين.
فالعقيدة الصحيحة هي الأساس الذي يقوم عليه الدين وتصح معه الأعمال. وهي الثوابت العلمية والعملية التي يجزم ويوقن بها المسلم. وجوهر العقيدة الإسلامية هو (التوحيد) حتى إن العلماء اتخذوه عنوانًا لعلم العقائد كلها، تنبيهًا على أهميته، وتذكيرًا بمنزلته. فالاعتقاد بوحدانية الله عز وجل وتنزيهه عن المثيل والشبيه والشريك، وأنه سبحانه المستحق للعبادة وحده دون سواه، هو أساس العقيدة الإسلامية والمحور الذي تدور حوله مبادئها وأركانها، وكل ما ورد في أعلاه منبعه الفطرة البشرية التي تعد بدورها المنبع الأصيل للعقيدة الصحيحة.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (شهر رمضان شهر البناء والتقدم):
إنّ (الفطرة البشرية هي منبع العقيدة الصحيحة، فالإنسان يقرّ بوجود الخالق بالفطرة).
وثمة صفات مثْبتة للخالق توصّل لها الإنسان بوساطة الفطرة، وعرف العدل الإلهي من خلالها، لأن انتفاء العدل يتناقض مع السمو الذي تتحلى به الذات الإلهية، والتنزّه عن المآرب المسبقة التي عادة ما تنتج عن الخبث، وهذه صفة بشرية لا يمكن أن تطال الذات الإلهية، فالتنصل من العدل ينبع من جهل، أو احتياج، أو رصيد متنامٍ من الخبث، وهذه كلها ملتصقة بالبشر، ومنفصلة بإطلاق عن الله لأنها لا تلتقي ولا تتسق مع الصفات الإلهية المعروفة.
الإمام الشيرازي يؤكد ذلك في قوله: (بالفطرة توصّل الإنسان إلى معرفة صفات الخالق، فعرف انه عادل لأن عدم العدل أما نابع من الجهل أو الحاجة أو الخبث، وكل ذلك يتنافى مع الصفات الأخرى للخالق).
قصدية الخالق من الخَلْق
بالطبع يحتاج الناس إلى العقيدة كونها تضبط إيقاع حياتهم، وتنظم أفكارهم وتنعكس في تفاصيل سلوكهم، فالعراقيون الذين تجاوزوا محنة الدكتاتورية إلى فضاء الحرية، واجهوا أخطر أنواع الفوضى، وباتت حاجتهم للعقيدة مسألة تصحيح حتمي للحياة، كي يتغلبوا على فوضى الديمقراطية، وهذا يتطلب معرفة القصد الإلهي من الخلق، حيث تقف الفطرة وراء اكتشاف الإنسان لهذه القصدية من الخلق.
يقول الإمام الشيرازي في المصدر نفسه:
(بالفطرة يكتشف الإنسان أن لله سبحانه غرضاً في الخلق، وإلاّ لكان الخلق عبثاً).
وطالما حدث الانتقال القطعي من العبث إلى الهدف الرباني للوجود، وأيقن الإنسان بأن هنالك عدلا إلهيّاً ينسّق حركة الكون والمخلوقات، فإن إفرازات النشاط البشري سوف تشتمل على شتى الصراعات الفردية والجماعية، وسوف تكون هنالك تجاوزات يحيّدها العدل من خلال قاعدة العقاب والثواب.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الشأن:
(يعرف الإنسان بالفطرة أنّ مقتضيات عدل الخالق أنْ وضع حساباً لهذا الكون، فكان لابدّ من إثابة المحسن بالإحسان ومعاقبة المسيء لإساءته).
وهكذا يتحرك المسيئون والمجرمون في رحبة الحياة، تقودهم نزعات الشر التي توجّه حركاتهم، وتفضح مآربهم، لكن مع هذه الإساءات والجرائم قد يفلت المجرمون من العقاب في هذه الحياة، وقد لا يحصل الصالحون على الجزاء الذي يستحقونه عن أعمالهم الصالحة في الحياة!، فهل يتناسب مع المنطق أن يفلت المجرم من العقاب ويُحرَم الصالح من الثواب وينتهي الأمر هكذا؟؟، بالطبع هذا المشهد أو النتيجة تتنافى مع المنطق الإلهي، لذلك لابد من نافذة تقود إلى تصحيح هذه النتائج التي لا تتسق مع المنطق السليم، هنا لابد أن يتوصل الإنسان إلى نتيجة تتسق مع الصحيح، فيؤمن قطعا بأن هنالك حياة أخرى سوف تضع النقاط على الحروف، وسوف يواجه المجرمون العقاب العادل الذي يستحقون، ويُجازى الصالحون على ما قدموه للبشرية.
نلاحظ هذا المعنى في قول الإمام الشيرازي:
(ينظر الإنسان فيرى المجرمين كيف يطول بهم المقام في هذا الحياة؟ وكيف يعيشون على جرائمهم؟ بل يزدادون إجراماً، وأنهم يموتون دون أن ينالوا العقاب العادل. وبالعكس يرى المحسنين كيف يرحلون عن الدنيا دون أن ينالوا جزاء إحسانهم، وهنا توصلهم النظرة الثاقبة إلى ضرورة وجود حياة أخرى غير هذه الحياة التي نحياها وسيكون العقاب والثواب في انتظار أصحاب الأعمال في الدنيا في الخير أو الشر وبذلك يثبت المعاد).
اصالة العقيدة والنفس الإنسانية
في إطار هذا التشظّي والتشتت في المآرب النفسية للإنسان، يظهر الاحتياج الحتمي للعقيدة، كي تحسم الأمور باتجاه النتائج السليمة، فالعقيدة إذا رسخت في الذات، والتصقت بالفكر، سوف تنعكس أصالتها على السلوك، وسوف تقوّم الأخلاق، وهذا بالضبط ما يحتاجه الناس في العراق، أو في البلاد الأخرى للمسلمين أو غيرهم.
لذلك تظهر الحاجة لتأصيل العقيدة بقوة، وهنالك الحاجة المستدامة لتصحيحها، فالإنسان حتى يكون قادرا على ضبط نفسه، ومهيمنا على نوازعها ومحتكما بحالات الانفلات التي تنزع نحو ها النفس، فليس هناك بد من تأصيل العقيدة وصقلها على الدوام عبر التنبيه والتدريس والتقويم الدائم.
وهذا ما يؤكد عليه الإمام الشيرازي في قوله:
(كلّما تأصّلت العقيدة في النفس الإنسانية طفحت في السلوك وانعكست في الأخلاق. وكل إناء بالذي فيه ينضحُ. وشهر رمضان هو شهر تأصيل العقيدة وتقويتها وترسيخها وتركيزها في القلوب والأذهان. وستكون ثمرة هذا العقيدة هي الاستقامة في الحياة في القول والفعل).
وكل هذه المواصفات التي ينبغي أن تكون عليها العقيدة، سوف يكون الوصول إليها أيسر وأسرع فيما لو توافرت مستلزمات التصحيح العقائدي، وهذا ممكن التحقق في الأجواء الرمضانية التي تحفّز على تصحيح العقيدة وترسيخها من خلال توفير الشروط اللازمة والمستحَقّة، فالصفاء وصنع الشفافية في الإطار النفسي عوامل مساعدة للتصحيح العقائدي، ومثل هذه الشروط الموضوعية لا يمكن الوصول إليها بعيدا عن الأجواء الرمضانية النقية.
حيث تساعد أجواء شهر رمضان الناس على فهم العقيدة ومن ثم التمسك بمضامينها، والأهم سيأتي بعد ذلك في التطبيق الإجرائي لمضمون العقيدة في الحياة العملية للناس، فإذا كانت لديهم عقيدة صحيحة، صارت لديهم حياة صحيحة أيضا بكل تفاصيلها، وهذا بالضبط ما يحتاجه الإنسان العراقي في هذه المرحلة، وكذلك تبدو الحاجة ماسة له بالنسبة لعامة المسلمين الذين يفتقرون إلى ضبط إيقاع الحياة وفق العقيدة التي ترسم لهم خطوات الفكر السليم، والفعل الصحيح الذي يأتي كنتيجة منطقية لنقاء العقيدة، حيث يكون الفعل تبادلي بين الصفاء وشفافية النفس من جهة، وبين الوصول إلى عقيدة ضامنة وضابطة لحركة ونوازع الإنسان.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الشأن:
إن (شهر رمضان هو مناسبة جيدة لإيجاد الصفاء، ولخلق هذه الشفافية في النفوس، والتي من خلالها يصل الإنسان المؤمن إلى معين العقيدة).
اضف تعليق