أن الإنسان بعقليته المتجددة وإرادته الحديدية، يكون قادرا على الدوام بالتحكم في مسارات حياته، وفق اشتراط الالتزام بمنظومة قيم جيدة تحميه من الانحراف والسقوط في فخ المغريات أو الملذات الزائلة، لذلك ونتيجة للصراعات الفارغة التي غالبا ما يكون وقودها الطمع والجشع...
ما الذي سيفوز به الفرد إذا حافظ على القيم الرفيعة، في جانبيّ المعنى والتطبيق؟، سؤال ربما لا يفهم بعضهم أو أغلبهم تأثيراته وتداعياته في البناء المجتمعي والسياسي، فالقيم تعني التزام الفرد والجماعة بمعايير إنسانية لا يمكن الاستغناء عنها، لكونها تمثل القوة الرادعة للذات إذا ما حاولت الانزلاق في بؤر الانحراف، وتحافظ القيم على الفكر وتضبط السلوك وتأتي النتائج في صالح الجميع.
لذا علينا كأفراد أن نسعى ونعمل بجد على أنفسنا أولا وعلى محيطنا الاجتماعي الأقرب (العائلة) والأبعد (المجتمع، فهناك من الظواهر السلوكية والفكرية أيضا، ما يساعد على تأخير المجتمع ويجعله يراوح في مكانه، بينما الشعوب المتطلعة الى أمام تحقق قفزات كبيرة باتجاه التحضر، ومثل هذه المجتمعات التي تحقق قفزات متسارعة نحو المدنية، تتمكن من القضاء على الظواهر السيئة في منظومتها السلوكية والفكرية أيضا، في حين تبقى المجتمعات المتأخرة أسيرة هذه الظواهر، كما يحدث في بعض البلدان الإسلامية ومنها العراق او بعض بلدان العالم الثالث، فهذه المجتمعات ربما لم تتشبث وتتمسك بالقيم السليمة كما ينبغي كما نلاحظ في تسلل التملق إلى التعاملات الاجتماعية والإدارية والعلمية وكل مرافق الدولة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه الموسوم بـ (فلسفة التأخر):
(من فلسفة التأخر التملّق، فإنه إذلال للنفس ومهانة، ووضع لها دون موضعها، بالإضافة إلى أنه ربما أغرى الطرف ــ إذا كان حاكماً ــ بالاستبداد والمد في الغي والطغيان).
بالطبع سوف يشعر الإنسان التملق بعدم الاحترام نتيجة لحالة الذل التي يعيشها، وهناك من يحاول أن يخدع نفسه بأنه يعمل الصحيح وأن تسلق السلّم الوظيفي مثلا لا يتم إلا عبر التملق، وهكذا ستكون هذه الظاهرة وانتشارها في السلوك المتبادل بين الأفراد والجماعات، عنصر إعاقة لتطور الدولة واندفاع المجتمع نحو التمدن، لأن هذه الظاهرة تقضي على احد أهم شروط التقدم وهو شل قدرات الكفاءات وعدم استثمارها على النحو الأمثل، في حين أن التملق يبعثر الفرص ويقوض الكفاءات، ويفتح الباب واسعا نحو الجهل والقبلية والتخلف، ومن ثم اللهاث صوب المغانم النفعية أو سواها، بغض النظر عن هدر الكرامة، وحماية الذات من التدحرج نحو وحل الخضوع والامتثال للتخلف.
الاحترام المتبادَل يحمي الجميع
وثمة ظواهر عديدة يمكن أن تشكل عاملا مساعدا لتأخر الدولة والمجتمع ومنها ما يدمر البناء المجتمعي، ويقود الى تخلف البناء المدني للدولة، وتتمثل بعدم احترام الناس سواء بعضهم لبعض او من لدن مؤسسات الدولة، والسلطة وأجهزة الأمن وما شابه، لذا فإن عدم الاعتداء على الآخرين، يمثل ركيزة للتطور في البناء المدني، أما تجاهل الناس وبخس أشيائهم فهو لا يصب في الاتجاه الصحيح.
حيث يقول الإمام الشيرازي في هذا الموضوع:
(من فلسفة التأخر، عدم إعطاء الناس قدر حقهم، في أي بعد من أبعاد الحياة، فإنه ظلم وتعدّ وبغي، وقد قال سبحانه وتعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ).
إذا فإن اعتماد مثل هذه الأساليب والقيم يمثل إهانة لا يصح للإنسان أن يتقبّلها مهما كانت الأسباب أو التبريرات.
لهذا يشير الإمام الشيرازي إلى هذه النتيجة بقوله:
(بالإضافة إلى أن من يفعل ذلك يهين نفسه ويسقطها في نظر المجتمع).
لذلك حرص الإمام الشيرازي كل الحرص أن يحافظ المسلمون ومنهم العراقيون على القيم الأصيلة التي تنظم علاقاتهم وكل شؤون حياتهم، من أجل الحفاظ على كرامتهم فضلا عن توفير متطلبات ومستلزمات الحياة الحرة، فمن أساسات البناء المجتمعي الناجح، حفظ الكرامة الإنسانية أولا، وجعلها تتقدم على جميع الأساسيات المعنوية الأخرى، فالإنسان عندما يشعر بكرامته مصانة يكون أكثر إبداعا وإنتاجا وتفاعلا من غيره، بالإضافة الى تزايد قدراته تبعا لاستقراره النفسي نتيجة لشعوره بكرامته واستحقاقاتها، لذلك لا يصح التشهير بالآخرين ولا النيل من سمعتهم وأعراضهم، مهما كانت أسباب الخلاف سياسية او سواها، وكلما قل هامش هذا التجاوز المتبادَل، يصبح المجتمع اقرب الى المدنية من سواه، وهذا بالضبط ما نحتاجه كوننا مجتمع يتطلع إلى المدنية والتقدم.
عدم النيل من الآخرين
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع: (من فلسفة التأخر، العيش على أعراض الناس والنيل من كرامتهم).
وقد تعدد القيم غير السليمة، وأحدثت الكثير من المشكلات وأنتجت الكثير من حالات ومعضلات التأخّر، فثمة ظاهرة أخرى تتلبس الأفراد، او ربما نسبة كبيرة من المجتمع، نتيجة لأسباب وظروف معينة، هذه الظاهرة هي حالة التشاؤم التي تسيطر على تفكير وسلوك الإنسان، فتجعله في الغالب عاجزا عن التفاعل بوضوح وقوة مع الحياة برمتها، وبالتالي نكون إزاء مجتمع متشائم غير قادر على الإبداع ولا على التطور، لهذا مطلوب أن تسود قيمة معاكسة تماما، وهي قيمة التفاؤل والسعي الدؤوب للبناء الجاد والجيد.
لهذا يؤكد الإمام الشيرازي حول هذه القضية:
(من فلسفة التأخر، التشاؤم والتطيّر بالحياة والأحياء، بينما ليس الأمر إلاّ العكس، فالحياة جميلة، والأحياء حركة وبهاء، وحتى المشكلات والمآسي نوع من الجمال وتحفيز للتقدم. أرأيت النقش الجميل؟ فإنّ النقاط السوداء فيه جميلة أيضاً وتزيده جمالاً.(
ومن القيم التي لا تشجع على التلاحم بين المكونات المتعددة في المجتمع، سوء الظن، وهي سلوك مرفوض جملة وتفصيلا، حتى أن النص القرآني اعتبر بعضه من الإثم، ومعنى سوء الظن هو أن تظن بالآخر ما هو غير موجود فيه أصلا، بل استنادا الى تخيلات غير واقعية، قد تجعل من صديقك عدوا لك، ولذلك لابد من تطويع الأمور والعلاقات كافة، كي تصب في صالح البشر دائما، أي يجب على الإنسان ان يستثمر حتى ما هو في غير صالحه ليجعله مساعدا له، لاسيما أن العقل هو أفضل عضو في جسد المرء قادر على تحويل المساوئ إلى العكس، إذا ما استخدم عقله بصورة سليمة والتزم بالقيم الإنسانية الأصيلة.
ويدوّن سماحة الإمام الشيرازي في كتابه (فلسفة التأخر)، كل ما من شأنه توعية البشر، وجعل العقل أكثر استجابة للظروف بما يجعل منها عوامل مساعدة، وليست كابحة أو معيقة لتطوّر الإنسان، لذلك يذكر الإمام لنا هذه الحكمة الراقية بقوله: (قال بعض الحكماء: اصنع من الليمونة الحامضة مُربىً حلواً، واجعل من الملح طعاماً مطبوعاً).
وهذا يعني أن الإنسان بعقليته المتجددة وإرادته الحديدية، يكون قادرا على الدوام بالتحكم في مسارات حياته، وفق اشتراط الالتزام بمنظومة قيم جيدة تحميه من الانحراف والسقوط في فخ المغريات أو الملذات الزائلة، لذلك ونتيجة للصراعات الفارغة التي غالبا ما يكون وقودها الطمع والجشع، تبدأ عمليات التسقيط بدافع سوء الظن مسبقا، كما يجري مثلا بين أي أفراد أو أية جماعات كالدول مثلا، من منازعات أصلها ليس العدل وإنما الطمع.
فيبدأ الصراع بسوء الظن ويستمر بحملات التشهير والإساءات، لينتهي بالحروب المدمرة التي يكون وقودها الفقراء في الغالب، أما مشعلو الفتن وحائكو الدسائس ومطلقو حملات سوء الظن المتبادَل، فهؤلاء لا ينتج عنهم سوى الخراب.
لهذا يؤكد سماحة الإمام الشيرازي قائلا في هذا المجال: إنَّ (من فلسفة التأخر سوء الظن بالله وبالناس وبالنفس).
اضف تعليق