في الطريق الطويل للمفكرين الاسلاميين في السنوات العجاف للقرن الماضي، يقف سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- علماً شاخصاً، ليس في فقط في ما طرحه من افكار ونظريات، فهذا ما فعله الكثير، ممن قرأ لهم سماحته، ويستشهد بهم وبتجاربهم في احاديثه ومؤلفاته، إنما التميّز والريادة، في ثورة هذا الفكر والثقافة التي قدمت مشروعاً حضارياً متكاملاً للشعوب والامة جمعاء.
وعندما نقول "ثورة" لن نكون مندفعين بالحماس والعاطفة إزاء هذه الشخصية العظيمة، إنما القضية، قراءة واقعية للتوجه الفكري والثقافي للامام الراحل ومنطلقاته واهدافه، ففي الفترة التي انتفض فيها سماحته مفكراً ومصلحاً، كانت الامة تعيش اسقاطات عديدة، ابرزها خيبة الامل بالتحرر من الاستعمار، والغزو الفكري والثقافي، والأخطر من كل ذلك؛ عدم تبلور رؤية اسلامية ووجود البديل المتكامل أمام النماذج والخيارات التي جاءت بها الانظمة السياسية. بمعنى ان كل شيء كان يوحي الى التخلّف والحرمان والتمزق، فلا مناصّ من ثورة فكرية شاملة على الاصعدة كافة؛ السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون وجميع نواحي الحياة، لتمزيق حجب الجهل بالفكر الاسلامي الذي لم يدع جانباً في حياة الانسان إلا ورسم له خارطة طريق نحو السعادة والتقدم.
ويجب ان نتذكر دائماً، أن سماحة الامام الشيرازي انطلق في مسيرته الثورية على اكثر من صعيد، وهو يتولّى مسؤولية دينية كبيرة وحساسة، ألا وهي المرجعية الدينية، بما لها من تفرعات ومهام عديدة ومتشعبة، من ادارة الحوزة العلمية وادارة شؤون الطلبة ومتابعة قضايا المجتمع وغيرها... هذه المشاغل المتعددة والمهام الكبيرة والثقيلة، حولها سماحته الى منطلق لنهضته الفكرية والثقافية، فخرجت افكاره متميزة وعميقة لأنها تعود الى مفكر ومرجع دين في آن واحد، بمعنى ان القضية لا تعود الى استنتاجات وتصورات مبنية على تجارب بشرية وحسب، إنما على معادلات وسنن إلهية، فعندما كان يتحدث عن السلام والحرية والشورى والرفاه الاجتماعي – مثلاً- لم تكن مجرد طموحات مجنحة كما فعل العديد من المفكرين والمصلحين الذين بقيت افكارهم ونظرياتهم طي الكتب، وربما طواها النسيان.
السلام؛ لا عنف ولا هزيمة
كان يبدو صعباً الحديث – وما يزال هكذا- عن السلام واللاعنف في ظل أجواء الحروب والفتن السياسية، مما يقتضي الاستعداد للمواجهة بالتدريب على السلاح وتشكيل الجماعات المسلحة وحتى التدريب على حرب العصابات وانتشار مدارس التدريب على الخطف والنسف والاغتيال، وايضاً على صعيد الدول والحكومات، التي تضحي بكل شيء، حتى بلقمة عيش شعبها للتفوق في سباق التسلح أو تحقيق ما يُسمى بـ "الردع النووي"، الذي روج له الاميركيون منذ خمسينات القرن الماضي، وثبت فشله، بعد تدمير أجزاء كبيرة من الترسانة النووية لدى كل اميركا والاتحاد السوفيتي السابق في ثمانينات القرن الماضي، وعقد الاتفاقيات للحد من التسلح النووي. والسبب في كل ذلك، هي أجواء الحرب والصراع المخيمة على العالم، وتحديداً العالم الثالث، كما لو انه محكوم بالعيش في حالة الحرب الى الأبد.
وهذا ما عالجه وثار بوجهه سماحة الامام الراحل عندما أصرّ على مبدأ السلم واللاعنف في عديد مؤلفاته، على أنه المبدأ الثابت والاساس، أما الحرب فهي للدفاع عن النفس ليس إلا، ونراه – قدس سره- يذكرنا دائماً بالتجربة الرائدة للرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، عندما أسس أول حضارة متقدمة ومتفوقة في العالم، على اساس هذا المبدأ، لا مبدأ الحرب والتهديد او إشاعة الرعب والارهاب.
ان تقادم الايام هو الذي أثبت صحّة ما ذهب اليه سماحة الامام الراحل، وليس القناعة بها من قبل اهل العقد والحل في هذا البلد وذاك، فكانت النتيجة إزهاق مئات الآلاف من الارواح، ودمار هائل وتخلف عن ركب الحضارة والتطور، وآثار نفسية ومعنوية غاية في السلبية.
لنلاحظ كيف أن حروب طاحنة شهدتها بلادنا خلال العقود الماضية، على أمل ان يظهر المنتصر والمنهزم، بيد أن النتيجة كانت "لا غالب ولا مغلوب"، كما حصل في الحرب العراقية – الايرانية التي دامت ثمان سنوات، وحصدت اكثر من مليون قتيل ودمار وآثار نفسية ما تزال عالقة في الاذهان.
الحرية مبدأ انساني
يؤكد سماحة الامام الراحل على أن "الحرية" ليس مجرد شعار سياسي للاستهلاك الانتخابي او لتحقيق مكاسب معينة، إنما هو مبدأ انساني تقره الرسالات السماوية، فهو احد اركان الحضارة التي جاء بها الاسلام، لذا نقرأ تفاصيل عن هذا المبدأ في عديد مؤلفاته، حيث يعده عامل نجاح لمعظم جوانب الحياة، فالتنمية الاقتصادية والتنمية البشرية والتقدم العلمي والتطور السياسي، وحتى تحقيق الامن والعدل، لن يكون إلا بتوفر أجواء الحرية للإنسان، أما الكبت ومصادرة الحريات، فانه ينتج نقائض الموارد الانفة الذكر، وهذا ما نلاحظه جلياً في معظم بلادنا الاسلامية.
نعم؛ "الحرية" شعار جميل ومثير للمشاعر الانسانية، ونراه مرفوعاً على أبنية الاحزاب السياسية وفي ادبياتها وعلى ألسن الرموز السياسية والفكرية، لكن لمجرد وصوله الى ارض الواقع، نرى التنافر الشديد، والسبب في النوايا الحقيقية وراء رفع هذه الشعارات، فهي إما الوصول الى السلطة او كسب القاعدة الجماهيرية وغيرها. بينما الامام الراحل يريد حرية التعبير عن الرأي وحرية العمل والاجتماعات وغيرها من انواع الحريات المشروعة، في زمن الحرب وفي زمن السلم، كما في زمن النضال ضد الديكتاتورية، وايضاً في زمن الديمقراطية، على ان الحرية، نعمة وكرامة من الله - تعالى – لان يتخذها الانسان وسيلة للبناء والتطور في الحياة.
من هنا يؤكد سماحته على ان "الحرية الاسلامية اكثر من الحرية الغربية عشرات المرات..."، كما جاء في كتابه "الصياغة الجديدة"، مذكراً على ان الحرية الحقيقية هي التي يمنحها الاسلام للانسان وليس الانظمة السياسية التي لم تتوصل حتى الآن الى نظام متكامل يتضمن الحرية الصحيحة التي يستفاد منها الانسان ولا تعود عليه وعلى المجتمع بالضرر. وقد اشار سماحته الى القاعدة الرائعة في الفقه والمستقاة من القرآن الكريم: {لاتَظلمون ولا تُظلمون}.
والحقيقة؛ ان الحديث يطول عن حالة الثورة والانتفاض التي اتسمت بها معظم افكار ورؤى الامام الشيرازي، فهو لم يأت بجديد من الناحية الظاهرية على ما قدمه مفكرون كتبوا ونشروا عن الحرية والسلم والمساواة والاستقلال والديمقراطية والرفاه الاجتماعي وغيرها من المفاهيم والقيم الانسانية، بيد أن هذه الافكار كانت تخرج ثائرة من مؤلفاته ومحاضراته في سالف الأيام. مثال ذلك، "الديمقراطية" التي لم يبق سياسي صغير ولا كبير، إلا ويتحدث بها ويدعو اليها، فيما يتحدث الامام الراحل عن "الفهم السياسي"، وان يعمّ الناس الوعي السياسي، مفنداً محاولات بعض الاطراف والجهات لإبعاد علماء الدين وعامة المجتمع من فكرة "التدخل في السياسة"، واصفاً هذه المحاولات بانها من المؤامرات الاستعمارية القديمة والتي ما تزال قائمة حتى اليوم.
هذا ثورة في الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، هي التي تشيّد الثقافة وتؤسس للتغيير ثم البناء والتقدم. ولمن يقرأ مؤلفات سماحته، لاسيما "السبيل إنهاض المسلمين" و"الصياغة الجديدة" و"ممارسة التغيير"، يجد مدى حاجة الامة في ازماتها المعقدة الى هكذا ثورات فكرية لتصحيح الاخطاء الفاحشة في الانظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت السبب المباشر في كل الازمات الخانقة التي ما تزال تعيشها.
اضف تعليق