البذل والبخل مفردتان متناقضات في المعني اللغوي، وفي النتائج التي تتمخض عن اعتماد أحدهما كأسلوب التعامل مع حيثيات الحياة وشؤونها، فالبذل هو السخاء بعينه، والسخي حبيب الله، أما البخل فهو يعزل صاحبه عن أقرب الناس إليه وعن المحيط الذي يعيش فيه فيكون في غربة حتى لو كان يعيش بين أهله، فالفارق كبير بين الكلمتين كمعنى وكأسلوب في الحياة، السخي يحبه الله والناس، والبخيل الشحيح مكروه من الجميع.
وحين يكون الكلام عن آليات البناء المجتمعي، فإن دور البذل سوف يبرز بقوة باعتباره يضم في طياته أنواع التبرعات ومنها فريضة الزكاة، فثمة سبل وطرائق كثيرة يستند إليها البناء المجتمعي السليم، كلها تنتظم تحت بنود وخطوات إجرائية، تُسهم بصورة فاعلة في تحديث المجتمع، ورفع شأنه، وارتقائه، من مرتبة المجتمع المتأخر، الى مراتب المجتمعات الأكثر تطورا في العالم، يتقدم هذه الخطوات، الإنفاق، ويعني مشاركة الأثرياء في معادلة الدخل، أو تقريب الفجوة، وتقليل الفوارق الشاسعة، بين الفقراء والأغنياء، ولا يمكن أن يكون هنالك أي دور للبخل في هذا المجال، سوى إلحاق الضرر بالمجتمع.
والسؤال الذي يمكن مناقشته في هذا الجانب، هل يمكن للإنفاق والتبرع أن يُسهم في تقدم الدولة والمجتمع، فعندما يقوم الغني بالإنفاق على الفقراء بطرق واضحة ومنتظمة، ضمن منهج حياتي شامل، يسير عليه أثرياء المجتمع كافة، عند ذاك سيكون المجتمع كله أكثر استعدادا من سواه، للتقدم والاستقرار، نتيجة لإسهام المال المتوفر من التبرعات والإنفاق على الفقراء في مجالات التعليم والترفيه وتطوير القدرات والمواهب والكفاءات، وهي كثيرة لدى الفقراء، كونهم يحاولون أن يعوضوا النقص المادي بالإبداع الفكري والمعنوي.
فقد قال الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه الموسوم بـ (انفقوا كي تتقدموا):
إن (الإنفاق في سبيل الله ينفي البخل والشح، ويسهم بشكل فاعل في عملية تقدم وتطور المجتمع).
فالتقدم يمكن أن يكون رهن ثقافة التبرع، ولكن قد لا تتاح هذه الثقافة بسبب المضادات لها، إذ في مقابل السخاء يقف البخل بالضد من تطور المجتمع، حيث يكف الأغنياء أو يترددون، عن المساهمة ماليا في البناء المجتمعي من خلال التبرع بالأموال، ضمن القنوات الشرعية كفريضة الزكاة والخمس، أو عبر الإسهام الفاعل في التبرع للفقراء، أو إقامة وإنشاء المشاريع الخدمية والصحية والثقافية وسواها مما يسهم في تطوير الناس، لذلك عندما يكون الغني بخيلا، فإنه يحرم أعدادا واسعة من المجتمع فقراء او سواهم، من فرص التعليم والترفيه والصحة، والحياة الكريمة، لذلك يحث الإسلام على نشر هذه الثقافة وتطبيقها نظراً لفاعليتها في تحقيق التوازن الشرائي بين أفراد الأمة.
ويؤكد ذلك الإمام الشيرازي بقوله: (للبخل آثار سيئة على الإنسان نفسه منها: جلب الذم فالبخيل مذموم دوماً، والبخل يزري بصاحبه وهو مدعاة للذل فالبخيل ذليل أبداً وإن كان بين أعزته، كما يكسبه العار ويدخله النار لا محالة).
الفارق بين البخيل والثري الكريم
مما هو متداول ومعروف من الصفات التي تُطلَق على البخيل تدل على ضعف شخصيته وانغلاقه وخوفه من مساعدة المحتاجين، لذا هناك صفات مسيئة تلحق بالبخيل دائما، بالعكس تماما من المزايا التي يحصل عليها الثري الكريم، الذي لا يتردد عن التبرع بجزء من مدخراته وأمواله لصالح الفقراء، والبناء المجتمعي، من خلال دعم المؤسسات الخيرية والمنظمات الثقافية والمشاريع الصحية والتعليمية وسواها، لذلك تلحق بالبخيل صفات لا تليق بالإنسان يطلقها عليه المحيط المجتمعي الذي ينشط ويتحرك فيه، في العمل او العلاقات الاجتماعية، وهذا سيترك على شخصية البخيل الكثير من الصفات التي تضاعف نواقصه الكثيرة أصلا.
وهذا ما يؤكده الإمام الشيرازي قائلا:
(من آثار البخل أنه يوجب البغضاء ويمنع الشكر، ويكسب المقت ويشين المحاسن ويشيع العيوب؛ فإن البخيل يمقته الغريب وينفر منه القريب، والبخل مما يفسد الأخوة، فمنعك خيرك يدعو إلى صحبة غيرك، مما يجعلك غريباً بين أهلك وإخوانك، ولا غربة كالبخل).
ولا ينحصر التبرع أو السخاء في بذل الأموال أو حسن الاستقبال وإقراء الضيف، فمن اللافت للاهتمام، أن المشاركة في البناء المجتمعي، لا يقتصر على الدعم المالي من الأثرياء للطبقات الأخرى الأقل ثراءً، بل ينبغي أن تسهم المشاركات العلمية والقدرات المختلفة في بناء المجتمع، ومنها العلم على سبيل المثال، إذ لا يجوز احتكار العلم، وحرمان الفقراء وغيرهم من فوائد العلم وثماره التي تصب في تطوير العقول والأفكار، وتبني الحياة بالصورة الأجود، وتساعد على بلورة مجتمع متطور مستقر ومنسجم، يسوده التعاون والشعور بالمسؤولية واعتماد التكافل كأسلوب حياة وثقافة تزيد من الترابط المجتمعي.
يؤكد الإمام الشيرازي في خصوص العلم ومشاركة الأثرياء والعلماء للفقراء:
بأن (الشرع الحنيف قد جعل لكل شيء زكاة: فزكاة العلم نشره، وزكاة الجاه بذله، وزكاة الحلم الاحتمال، وزكاة المال الأفضال، وزكاة القدرة الإنصاف، وزكاة الجمال العفاف، وزكاة الظفر الإحسان، وزكاة البدن الجهاد والصيام).
التبرع المادي والتبرع المعنوي
وهكذا يمكن التبرع في جميع المجالات وفي كل حقول الحياة، ليس المال وحده ما يحتاجه الناس، فثمة من يحتاج العلم، والآخر يحتاج المال، وثالث يحتاج الجاه على سبيل المثال، لذلك عندما يتردد الأثرياء، عن دعم الفقراء، في المال والعلم وتطوير المجتمع، فإن الحقد والضغينة سوف تتزايد ضد الأثرياء، لذلك طالما أن الغني يتحرك في الوسط الفقير، وينشط فيه ويعمل ويجمع أمواله من خلال عمليات البيع والشراء والتعامل مع الشرائح الواسعة من الفقراء، فإن الكف عن مساعدة هؤلاء والتبرع لما يخدمهم ويطورهم، يجعلهم في حالة من الغضب على الأثرياء، وهذا يعني حدوث فجوة واسعة بين الطبقتين، وسيؤلّب الفقراء على الأغنياء فضلا عن كون استئثار الأغنياء بالأموال وحرمان الآخرين منه مخالفة شرعية، كما أن علم النفس أثبت زيادة النقمة على الأغنياء طالما أنهم كفوا أيديهم عن التبرع والبذل والسخاء.
يقول الإمام الشيرازي عن ذلك:
(إن علم النفس والاجتماع يقرران أن هناك نقمة متزايدة ضد طائفتين: الحكام والأثرياء، وهذه النقمة لابد أن تتنفس بعنف، ولكن يمكن امتصاص هذه النقمة ضد الأغنياء بالبذل السخي للفقراء والمشاريع، وبعدم الاستفزاز في الإنفاق).
ومن المؤكّد أن التعميم المطلق لليس صحيحا، ذلك أن تأشير هذا الخلل لا يشمل جميع الأغنياء، فهناك من هو ملتزم بالتبرع ومشاركة المؤسسات الداعمة للمجتمع، وهناك من هو حريص من الأثرياء على دعم الفقراء، ومنهم من يؤدي الزكاة والخمس على نحو متواصل ومنتظم، ولكن هناك أقلية من الأثرياء ملتزمة بهذا النهج، أما الأكثرية فهم غير ملتزمين بهذا المنهج الذي يؤكد عليه الدين، وتفرضه الشرائع، وتتطلبه حالة المجتمعات الإسلامية التي تعاني من العوز والحرمان والفقر، لأن أقلية الأغنياء ليس بمقدورها تصحيح البناء المجتمعي، وفي حال امتنع الأغنياء عن البذل بسخاء فإن المجتمع سيبقى يعاني من مشكلات العوز والطبقية المرفوضة.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع:
(ليس من شك أن هناك أثرياء من أهل الخير يبذلون بسخاء في سبيل الله، ولكنّ هناك فرقاً كبيراً بين أن يكون الأقلون أو الأكثرون هم الذين يبذلون، والكلام هنا في الأكثرية التي لا تبذل، لا في الأقلية التي تبذل).
اضف تعليق