التفاعل بين افراد المجتمع حالة طبيعية، من طبيعة التكوين البشري، فالانسان، إنما سُمّي انساناً، لانه يأنس بنظيره الانسان، ومع تطور الحياة، نلحظ كثافة هذا التفاعل في مجالات شتى، بحيث يستحيل على انسان سويّ العيش بمعزل عن الآخرين، فالجميع محتاج الى الجميع، بيد ان هذا التفاعل نراه ضمن إطار المصلحة الخاصة، فالحاجة الى النجار والحداد والخباز والطبيب والمهندس، إنما لسدّ الاحتياجات اليومية، وهو أمرٌ حسن وطبيعي ايضاً.
وتخرج هذه الحالة البديهية الى إطار أوسع تتبناه شريحة خاصة في المجتمع، من حملة الوعي والثقافة والفكر، فيدرجون هذا التفاعل ضمن مشروع ايديولوجي فيكون التفاعل مع المجتمع في سلم أولوياتهم بهدف وضع اليد على اكبر مساحة ممكنة من المجتمع، في خطوة تمهيدية نحو قمة السلطة او تحقيق مكاسب سياسية كما تقوم بذلك الاحزاب السياسية والمؤسسات الاعلامية والثقافية.
ولذا فان سماحة الامام الشيرازي –طاب ثراه- في هذا المقطع الصوتي، نراه يشدد على أن يكون التفاعل من منطلق اسلامي ليكون مميزاً عن سواه من انواع التفاعل المنبعث من نوايا واهداف اخرى.
لنقرأ كيف يحقق حملة الوعي الديني، التفاعل الصحيح مع المجتمع؟ وما هي النتيجة؟
"إن التفاعل مع المجتمع من منطلق اسلامي، يعني عزّة المجتمع وعلو شأنه، بل ويكون مصداق الآية الكريمة: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}، فالإيمان شرط للعلو والسمو، وإلا فلا علو ولا سمو ولا عزّة للمجتمع.
وهذا التفاعل ليست مهمة مقتصرة على علماء الدين، بل وكل من يحمل شعوراً دينياً، ربما يكون الانسان المتديّن، تاجراً، او موظفاً، فهؤلاء عليهم ان يتفاعلوا مع المجتمع لنشر الدين في أوساطه، أما أن نكتفي بالوقوف بوجه المرأة السافرة والاعتراض على عدم تحجبها، أو الاعتراض على شارب الخمر وأشباهها من المواقف التي تندرج ضمن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانها في حدّ ذاتها، لم تكن مجدية، منذ فجر الاسلام، وحتى اليوم والى يوم يبعثون! مع العلم بانه أداء لفرض الواجب، بيد ان ليس المصداق الحقيقي لهذه الفريضة، ولا مصداق الدعوة الى الله – تعالى-، انما يتحقق ذلك بالتفاعل مع المجتمع لا أن يصطدم به.
السؤال هنا: كيف يكون التفاعل مع المجتمع؟
ببساطة؛ التفاعل يعني ان يكون الانسان المتديّن عاملاً لتوحيد المجتمع وتماسكه، وان يكون عاملاً لنشر الوعي والحثّ على طلب العلم، وحل مشاكل الناس. فاذا أسهم بتاسيس مدرسة دينية (علمية) يعني أنه أسهم بتوجيه ألف طالب نحو القيم والمبادئ الاسلامية، وكذلك الحال في إصدار مجلة شهرية –مثلاً- واذا بنى حسينية حيّة، لا حسينية ميتة، تكتفي بأيام معدودة من المجالس ثم تقفل ابوابها، فهذا يعني انه وجه المجتمع نحو النظام الاسلامي، وكذلك بالنسبة للمكتبات وحتى النوادي، وهذا ما جربه السيد عبد الحسين شرف الدين في لبنان، عندما أنشأ في مدينة صور، "نادي الامام الصادق، عليه السلام"، وهو نادي يقدم الثقافة الاسلامية، بدلاً من ان يذهب الشباب الى أندية تقدم لهم القمار والفجور والخمور، وبالامكان ان يكون هذا النادي للرياضة، كما يكون للشعر والقصة، ويكون للمباحثة في مختلف مسائل الحياة التي تشغل بال المجتمع والامة.
وعليه؛ فاذا تفاعلنا مع المجتمع، نكسب هذا المجتمع، وعندما نكسب المجتمع، يعني أن الدين كسب هذا المجتمع، والنتيجة؛ السيادة، والعزّة، والتوفيق، والتقدم".
البناء الاجتماعي مهمة الجميع
"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، هذا الحديث النبوي الشريف، يمكن وصفه بأنه من الاحاديث ذات البعد الاستراتيجي المشتمل على مصاديق عدّة في الحياة، فالمسؤولية ربما تكون في ميدان التربية، وفي الامن العام، وفي ميدان السياسة، والاقتصاد، وايضاً في بناء المؤسسات الخيرية والتعليمية ورفد المجتمع بالوعي والثقافة الأصيلة، فالمهمة غير محدودة بالحوزة العلمية وعلماء الدين في رعاية الايتام والعوائل الفقيرة وبناء المكتبات والمراكز الثقافية، انما هي مهمة كل من يسير في خطى الحوزة العلمية، ويحمل قدر أكبر من الوعي الديني والثقافة التي أخذها من علماء الدين في محاضراتهم ودروسهم، ومن الخطباء ومجالسهم.
ويذكرنا سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي بالهدف الواحد والمشترك من وراء المؤسسات التعليمية والتثقيفية، وهو تقوية جسور العلاقة بين المجتمع وبين قيم العدل والمساواة والتكافل والتسامح وغيرها من القيم الدينية، والمسألة تشبه الى حدٍ بعيد؛ النظافة في الاماكن العامة التي تنجح بتوافق جميع ساكني الحي او الشارع والزقاق على رمي النفايات في مجمع القمامة حصراً، وكذا الحال بالنسبة للعمل الاجتماعي فانه ينجح بمشاركة جميع المعنيين من اصحاب تجار، ومثقفين، ومهنيين، وعلماء دين.
قبل أيام زرت مكاناً يُعنى بالايتام في احدى المناطق الفقيرة، وهو يحمل اسم "مبرّة الرحمة لرعاية الايتام"، والملفت للنظر أن المكان لم بأحسن حالاً من باقي الدور السكنية التي يسكنها هؤلاء الايتام والفقراء، بيد أن دفء العلاقة بين الايتام الصغار وهذا المكان، وتفاعلهم معه، بالرسم وقراءة القرآن الكريم والرياضة وغيرها، هو الذي يميّز هذا المكان عن غيره، وقد تحول الى بديل للاطفال الايتام، وربما لغيرهم ايضاً، عن خيارات أخرى مطروحة مثل؛ مقاهي الانترنت والالعاب الالكترونية والتجمعات المشبوهة وغير ذلك.
عندما ندرس سيرة الرسول الأكرم وأئمة الهدى، عليهم السلام، نجد أن تفاعلهم مع افراد المجتمع وتوفيرهم الامن والغذاء والكرامة وحتى العلم لهم، لم يكن – هذا التفاعل- مصحوباً بالسؤال عما اذا كان المستفيد مؤمناً وموالياً، او يستحق الطعام الذي يأتون به الى ابواب الفقراء ليلاً، وربما يكون المستفيدون من الاعداء والمبغضين والمحرضين عليهم، بيد ان وجودهم ضمن نطاق المجتمع الاسلامي يعني أنهم يشكلون اجزاء من الامة الكبيرة الواحدة، ولذ فان طريقة تعامل المعصومين، عليهم السلام، مع المجتمع الاسلامي آنذاك، كان يشكل الروح والقلب النابض للدين في كيان الامة، وكان هو عامل الحياة وداينمو الاستقامة، في وقت كانت السلطات الحاكمة موغلة بالظلم والطغيان والانحراف.
ان الذي لديه مستوى من فهم المسائل الشرعية، وتدبر في القرآن الكريم وقراءة لسيرة المعصومين، لن تفيده بشيء ما لم تتفاعل مع المستوى الثقافي الذي يعيشه سائر افراد المجتمع، فكلما زاد التفاعل والتواصل، كلما انتشرت رقعة الثقافة الاسلامية في المجتمع، واكتسبت القيم والمفاهيم مصداقية اكبر، كما يدعو الى ذلك الامام الشيرازي، بأن "الرجل المتدين، ومعه عالم الدين، كلما زاد تفاعله مع المجتمع، كلما اقترب المجتمع اكثر من الدين"، وبالنتجية؛ فان العكس يكون بالعكس، كما نلاحظ الواقع السيئ والخطير في مجتمعاتنا الاسلامية، وهذا بدوره يسفر عن نتيجة أكثر خطورة وهي؛ محاصرة الشريحة المتدينة في زاوية صغيرة لا تقوى على الاعتراض حتى وإن كان المنكر صارخاً.
اضف تعليق