اختبأت القوانين الفاسدة خلف السياسات الديكتاتورية والقمعية التي انتهجتها الانظمة السياسية الذيلية في بلادنا الاسلامية طيلة حقبة ما بعد الاستعمار، وما يطيب للبعض تسميتها بحقبة "الاستقلال"، حتى صار التصور في الاذهان، ان مشكلة هذه الانظمة إنما هي سياسية بامتياز، والحل؛ إما بالاطاحة بها وصناعة بديل جديد، أو اذا أمكن التعايش السياسي تحت عباءة الديمقراطية، فان الاحزاب السياسية المعارضة تأخذ حصتها في الحكم على أمل تحقيق الامن والرخاء لجماهير الشعب!
التجارب أثبتت أن معظم المشكلات والازمات لم يكن بالضرورة منشأها من نمط الحكم او شخصية الحاكم، بقدر ما يعود الى القوانين التي تنظم الحياة العامة وسياسة الدولة، فاذا كانت هذه القوانين سليمة وقائمة على أسس متينة من القيم والمبادئ، فمن المفترض ان ينعكس ذلك ايجاباً على مجمل الاوضاع في الدولة والمجتمع، بغض النظر عن مسألة التطبيق لانها تخضع لمواصفات وظروف تجعل من تطبيق القانون بشكل صحيح مسألة نسبية.
وفي هذا المقطع الصوتي يسلط سماحة الامام الشيرازي الضوء على أخطر ما قام به حكام البلاد الاسلامية طيلة العقود الماضية، وهو التلاعب بالقوانين وفرض ما لا يليق بالشعوب والبلاد الاسلامية التي عاشت قروناً من الزمن في ظل القانون الاسلامي الذي لم يسجل عليه أحد أي مثلبة او أية ثغرة تلحق الضرر بالانسان والمجتمع كما حصل في حقبة الاستعمار وما بعده.
وسماحته في هذه الاضاءة لا يقيد الفكرة في إطار الظرف الزمني، إنما يؤشر الى حالة تطبّع عليها الحكام في بلادنا بعد رحيل الاستعمار ظاهرياً، وهي وضع القوانين بالنيابة عن العواصم الكبرى ذات المصالح المتشعبة في بلادنا.
فما الذي قام هؤلاء الحكام؟
يجيب الامام الشيرازي:
"عندما جاء الحكام العملاء الى البلاد الاسلامية، قاموا بثلاثة اعمال تتعلق بالقوانين:
الاول: جاؤوا بقوانين المستعمرين؛ الشرقيين والغربيين، مثل إباحة الزنا والخمور والسفور والى آخر القائمة، وهي القوانين السائدة في بلاد الشرق والغرب، وما تزال.
الثاني: جاؤوا بقوانين استعمارية جديدة اضافة الى قوانين المتسعمرين، بمعنى انهم صاروا منفذين لتلك القوانين، مثال ذلك؛ أن الولايات المتحدة الاميركية تشكلت من 50ولاية ونفوسها اكثر من مائتين مليون نسمة، ثم تمهد ليها الطريق لأن تسيطر على بلاد اسلامية مقسمة الى دول عدّة، فقوانين الحدود والتقسيمات الجغرافية بين البلاد الاسلامية لم يكن معمولاً في الغرب ولا الشرق، وانما طبقه الحكام العملاء لتسهيل سيطرة الاستعمار على بلادنا.
الثالث: تدوين قوانين تتسم بالجهل، فالمعروف عن زعماء البلاد الاسلامية أنهم لم يكونوا من من اصحاب الشهادات الاكاديمية، ولم يكونوا من العقلاء، او العلماء، بل كانوا في غاية الجهل والحمق والعمالة، هؤلاء اضافوا من عندهم قوانين تتسم بالجهل، الى جانب القوانين الاستعمارية.
مثال ذلك من العراق في عهد عبد الكريم قاسم الذي سن قانون الاحوال الشخصية ومنه حظر تسجيل الزواج الرسمي للبنت دون 18 سنة، وان العقد قبل ذلك باطل، الحاكم آنذاك راجعني ونقل لي هذه الواقعة، أن أباً راجعني مع ابنته وزوجها، وهي دون الثامنة عشر من العمر، وقد انجبت من زوجها ثلاث اطفال، وقد تم الزواج قبل خمس سنوات برضا الاب والبنت، ولا مشكلة في حياتهم. والقضية تتعلق بشكوى من الأب على الزوج (صهره) لخلاف وقع بينهما حديثاً، فيريد الاب رفع دعوى ضد الزوج بان زواجه باطل لانه تزوج خارج المحكمة من بنت دون السن القانوني، أي ثلاثة عشر سنة، رغم عدم موافقة البنت على التفريق، وايضاً عدم موافقة الزوج لانهما يعيشان حياة طبيعية.
الحاكم يروي لي موقفه، بأني صرت في حيرة من أمري، هل أدوس على ضميري وأحكم بابطال عقد النكاح واتسبب في تشريد الاطفال الى الشوارع وأحرم المرأة من حياتها السعيدة؟ أم ارد دعوة الاب واحكم بصحة الزواج وأخالف القانون واعرض نفسي للتهديد بالطرد من الوظيفة؟ لاني خالفت قانون الزعيم عبد الكريم قاسم.
وهنالك أمثلة عدة في هذا المجال من بلادنا طيلة العقود الماضية".
مهمة مستحيلة أم تهرّب من الاستحقاق الديمقراطي
عندما كان يطالب الامام الشيرازي بالتخلّي عن القوانين الجائرة والفاسدة، من أبسط موظف في الدولة الى اكبر "مسؤول" في قمة هرم السلطة، مثل عبد الكريم قاسم، ومن دونه من الوزراء والمدراء خلال فترة حكمه والحكم الذي جاء بعده، كان الجميع يرد على السيد المرجع آنذاك باستحالة التخلّي عن هذه القوانين او صعوبة الامر مهما كانت الحجة دامغة على فسادها وتأثيرها السلبي على حياة الناس، بل و احياناً كانوا يدافعون عنها، وأي مبرر يطرحونه على ذلك كان مردوداً من قبل الامام الشيرازي في تلك الحوارات التاريخية والمثيرة، حيث كان يعرف حقيقة مواقفهم، وسبب عجزهم الذاتي عن هذه المهمة.
أما اليوم، وقد رحل الإمام الشيرازي الى الرفيق الأعلى، وظهرت انظمة حكم طالما تمنى ان يراها في حياته، ينتخب فيها الناس نوابهم بانفسهم وتتشكل السلطة التنفيذية وفق النموذج الديمقراطي، وبأرقى أنظمة الحكم الديمقراطي، ألا وهو؛ النظام البرلماني، ومن هذه الانظمة ما تم تشكيله في العراق على أنقاض نظام حكم صدام، فالساسة فعلوا كل شيء ليوحوا للناس بانهم يعيشون في ظل نظام حكم مختلف تماماً عما كان خلال قرن من الزمان، حيث لا تمييز طائفي ولا حكم فردي وديكتاتورية حزبية ولا مصادر للحريات العامة ولا مطاردة وقمع للمعارضة، ولكن؛ الغريب أن هؤلاء الساسة الجدد نسوا أو تناسوا أن الناس بحاجة الى قوانين جديدة تواكب المرحلة الديمقراطية، حيث يفترض ان تأخذ الحرية والعدالة والمساواة والبناء والعمل مكانها المناسب في الحياة من خلال قوانين تنظم هذه الامور، فكانت المفاجأة استمرار العمل بالقوانين التي أصدرها ما كان يسمى بـ "مجلس قيادة الثورة" والتي فصلت على مقاسات النظام البائد وشخص صدام.
المفارقة في الامر، أن نوع نظام الحكم الذي جاء به الساسة الى العراق، وهو النظام البرلماني، يفترض ان يكون اكثر حرصاً على سن القوانين الجديدة المواكبة للحياة الديمقراطية، لاسيما وانهم بحاجة الى مصاديق عملية لما يسمى بالمشاركة السياسية، وتطمين الناس الذين أدلوا باصواتهم وتشكلت الحكومة بفضل هذه الاصوات، بان جميع حقوقهم مكفولة بقوانين جديدة، بل وبامكانهم التطلع الى آفاق التطور والنمو.
هذا المطلب لا يكون بسهولة النطق به، إنما القضية تحتاج الى ما أشار اليه سماحة الامام الراحل بضرورة توفّر العلمية والتخصص في سن القوانين. وحتى لا يقع المشرعون في مطب الفشل والتعارض مع الواقع، لابد من وجود متخصصين في الاقتصاد لسنّ قوانين تتعلق بالنفط والغاز والتجارة الحرة والاستثمار وغيرها، وأن يكون هنالك فقهاء وعلماء دين للإسهام في سنّ قوانين للعقوبات، او قوانين للاحوال الشخصية، وهكذا الامثلة عديدة.
ان التجارب الكثير في بلادنا تدلنا الى أن أخطر فيروس يضرب القوانين هو؛ الجهل بمن يستفيد من هذه القوانين، ودعوى الساسة بانهم يعرفون كل شيء، وهو أنما يفكرون ويخططون بدلاً من الشعب ويعرفون ما يجري في خواطرهم وما تكنه صدورهم من حب او بغض! بينما الحقيقة التي يكتشفها الناس بعد حين، أن بعض القوانين انما هي تخدم مصلحة هذا الحزب او تلك الفئة وحتى الشخص في الحكم، وليس المجتمع في حاضره ومستقبله.
اضف تعليق