دأب المفكرون منذ زمنٍ موغلٍ في القِدَم، على تقديم صور مبتكرة لعالم بشري مسالم، يجمع بين تناقضات الامم، ويجعل من الجميع على اختلاف ثقافاتهم وأعراقهم، منسجمين، في مساحة خضراء واحدة، تقبل الجميع ويستأنس بها الجميع، ترافقهم بحبوحة من الامن والرفاهية، تدفعهم نحو الانتاج والابداع المتواصل، ضمن إطار التنافس وليس الصراع، ولكن بقي هذا الحلم للأسف حبرا على ورق، لسبب واضح يؤكد أن القرارات السياسية التي تتحكم بالعالم، تصدر عن عقول ونفوس ليس مؤهلة لصناعة السلم العالمي.
وقد ركّز الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في مسعاه الفكري المثابر، على هدف السلم الذي يجمع الناس بدلا من أن يتناحروا ويتفرقوا بين مسارات الاحتراب والتصارع، ويتضح ذلك في مسار الامام الفكري والتربوي العام، ويركّز سماحته بنحوٍ أدق، على هذا الهدف الانساني الجوهري، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (الفقه: السلم والسلام)، إذ يرى سماحته أن صناعة السلم العالمي لا يمكن حصره في إرادة واحدة، ولا يمكن للقوى الكبرى وحدها ان تكون المتحكم بالقرارات العالمي، فحتى الافراد يمكن أن يكون لهم دورهم المؤثر بالتراكم، لخلق فرص السلام والوئام في ربوع العالم.
على عكس الارادة المتجبرة، ممثلة بساسة الاستحواذ، واللهاث وراء المكاسب، (شركات ودول وشخصيات تجارية سياسية)، فهؤلاء لا يدخل ضمن اهتمامهم صنع عالم مسالم، لأن الأهم لديهم كيف يربحون، وما هي الوسائل التي تقودهم نحو هذا الهدف دائما، وطالما ان السلطة والاستحواذ طريقهم الى ذلك، فإن تصادم المصالح والارادات سوف يشغلهم عن السلام، ويأخذهم بعيدا نحو الاستحواذ على كل شيء، بمختلف الوسائل، بغض النظر عمّا يتعرض له العالم من حروب واقتتال وويلات!.
يقول الامام الشيرازي الراحل حول هذا الموضوع في كتابه (الفقه: السلم والسلام): (في هذا العصر المتقدم تضاعفت أسباب التناحر، وصارت الحياة ضيقة إلى أبعد الحدود، والكل يريد الخير لنفسه ويسعى لإبعاد الشر عنها، فتصادمت المصالح بسبب إرادة الاستحواذ). لذلك صارت المعمورة حلبة للحروب والازمات والصراعات، بسبب تقاعس المجتمع الدولي عموما عن مسؤولياته في هذا الاطار، وانشغال القوى المؤثرة فيه بمصالحها، واستئثارها وسعيها نحو مآربها السياسية والاقتصادية، من دون أن تتنبّه للنتائج المدمّرة التي تنعكس عنها.
وهكذا يشير الامام الشيرازي الى هذه النتائج قائلا: لقد (بدأت تنشأ الحروب في هذا الإطار، واندلعت الثورات والإضرابات والمظاهرات ومظاهر العنف كافة، كما هو مذكور في علم الاجتماع. من هنا تتضح الحاجة إلى تطبيق قانون السلم والسلام ومعرفة مقوماته في مختلف مجالات الحياة).
الحاجة القصوى للسلام
ونتيجة لما تقدَّم، أدرك الجميع الحاجة الى السلام العالمي، بما في ذلك القوى التي تقف وراء الفتن والحروب والاستحواذ المتواصل على ثروات ومقدرات الأمم الأضعف، وقد شرعت وسائل الاعلام بالتركيز على فكرة السلم، بعد أن باتت مآسي الفتن والحروب ومظاهر الارهاب تفتك بالعالم، ولم يسلم منها حتى الدول التي كانت تظن أنها بعيدة عن الخطر!، وكانت تتصور أن الدول والشعوب الفقيرة ستبقى وحدها حطبا و وقودا للعنف وضعف السلام، في نبَّه الامام الشيرازي الى أن الجميع سوف يتعرضون للمخاطر، وليس هناك من عاصم لأحد من الفتن والارهاب، اذا لم يتعاون الجميع ويؤدّون مسؤولياتهم نحو السلم والسلام، وهكذا اصبح تحقيق هدف السلم العالمي، بمثابة الشغل الشاغل للناس.
كما أشار الامام الشيرازي الى ذلك في كتابه المذكور نفسه، عندما قال: (في هذا العصر بالذات خصوصاً في النصف الأخير من هذا القرن، التفت الإنسان إلى ضرورة البحث عن السلم والسلام، وصار الشغل الشاغل للناس في وسائلهم الإعلامية وغيرها، ومدارسهم الخاصة ومدارسهم الدولية).
ولا شك في أن البيئة الآمنة، والحاضنة التي تنطوي على عناصر السلام، هي الشرط الاساس الذي يمكن أن ينمو فيه رأس المال، ويتحقق عنصر الاستقرار، ويكون بمقدور الانسانية أن تصنع عالمها السلمي الذي تحلم به منذ آلاف السنين، وقد وعى الجميع، لاسيما الغرب، أهمية الأفكار والمبادئ التي تحثّ الجميع على الالتزام بمنهج السلم، كونه الطريق الأنسب والاكثر أمنا وكفاءة لتشكيل ملامح عالم متوازن، أما اشتعال حالات الصراع والاحتراب والاقتتال، حتى لو كانت تحدث بالنيابة، كما نلاحظ اليوم في عدد من الدول المضطربة، ولكن بالنتيجة، لا يمكن أن يكون هذا الوضع، هو الضامن الأقوى لمصالح الغرب وشركاته ورؤوس أمواله، بل أدرك هؤلاء وغيرهم أن السلم هو السبيل الأنجع، لتحقيق أهدافهم، لا سيما الاقتصادية منها.
لهذا السبب أظهر الغربيون (حاجة شكلية للسلام)، وأظهر الشرقيون على حد سواء، اهتماما غير مسبوق بهذا الجانب، كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (لقد صار الجميع يتكلمون في الشرق والغرب عن السلم والسلام، ويبحثون عنه في المؤتمرات الدولية وفي المؤتمرات القطرية، وينشدونه في كل محفل من المحافل).
وعلى الرغم من أن الدافع الذي يقف وراء هذا الاهتمام، ليس انسانية ساسة الغرب، وإنما مصالحهم وأرباحهم، لذلك كانت دعواتهم للسلم (شكلية)، ولكن تبقى صناعة عالم مسالم، هدفا للجميع، لهذا ينبغي أن يكون عنصر التوازن بين الاغنياء والفقراء قائما، حتى يتحقق السلام العالمي الفعلي، إذ لا يمكن أن يصل العالم الى هذا الهدف الكبير، عندما تغيب حالة التوازن، وتزداد الفجوة الاقتصادية الفاصلة بين الاغنياء والفقراء إتّساعاً.
طريق السلم الشائك
يُظهر بعض ساسة الغرب، حاجتهم للسلم، ولكن هناك الكثير منهم، يصبّون الزيت على النار، ويزيدون الفتن والاضطرابات في العالم، لاسيما في الدول (الغنية بالطاقة)، وبما يحتاجونه من مواد أولية، وهذا يؤكد بقاء سياسية الاستعمار، ولكن بأساليب ليست مباشرة، كما كانوا في السابق، عندما يحتلون الدول الضعيفة، وينهبون خيراتها (أفريقيا وآسيا مثالا)، لذلك بسبب هذه السياسات، وضعف الشعور بالمسؤولية ازاء السلم العالمي، يبقى هذا الهدف بعيد المنال، على الرغم من أهميته الكبيرة للانسانية جمعاء.
حول هذا الجانب، يذكر الامام الشيرازي في كتابه (الفقه: السلم والسلام) قائلا: (كيف يمكن الوصول إلى السلام، لاسيما أن الوصول إليه بات صعبا، وذلك بسبب سلوك بعض الانتهازيين والمنحرفين ودول الاستعمار التي تعرقل عملية السلم والسلام وتجعل تحقيقه صعبا، وإن أخذوا يتظاهرون بالنداء به).
ولكن في كل الاحوال يبقى هذا الهدف الكبير قائما، وتبقى الانسانية تتطلع الى إنهاء الازمات والاضطرابات وحالات الفوضى، وترغب العيش في حالة من الانسجام، لا تلغي الاختلافات، ولكنها تعتمد السلم والاحتواء طريقا في حل مشكلاتها، وهذا يستدعي من الانسان الفرد والجماعة، تدعيم حالات السلم، ليس لمصلحة الذات او النفس وحدها، وإنما المسؤولية هنا تعبر حاجز الفرد والجماعة، الى الكل، لاسيما الانسان المسلم، فهو مطالب بانتهاج السلم والمساعدة على تحقيقه، وفقا لمبادئ الاسلام وتعاليمه، وانسجاما مع سيرة النبي صلى الله عليه وآله، والأئمة الاطهار عليهم السلام، الذين اعتمدوا السلم منهجا أساسيا في حياتهم.
لذلك نقرأ في كتاب الامام الشيرازي قوله: (إن الإنسان ليس مأموراً بحفظ نفسه وسلمها وسلامها فقط، بل مأمور بحفظ غيره وسلمه وسلامه أيضاً، فلو سمع مسلم من ينادي: يا للمسلمين، فلم يجبه فليس بمسلم، كما قال رسول اللـه صلى الله عليه وآله: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين، فلم يجبه فليس بمسلم.).
اضف تعليق