نشأ الإمام الحسين (ع) وترعرع في بيت النبوة، وكان جده الرسول الأكرم (ص) حريصا على أن ينمّي في شخصيته مواقف البطولة والاصطفاف الى جانب الحق بغض النظر عن التكاليف أو النتائج التي تتمخض عن مواجهة الباطل، وقد أصر رعاة الشر وعلى رأسهم الحكام الطواغيت الذين لا يرتضون بالعدالة والمساواة والإنصاف منهجا، على السير في طريق الانحراف، لأنهم إذا التزموا بمبادئ الإسلام الحق، فإنهم سيفقدون امتيازاتهم التي غالبا ما تتأسس وتنمو على حساب مصالح الفقراء وعامة الناس.
فكل مصلحة ومنفعة مادية أو حتى معنوية يحصل عليها الطغاة ستأتي حتما على حساب مصلحة عامة الناس، لهذا لم يكن يزيد يعبأ بالعدالة ولا الإنصاف، ولا تهمه مبادئ الإسلام أصلا، لذلك كان همه قطف ملذات الدنيا وجعلها عنوانا لسنوات حكمه التي غصّت بالظلم كركيزة لتثبيت سلطته، لهذا مثلت صرخة الإمام الحسين عليه السلام جذوة الكفاح الإنساني خير تمثيل، مستبسلا في نشر الأفكار العظيمة التي لا تهادن الحاكم الظالم، ولا تسمح له بالتلاعب بمقدرات الأمة، فكانت ملحمة الحسين (ع) امتدادا أصيلا للرسالة النبوية العظيمة.
أكد ذلك الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في هذا القول الوارد بكتابه القيم الموسوم بـ (رسالة عاشوراء) حيث قال: (إن لعاشوراء رسالة عظيمة تعتبر الامتداد الحقيقي لرسالة جد – الحسين- الصادق الأمين - ص-)، بمعنى أن الرسول (ص)، نقل الإنسان من ظلام الجهل وأبعده عن أبواب السوء ليسمو بروحه وفكره بما يتفق ويتساوى مع قيمته العليا كإنسان، وهكذا هو الفكر الحسيني المستمد من الرسالة المحمدية، فهو فكر يقوم على نبذ الاضطهاد والظلم والانتهاك من أي نوع كان.
علما أن المبادئ الحسينية، تخرجت من مدرسة الرسول (ص)، فتميزت بفلسفة إنسانية عميقة كان يهدف الإمام الحسين الى نشرها بين المسلمين عندما انحرف النظام الأموي وسلك مسالك الشر، فهي فلسفة تهدف الى سعادة الإنسان بالدرجة الأولى من خلال التزام القواعد والضوابط المستمدة من تعاليم القرآن الكريم، ومن سيرة نبينا الأكرم وأهل بيته عليهم السلام، لذلك فإن الجميع مطالبون بالإطلاع على المضامين القرآنية المباركة وثقافة عاشوراء التي استقاها الإمام الحسين من جده محمد (ص).
خطر الارتداد الى الجاهلية
من هنا يصف الإمام الشيرازي فلسفة الفكر الحسيني بأنها (إحياء الإسلام، وإرجاع القرآن إلى الحياة، وهذا هو ما كان يستهدفه الإمام الحسين –ع- من نهضته وشهادته، وذلك لأن الإسلام الذين أنزله الله تعالى في كتابه، ونطق به قرآنه، وبلغ له رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وضحى من أجله أهل البيت عليهم السلام، وخاصة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يوم عاشوراء، هو الدين الكامل والقانون الشامل).
إن أخطر ما تعرضت له رحلة الإسلام في ظل حكم يزيد الأموي، هو إصرار يزيد المنحرف على نسف كل المنجزات العظيمة التي حققتها الرسالة المحمدية للمسلمين وللناس في العالم أجمع، بوساطة سلوكه الطائش وارتكابه الفواحش التي قد لا يجرؤ أصعب المجرمين باقترافها، وقد تعرض الإسلام الى خطر جدي وماحق يستدعي الوقوف الفوري والنهوض الثوري، وهذا ما فعله الإمام الحسين بالضبط، فقد تحرك سيد الشهداء (ع) استنادا الى الوقائع الملموسة التي عكسها حكم يزيد على أوضاع المسلمين آنذاك، واستنادا الى واقع المسلمين الذي تكلل بالخمول والقبول على مضض بخروج الحاكم على تعاليم الإسلام والارتداد الى الجاهلية.
من هنا نهض الإمام الحسين في الوقت المناسب تماما، وبدأت جحافل الحق بالتحرك الجاد لإعادة الأمور الى نصابها السليم، والسعي لسحب البساط من تحت أقدام الطاغية الذي تحوّل من دوره كراعٍ للأمة الى رجل شاذ فاسق دنيء دنيوي، لا يعرف من أمور الدين والحياة سوى الملذات، وتفضيل الذات على الجميع، ومن يطلع على سيرة يزيد سيعرف حجم الاستهتار الذي رافق وجوده على دفة الحكم.
وهكذا أعلن أبو الأحرار (ع) كما ذكر الإمام الشيرازي في كتابه (قبس من شعاع الإمام الحسين –ع-) عن مشروعه الثوري ضد الحاكم الأموي المنحرف، لكي (ينتشل الأمة من الحضيض الذي أُسقطت فيه إلى العز، وذلك عندما رضيت الأمة الإسلامية بواقعها المتردي، المتمثل بالخمول، والركون إلى الدنيا، والسكوت على الظلم، وتسلط الظالمين من أمثال يزيد وأبيه وأمثالهم، فأراد الإمام الحسين –ع- أن يبث روح الإيمان والحق فيها لتنهض من جديد، كما كانت في عهد رسول الله –ص-).
بناء المسلمين وفق قيم المؤاخاة
إن التعاون والتكافل والتقارب بين المسلمين، هو السبيل الأقرب لإحداث نتائج مهمة على صعيد تحسين الحياة وحماية الحقوق، وقد حرص الإمام الحسين على نشر هذه المبادئ بين أفراد الأمة ومكوناتها، كونها الطريق الأجدر لمواجهة يزيد وزبانيته، وقد ركز الإمام الثائر على تعميق العلاقات الإنسانية بين المسلمين، واستمر التآزر والتعاون الأخوي في التصاعد والانتشار بعد خروج الإمام الحسين (ع) وذويه وأصحابه الأكرمين من الحجاز، فهي ليست دعوة تهدف الى استرجاع سلطة سابقة، ولا هي دعوة للاستئثار بمنصب او جاه وما الى ذلك، وإنما كان تركيز الإمام الحسين (ع) تحسين العلاقات بين المسلمين وزيادة أواصر المؤاخاة فيما بينهم هو الهدف الأول كونه يعود على الأمة بنتائج كبيرة.
وقد ركّز الإمام الشيرازي على هذا المنهج قائلا: (من النقاط الهامة التي يجب أن نتذكرها دائماً عند الحديث عن الفاجعة الكربلائية إنها قضية التآخي في الله والاعتصام في كل حدث وفي كل موقف من مواقف الحياة).
لهذا ركز الإمام عليه السلام على أولوية نشر القيم الكبيرة بين المسلمين، لاسيما أن الفكر الذي يجب ترويجه بين المسلمين، يحتاج الى وسائل متعددة لكي تصل به الى الآخرين، وهذا ما ينبغي أن يتوافر لنشر الفكر الحسيني الى أبعد نقطة في العالم، كونه فكر يناسب المنهج الإنساني في أي زمان وكل مكان، علما أن المجالس الحسينية تعد من وسائل نشر هذا الفكر العظيم بالإضافة الى الوسائل الأخرى المعاصرة، ويحتاج هذا الأمر الى برمجة وتخطيط وسعي علمي متواصل لتحقيق هذا الهدف.
وقد أشار الإمام الشيرازي الى أهمية ذلك بقوله: علينا أن (نرفع من كَمِّ - المنابر الحسينية- وكيفها باستمرار ودوام، وذلك بأن نقيم المجالس إقامة حسنة، وأن نراعي فيها الكيفية المطلوبة لدى الناس، وخاصة ما يفيد الشباب والناشئة، وأن ندعو الخطباء البارعين والمبلغين الحسينيين المبرزين لإدارة المنبر والخطابة في الناس).
وعندما يلتقي الفكر مع القيم والمبادئ والتآخي بين المسلمين، فإن نصف المسافة الى الهدف تكون قد أنجزت، لهذا ركّزت رؤية الإمام الحسين على صنع مجتمع متعاون مرصوص الصفوف قوي متكافل، وقد بدا واضحا أن هذه الرؤية الحسينية، ساعدت على تمسك الثوار الذين رافقوا الحسين (ع) بنصرة الإمام حتى نيل الشهادة، على الرغم من أن الإمام سمح لهم ودعاهم الى مغادرة أرض المعركة واتخاذ (الليل جملا)، لكن التربية السليمة على القيم الإنسانية العظيمة جعلتهم يناصرون الإمام الحسين حتى الشهادة.
اضف تعليق