"اذا اردنا ان يكون فهمنا للسياسة صحيحاً، علينا بخطوات منها؛ تعدد مراكز القوى في الدولة، لتكون ضمانة للحرية والنمو والتقدم.
ذكر أحد القادمين من لبنان، انه عاش فترة الحرب الأهلية في سبعينات القرن الماضي، واشار الى ضراوة الحرب وما تعرضت له المناطق السكنية من قصف مستمر بالقذائف، ولكن؛ مع ذلك، تتمتع لبنان بقدر كبير من الحرية، في المجالات كافة؛ من الزراعة والصناعة والسفر والعمل والنشر وغير ذلك كثير، والسبب في ذلك أن القوة موزعة على المكونات السياسية في هذه الدولة، ولا يتمكن أي مكوّن من فرض ارادته على سائر ابناء الشعب.
فحتى نصل الى هذا المستوى من الوعي السياسي علينا أن لا نسمح بأي شكل من اشكال تمركز القوة مطلقاً.
سيأتي ذلك اليوم الذي يسقط فيه صدام من قمة السلطة وينهار نظامه الى الأبد، ولكن؛ ماذا عن مرحلة ما بعد صدام؟!
ربما يعرفون لكم شخص يتحلّى بصفات التقوى والورع والزهد وقيام الليل وصيام النهار، وانه من المتدينين، فأقول لك ذلك حسن، ولكن! هل يريد ان يحكم لوحده؟ فاذا جاء الجواب بـ "نعم"، نقول: هذا الشخص غير مناسب ولا يجب ان يتسنّم السلطة مهما كانت صفاته الاخلاقية والروحية.
كتبت كتاباً في الكويت، بعنوان: "الترمومتر السياسي"، دعوت الى ان يكون الحكم والقوة بيد جماعتين لا جماعة واحدة في العراق، وهذا هو سر نجاح وتقدم الغربيين في ادارة بلادهم وتماسك انظمتهم السياسية، فهناك قوة توازيها قوة أخرى، فتكون هنالك تعددية في مراكز القوة بشكلٍ متساوٍ يمكّن كل طرف من مراقبة الآخر في زلل أو خلل، وبالنتيجة، يكون لن تسقط الدولة والشعب في أخطاء كارثية كالتي تقع فيها البلاد التي يحكمها الديكتاتور".
صدقنا كون الديمقراطية علاجاً للديكتاتورية
عندما كانت حركات التحرر في العالم بشكل عام، وفي العالم الاسلامي بشكل خاص، تعمل جاهدة لمقارعة الانظمة الديكتاتورية تحت شعار الحرية، كان الجميع يعتقد أن الديمقراطية، كنظرية ونظام سياسي للحكم، هو العلاج السحري والوحيد الذي يخلصهم من داء الديكتاتورية والاستبداد، وبدلاً من وجود الزعيم الأوحد او الحزب الواحد في قمة السلطة، تكون هنالك أحزاب تتداول السلطة بشكل سلمي وسلسل داخل قبة البرلمان وفي ضوء ما تتمخض عنه صناديق الاقتراع، وينتهي كل شيء.
وهذا ما جرى في العراق، كأول دولة عربية تجرّب الديمقراطية بشكل لم تعهده الدول العربية والشرق الاوسط منذ عقود من الزمن، فقد هلل الجميع لنمط جديد يسود العراق عنوانه: "نظام برلماني – تعددي"، بيد أن هذه الديمقراطية أولدت ديكتاتوريات جديدة بسبب فيروس المحاصصة السياسية التي أفسدت هذه التجربة الفتية، ثم تمخض من هذه المحاصصة ظاهرة نخرت في كيان المجتمع العراقي وما تزال تلحق به ضرراً بالغاً تمثل في استسهال الفوضى والتجاوز على القانون وعلى القيم والمبادئ.
وكما عودنا سماحة الامام الشيرازي – طاب ثراه- في طروحاته و افكاره السابقة على عهده، وكما عودنا دعاة السياسة بتجاهل التجارب والعبر، فلا يجب ان نستغرب كثيراً استشراف سماحته لما سيجري بعد زوال حكم صدام، وحديثه ربما يعود الى بداية ثمانينات القرن الماضي، عندما حذر من تمركز القوى والقدرات بيد شخص او جماعة معينة في العراق مهما أوتيت من الرداء الاسلامي والشعارات الكبيرة، بل حتى وإن جاء هؤلاء الساسة الجُدد بسلعة الديمقراطية الى العراق وبشروا الناس بإشراكهم في صنع القرار من خلال نواب منتخبون.
إن الديمقراطية في المحكّ العراقي لم تقدم للعراقيين تعدد سياسي حقيقي بعيد عن احتكار السلطة ومصادر القوة، فبدلاً من شخص صدام وحزب البعث اللذان كانا يستحوذان على كل شيء، فان التجربة الحالية تشهد وجود اشخاص و احزاب لا تتوزع عليهم مصادر القوة، وإنما يتقاسمونها شأنهم في ذلك شأن الكثير من البلاد الاخرى –العالم ثالثية- التي رضت لنفسها أن تكون كعكة بين يدي احزاب و رموز سياسية او حتى قبلية او طائفية.
ويشير سماحة الامام الراحل الى نجاح التجربة الديمقراطية في الغرب من خلال مبدأ توزيع مصادر القوة في الدولة، وهذا التوزيع ليس بالضرورة ان يكون في ميدان السياسة وعلى صعيد الوزارات والمناصب الادارية، وإنما على صعيد دوائر الضغط ومنظمات المجتمع المدني التي تحظى هناك بقدرات كبيرة تترك أثرها في كثير من الاحيان على صناعة القرار، فالساسة هناك يخشون الفضيحة والانتقاد اللاذع من الاعلام والنقابات والاتحادات والمراكز الاكاديمية والبحثية وغيرها، فضلاً عن اصحاب الرساميل والصناعيين والمهنيين، مما يعني أن أدوات القوة ربما تضاهي في كثير من الاحيان قوة السلاح والمخابرات والسلطة السياسية، ومتى ما تحقق لشعب توزيع لقدرات وقوى بهذا الشكل، ولو بدرجات أقل، في وزن بلادنا الاسلامية، فانه بالامكان الاطمئنان على ابتعاد الديكتاتورية السياسية والاقتصادية وحتى الفكرية، ففي بلادنا مصادر قوة اخرى لا توجد في مكان آخر بالعالم، متمثلة بالمؤسسة الدينية وما تضم من خطباء وعلماء وباحثين من شأنهم نشر الوعي والثقافة التي تقوّم الأداء السياسي للحاكمين.
اضف تعليق