يعمد بعض القادة الفاسدين الى إشغال المواطن بأمور جانبية في تفاصيل الحياة اليومية، كي يبعده عن التفكير بحقوقه وسبل حماية الحريات المدنية، فيقوم الحاكم وحكومته بإشغال الناس بالكفاح ضد الفقر كي يحصلوا على ما يسد الرمق بشقّ الأنفس، عند ذاك لا يكون لديهم القدرة على التنظيم أو التعاون أو التفكير بمقارعة السلطة، لكن الأمم الحية لا تتوقف عند إدامة العيش التدني بل تطمح الى ما هو أرقى دائما.
يتم ذلك من خلال التعاون فيما بين الأفراد والجماعات مع تنظيم العمل والجهود، فالأمم الناجحة ما كان لها أن تحقق أهدافها، والوصول الى حياة راقية، لو لا أنها سعت لتنظيم طاقاتها، لكي تصبّ بالاتجاه الذي يساعدها، على البناء، والاستقرار، والتطور الدائم، فتنظيم الطاقات، والتخلص من هيمنة الارتجال في العمل، شرط أساس لتطوير المجتمع، والسبب واضح تماما، حيث لا تضيع الجهود الفردية، ولا الجماعية هباءً، بل تتحد جميع الفعاليات، وتنسجم، وتتناسق، لكي تصبح في خدمة الفرد والكل معا، لكن بتحالف قوي بين عنصري التنظيم والتعاون بين أفراد الأمة.
لذا على العراقيين بنحو خاص أن يعوا جيدا جانب التنظيم في حياتهم وأن لا يغفلوا شرط التعاون، وطالما أن المنطقة (الشرق أوسطية) دخلت مرحلة القضاء على الأنظمة القمعية، التي لا تزال تتساقط واحدا تلو الآخر، فإننا بحاجة الى التغيير والى تنظيم قدراتنا، وطاقاتنا، ووضعها في الاتجاه الذي يساعد على بناء أنماط الحياة المتطورة، في جميع المجالات، ولو لا التنظيم، والسعي الى التقريب بين الجهود المختلفة، والتنسيق بينها، لا يمكن أن نصل الى ما نهدف إليه وخصوصا قضية حماية الحريات والحقوق.
يؤكد الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة)، على: (أن تنظيم عملنا وتنظيم أنفسنا والتنسيق فيما بيننا في مرحلة الإعداد شيء نحتاج إليه كما نحتاج إليه بعد الوصول إلى الهدف).
فتنظيم حياة الفرد والجماعة شرط مهم للمضي قُدُما، لكن لابد أن نستوعب قضية في غاية الأهمية وهي علينا أن نفهم ونؤمن بأن عملية التنظيم، لا تتحقق بصورة تلقائية، بل لابد أن نتحرك وفق خطط مسبقة، كي نتعلم التنظيم ونوظّفه لصالحنا، فالامر لا يمكن أن يتم من دون السعي إليه، ومعرفته، ودراسته، ونشره بين الجميع، لكي يصبح سلوكا متّبعا من قبل الجميع، على أن يبدأ ذلك في البيت (العائلة) ثم في المدرسة فالجامعة، ومحل العمل، حتى في الشارع ينبغي أن يكون الناس منظّمين في حركتهم، ولابد أن نفهم جميعا بأن الالتزام بالتنظيم لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: إن (القدرة التنظيمية داخل الأمة ليس شيئاً يمكن أن يوجد بين عشية وضحاها، إن القضية تحتاج إلى عمل جاد ومستمر بيننا جميعاً).
التعاون النخبوي الشعبي المشترك
لذلك ينبغي أن يكون هنالك تعاون بين الجميع من أجل ترسيخ التعاون كسلوك فردي وجمعي يقوم به الإنسان في بيته ومحل عمله، أي أن التنظيم والتعاون ينبغي أن يصبحا سلوكا للفرد والمجتمع، حتى تكون هنالك إمكانية للضغط على السلطة كي تستجيب لمطالب الناس، خصوصا ما يتعلق بالفساد والتجاوز على حقوق الأمة المالية والمدنية وسواها، إذن لابد أن يكون هناك سعي دؤوب، لتنظيم الجهود الشعبية، والنخبوية كافة، بمشاركة جميع القطاعات (النخبوية والشعبية)، من اجل تحقيق الاهداف المنشودة، ولن يتم هذا الامر، من دون التخطيط، والتعاون المستمر بين الجميع، سواء كانوا من القيادات، أم من عامة الناس، فالجميع معني بالتعاون وترسيخ التنظيم والضغط على الحكومة لمكافحة الفساد بصورة جادة.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على: (أن التعاون بين قطاعات الأمة بمستوى علماء الدين والخطباء والتجار والعمال والمهندسين والأطباء والطلبة الجامعيين والحوزويين والفلاحين والعمال وغيرهم واجب ضروري يجب أن نزرعه في أنفسنا، فإن التعاون بين هذه القطاعات سيؤدي شيئاً فشيئاً إلى نتائج مثمرة بعد مدة من الزمن).
علما أن هنالك مشكلات كبيرة قد تتحول الى حواجز بين مكونات المجتمع، فتجعل من التعاون أو التنظيم أمرا شبه مستحيل، لهذا ينبغي التمهيد لهذا الأمر، فالتعاون لا يمكن أن يتحقق قبل أن يبدأ الجميع بإزالة الحواجز الفاصلة بين أفراد المجتمع، سواء كانوا أفرادا عاديين أو عاملين في السياسة او غيرهم، فحين يبدأ العمل على تحقيق الهدف الاسمى، لابد أن تتوافر له الارضية السليمة، من خلال الانسجام الشعبي، مع القادة، وبين أفراد المجتمع أنفسهم، أي أننا بحاجة الى جهود تعاونية تنظيمية مشتركة تساعد في القضاء على الفساد، ولا بأس أن يشترك في ذلك أصحاب القرار.
ويشير الإمام الشيرازي الى هذه الحواجز ويطالب بقوة وتركيز على رفعها تماما، فيقول سماحته:
(هناك حواجز كثيرة تفصلنا عن بعضنا البعض، وهذه الحواجز تظهر في الغالب عندما نبدأ بالعمل الجدي. لذا فإن هذه الحواجز التي تقف جداراً سميكاً يجب أن ننسفها حاجزاً بعد حاجز حتى تتحد وتتلاحم الأمة ونستطيع بالتالي العمل والتنسيق جميعاً).
القضاء على الأنماط الفاسدة
ومن بين الحواجز المانعة للتعاون بين مكونات المجتمع، أو تنظيم الأنشطة المختلفة له، تلك الأنماط الفاسدة التي تتسلل الى تقاليد المجتمع، لذلك يُقال أن الحكومات التسلطية غير الشرعية تذهب دائما الى إثارة الفوضى بين أفراد المجتمع، لأن الفوضى تشبه المياه العكرة، حيث يسهل على الصياد أن يصطاد ضحيته، وهكذا تعمل الحكومات القمعية، فإنها تثير الفوضى وتمنع التنظيم حتى تتمكن من مواصلة سرقة ثروات الشعب والتجاوز على حقوقه المدنية أو المالية.
لذلك إذا أراد الشعب أن ينتصر يجب عليه القيام برقابة شعبية دائمة لأعمال وصفقات الفساد، وهنا يبرز دور الإعلام المستقل، والنخب من المثقفين ورجال الدين وجميع الشرفاء الحريصين على حقوقهم المدنية، وهناك شرط مهم، لابد من توافره في المجتمع، فحين تنتصر إرادة الشعب، على الحكومة الغاشمة، فلابد أن يشترك الجميع، في رصد الظواهر التي لا تخدم المجتمع، ولابد أن نتخلص، من السلوكيات التي لاتنسجم مع اهداف الشعوب الحية، التي لا تصبر على الظلم، بمعنى وجود منظمات مستقلة واعية من ضمنها منظمات المجتمع المدني التي ينبغي أن تراقب الأداء الحكومي حتى ترصد عمليات الفساد وتفضحها وتفضح القائمين بها
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب:
(إن الأنماط الفاسدة يلزم أن نقلع جذورها من الأساس بيننا كأفراد وكأمة، حتى تكون نفوسنا صافية وخالية كي ننطلق للبناء الذاتي ونخدم الآخرين ونقيّمهم التقييم السليم).
علما أن واجب التنظيم والتعاون والرقابة ومحاربة الفساد عمل جماعي شعبي، فالكل يقع عليه هذا الواجب، ولا ينبغي الركون الى الصمت أو السكون بلا حركة، فالحقوق لا تعود الى أصحابها، إلا عندما يبذلون مساعٍ كافية في هذا الاتجاه، ولابد من نبذ السكوت على التجاوزات ومحاربة الفساد بكل السبل المتاحة.
يؤكد الإمام الشيرازي على ذلك بقوله: (الواجب على المسلم الأعزل ـ إلا من سلاح الإيمان ـ أن يلقن الحكام الظالمين درسا، أما أن لا نحرك ساكناً ولا نبذل جهداً فمعنى ذلك إننا لا نعترف بمواهبنا وقدراتنا وطاقاتنا، ومن ثم لا نستطيع أن نعرف نواقصنا ونكملها).
اضف تعليق