هناك جملة من السمات يتشابه فيها الحكام المستبدون وكأنهم خُلقوا من طينة واحدة، أو أنهم وُلدوا من رحمٍ واحد، حيث تحكمهم الأنانية وتحرك رغباتهم وتسيّرهم كما تشاء هي لا كما يرغبون هم، وهناك صفة تجمع بين الطغاة أيضا، وهي افتقارهم للرشد والحنكة وموازنة الأمور سياسيا، لأن السياسة باتت اليوم تتدخل في معظم تفاصيل حياة الإنسان، حتى الأمور الدقيقة او الخاصة منها، وهذا يحتم على الحاكم أن يكون محنكا سياسيا، لكي يكون قادرا على التعامل بالصيغ الأفضل والأكثر تطورا في بناء الحاضر والمستقبل، وهذا ما تسعى إليه المجتمعات الذكية على مستوى الأفراد وليس الحكام القمعيين، حيث تدرأ الأمة الذكية خطر الاستبداد الذي يشلّ الحياة، باستخدام مبدأ الانتخاب في اختيار الحكم والسلطة والقيادات في جميع مجالات الحياة، وترجيح كفة النظام القائم على الاستشارة وليس التفرد.
من هنا ينبغي أن يتسلح السياسي بما يلزم من الفهم في فنون السياسة وعلومها، إذ ينبغي على النخب السياسية الذكية أن تذهب الى تعضيد الوعي السياسي لدى من يعمل في حقل السياسة بل لجميع المواطنين لكي يفهموا حقوقهم بالضبط، وحتى يفهموا ما هي حقوقهم المدنية وكيف يطالبون بها، ولا يسمح بالتجاوز عليها، وهكذا نلاحظ ان الفرد لدينا لا يعرف سقف حقوقه، فغالبا ما يطالب بأبسط الحقوق ويظن أنها كبيرة جدا، وهذا دليل على غياب او ضعف الفهم السياسي لدى الشعب، وهذا يعد من أكبر الأسباب التي تقف وراء تسلط الحكام المستبدين على الشعوب التي لا تفهم فن السياسة جيدا.
علما أننا لا نأت بشيء جديد عندما نقرن تقدم الأمم والشعوب بمدى الوعي السياسي لهم، فثمة معادلة لا يمكن فصلها عن الواقع، كلما كان الشعب واعيا كانت حقوقه في أمان من حالة التجاوز التي يبديها الحاكم القمعي، لذلك من الأمور الأساسية التي أدركت الشعوب المتقدمة أهميتها، هو تعضيد الوعي السياسي لجميع الأفراد، لسبب واضح، أنه الطريقة الصحيحة لتحجيم الاستبداد، وتقليم مخالب كل أنواع القمع، وحماية الحريات، واحترام الرأي، وإطلاق حرية الإعلام والفكر، ووضع حد لخطر الرقابة والمضايقات الحكومية التي تستهدف حرية الإعلام والرأي الآخر والفكر الحر، ولكن تنمية الوعي السياسي تحتاج الى جهد منظم ومخطط له مسبقا، لكي يصل الحاكم الى حالة العجز التام حيال الأمة الواعية.
كراهية الناس للسلطة الغاشمة
ومثلما يضر نقصان الوعي بالأمة، فإن الحاكم يبذل المزيد دائما من إخضاع الشعب له، ويوجد لديه معاونون ومستشارون هم من ضمن حاشيته المستفيدة من نظامه وحكومته، حيث يتم التركيز على جهل الأمة، فهناك جهل من نوع آخر، حيث يحاول الحاكم بمساعدة معاونيه أن يجيّر ضعف الوعي السياسي للأمة لصالحه، ونعني به غياب النظام الاستشاري، وجهل السياسيين لفوائد هذا النظام يقودهم الى الهروب من الاستشارة، مع أنها تساعدهم على إدارة الشؤون السياسية بصورة أفضل وأكثر سهولة فضلا عن أنها تعطي ثمارا جيدة وأكيدة، لكن بسبب جهل القادة السياسيين لفوائد النظام الاستشاري، ورغبتهم الشاذة في الاستحواذ والبحث عن الجاه والنفوذ، تجعلهم يبتعدون عن الاستشارة أو السعي لبناء النظام الاستشاري، فيصبح الحاكم عدوا لشعبه بسبب استئثاره بالسلطة وتفضيله لها.
لذا يؤكد الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (كل فرد حركة .. فلسفة التأخر)، على: (إنّ المستبد يجلب الكره لنفسه ويفوّت على عمله مصالح كان يستفيد منها إن استشار الناس، وأي تأخر أكبر من هذا التأخر).
وهكذا يصبح الحاكم عدوا لشعبه وأمته، فهو يفضل السلطة على كل شيء، ويسعى لجلب حاشية من المنتفعين حوله لمساندته في حماية الكرسي، مقابل منحهم امتيازات تجعلهم يغضون الطرف عن أخطاء الحاكم تجاه الأمة، لذلك فإن مثل هؤلاء الحكام غالبا ما يجهلون أنهم بهروبهم من نظام الاستشارة، ومحاربتهم للمبادئ الاستشارية، إنما هم يعملون ضد أنفسهم مع حتمية تدمير المستقبل السياسي لهم بأيديهم، فضلا عن حرمان المجتمع من بناء النظام المتحرر، الذي ينتهج مبادئ الحرية وحماية حقوق المجتمع المدنية والسياسية وسواها، ولعل المفارقة القاسية هنا أن الحاكم المستبد وهو يسعى لحماية عرشه، فإنه يغفل تماما الكراهية الكبيرة التي يكنها الشعب له، بل حتى أقرب الناس إليه يكن له الكراهية في الخفاء لكنه في الظاهر يبدي له التأييد والمؤازرة الكاذبة.
حول هذا الاستنتاج يقول الإمام الشيرازي: (إن المستبد يُسيء إلى نفسه وإلى عمله قبل الإضرار بالآخرين، من حيث يزعم أنه يحسن إليهما، وهي حالة في النفس قبل أن تكون مظهراً خارجياً، لذا فمن اللازم أن يعتاد الإنسان الاستشارية في كل صغيرة وكبيرة حتى تكون ملكة له).
سياسة هضم حقوق الآخرين
باختصار يتحول الحاكم القمعي بالتدريج الى عدو لأمته وشعبه، وهو يتدبر إجراءات حماية السلطة وامتيازاتها، ولا نأتي بجديد عندما نقول من البديهي أن الحاكم الذي لا يفضل النظام الاستشاري، سوف يهدف الى تحقيق مآرب ومنافع فردية او فئوية او حزبية ضيقة الآفاق، لذلك نراه يتهرب من الاستشارة، ويستبد برأيه، ويقصي الآراء والأفكار الأخرى، بسبب سعيه هو ومعاونوه وحكومته الى الاستئثار بالمزايا التي يتيحها المنصب او السلطة، ولذلك هذا النوع من القادة يرى في النظام الاستشاري القادم من صناديق الاقتراع، عدوا له، لأنه لا يسمح له بتحقيق مآربه غير المشروعة على حساب الشعب، أي أن الحاكم الاستشاري يكون مقيدا بشرعية الشعب التي تحكمه من خلال الدستور ودولة المؤسسات.
من هنا جاء في كتاب الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع بالتحديد: (إنّ جملة من حكّام المسلمين اعتادوا الاستبداد والإثرة، وهضم حقوق الآخرين، وسجن الناس، وتسفيرهم وتعذيبهم، والتكلم مع الناس باستعلاء وغرور والفساد والإفساد، كما أن جملة من حكام غير المسلمين أيضاً كذلك).
هكذا يصبح الحكام من ألد الأعداء لشعوبهم، حيث يتم توجيه الحكومات لتحقيق مصلحة الحكام أولا حتى لو تم ذلك على حساب الشعب، ولا يوجد طريق للحكومات سوى الاستبداد، فيبدأ الصراع بين الحكومة والشعب الذي غاليا ما يكون ضحية للحكومة المستبدة، حيث يتعرض المعارضون الى شتى أنواع التعذيب والقتل والتشريد والنفي والإقصاء.
لذلك يرى الإمام الشيرازي: أن (جملة من حكومات بلاد الإسلام تكون سَـبُعاً ضارياً على شعوبها، كما وصف أمير المؤمنين عليه السلام وقال: ولا تكن سبعاً ضارياً).
هكذا يصبح الحاكم عدوا لشعبه، حيث تقوده غرائزه وحبه للسلطة الى ظلم الشعب بمعاونة حكومة ظالمة فيتحول القادة السياسيون الى أعداء للنظام الاستشاري الانتخابي، ويفضلون القمع على تحقيق أهداف الشعب في التحرر والتطور والازدهار، نظرا لضيق الأفق الفكري والإنساني الذي يطغي على معظم قادة الحكومات الإسلامية، فبدلا من اعتماد النظام الاستشاري الذي يخدم الطرفين الحاكم والمحكوم بصورة عادلة ومتساوية، وبدلا من انتهاج هذا الطريق السليم، نلاحظ أن بعض القادة السياسيين في مجتمعاتنا يعتمدون القمع والاستبداد طريقا لبناء سلطتهم وليس دولتهم، فيصبحون بذلك هم وحكوماتهم أعداء شعوبهم.
من هنا يرى الإمام الشيرازي أن: هناك (حكومات هي أعداء شعوبها، فمن كان من الناس صاحب حاجة لا يقضون حاجته، وحكموا على الناس بالضرائب المرهقة أو السجن، أو ما أشبه ذلك).
اضف تعليق