في عشرات المحاضرات والكتب، قدم الإمام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، أفكارا قيّمة لكيفية قيام الأحزاب السياسية بدورها المهم في الإسهام ببناء الدولة والنظام السياسي التعددي وفق نظام الشورى، بما ينسجم ورح العصر ويتناغم مع تطلعات الأمة، علما أن المعنيين يؤكدون أهمية دور الأحزاب السياسية في تشكيل الهيكل الحكومي وطبيعة إدارة وتنظيم شؤون الدولة، وقد يبدو في عالمنا المعاصر أن القول بإلغاء الاحزاب أو تحاشي وجودها في التفعيل السياسي يعني أمرا مستحيلا، فالشورى التي ينبغي أن تسود العلاقات السياسية في المجتمع، تتطلب حضورا فاعلا للأحزاب، ولكن هناك إشارات حدثت مؤخرا حول نظام الانتخاب واعتماده قانون سانت ليغو ونسبة 1.9 التي صوت عليها البرلمان العراقي مؤخرا .
فالشورى تدعو الأحزاب الى القيام بالعمل السياسي الفاعل ولكن وفق شروط الحفاظ على قاعدة المشاركة الأكبر في صناعة القرار، فالشورى وهي تقابل الديمقراطية كمصطلح معاصر، تعني حرية الرأي والتشارك في اتخاذ القرار ونبذ الفردية أو حصر السلطات في شخص واحد تُختصر فيه إرادة الحزب برمته، ليتحول أعضاؤه الى إمّعات لا دور لهم في رسم سياسات الحزب ولا دور لهم في صياغة القرارات الهامة سواء تلك التي تخص الحزب نفسه او تلك التي تتعلق بشؤون عامة الناس في المجتمع، لذا فإن الشورى تأتي كشرط مهم وفاعل في تشكيل الطبيعتين الفكرية والعملية للحزب، وترفض حصر السلطة وتركيزها في شخص القائد، حيث سيتحول مع مرور الوقت الى شخصية متسلطة تقرّب منها معاونين يعملون على تعظيم القائد، وشيئا فشيئا يتحول الى دكتاتور، لذلك ينبغي أن لا يسمح لفرد أو مجموعة بالتحكم بالقاعدة الحزبية الواسعة.
يقول الإمام الشيرازي بكتابه القيّم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام) حول هذا الموضوع:
(عندما تكون آراء القائمين على حزبٍ ما مُتحكمّةً به ومفروضةً عليه، فانّ قدرة التفكير والإرادة الحـرة والبصيرة لدى منتسبي الحزب وجماهيره، تزول وتمحى، وتزول معها قدرتُهم على خلق القيم وتبلورها، وبنتيجة التوزيع غير المُتعادل وغير المتكافئ للإمكانيات الحزبية، فانّ الكذب والنفاق وفقدان الإيمان والمُبالغة في الأمور والخوف تطغى على الأخلاقيات والتقاليد الحزبية السليمة).
الفردية في قيادة الأحزاب
تُرى هل يجوز أن تقوم الثقة بين أعضاء الحزب وقيادته على مثل هذه القيم الرديئة، ثم لماذا يسعى قادة الأحزاب الى تركيز السلطة بأيديهم والاستئثار بها على حساب أفراد ومكونات الأمة كافة؟ وهكذا فإن الكذب والنفاق سوف يكون أول ثمار الطغيان الفردي في الحركة الحزبية، وإذا بقي هذا المسار الخاطئ متفشيا في الحركة الحزبية فإن النتائج المتوقعة ستكون بالغة السوء، بسبب غياب الارادة الحرة لاعضاء الحزب وانتشار حالة الخوف بينهم ومن ثم التزلف والتملق للشخص الأقوى في الحزب أملا بكسب رضاه، وهذا ما حصل بالفعل في الدورات الانتخابية الماضية في العراق، والغريب أن قادة الأحزاب دائما يجدون من يناصر على تحقيق هدفهم بالتمسك بالسلطة ليس من باب تقديم الخدمة للشعب، وإنما من باب الامتيازات الهائلة التي تقدمها لهم السلطة، لهذا يتمسك قائد الحزب بالسلطة ويعاونه عدد من المتملقين و المنافقين في هذا المجال.
يقول الإمام الشيرازي عن هذه النقطة بالذات:
(إنّ المُنتسبين للحاكم من وجهةِ النظر الشخصية هم أكثر حقارةً وتزلفاً ونِفاقاً وخوفاً ولا عقائدية، وهم بالطبع اكثر انقياداً واستسلاماً، لكن مثل هذا المنتسب الحزبي هو من أكثر العوامل والعناصر المؤلفة لهيكلية الحزب ثقةً وتقرباً عند القائمين عليه).
لذلك يرى المراقبون أن الفشل في بناء نظام ديمقراطي حقيقي يحمي حقوق الناس سببه عدم وضع الأحزاب سياسة واضحة المعالم تقدم مصلحة الدولة والأمة على مصالح الطبقة السياسية الحاكمة، وقد استمر هذا المنهج منذ البداية، والمعروف أن البدايات السيئة لن تقود الى نتائج جيدة، فحين يبدأ أعضاء الحزب حياتهم الحزبية بالتملق والتزلف والكذب، فإن النتئج لابد أن وخيمة على قادة الحزب وأعضائه جميعا، ومع ذلك يبقى العضو المنافق والمتزلف هو الأقرب للقائد من غيره، وهذه هي طبيعة القادة السلطويين، لكن هذا لايعني غياب الافراد الشجعان الاقوياء، أولئك الذين لا تنثني ارادتهم ولا يبيعون مبادئهم بالترغيب او الترهيب، ولكنهم في هذه الحالة لن يكونوا محط تقدير أو تقريب من لدن قادة الحزب، لذلك ينتهي هؤلاء الى نتائج غير موفقة تلحق بأمثال بهم الذل والاحتقار، في حين يبقى الشجعان من أصحاب المواقف المشرفة في الصدارة دائما ومكانتهم محفوظة في القلوب والنفوس.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(على العكس مـن ذلك فـإن الأفراد الشجعان من ذوي الإيمان والإرادة والذين لا يتلاءم طبعهم الذاتي مع الانقياد الأعمى والطاعة المطلقة، لا يمكنهم أن يكونوا موضعَ ثقة واطمئنان هؤلاء القائمين والمشرفين على شؤون الحزب بل لا يمر زمان إلاّ ويُطردون من الحزب).
العواقب الوخيمة لفقدان الشورى
وربما لم يتنبّه قادة الأحزاب الى مخاطر المنهج الفردي في إدارة الحزب، فالحقيقة هنالك نتائج وعواقب وخيمة لهذا المنهج الأحادي، لذلك فإن مثل هذه الاحزاب التي تفتقد للشورى وحرية التحاور والتشارك في اتخاذ القرار وما شابه، لابد أنها تؤول للسقوط، بسبب عدم قدرتها على تمثيل مصالح الشعب، وانشغالها بما يدعم سلطتها وامتيازاتها مع استمرا الفشل في بناء الدولة.
من هنا يؤكد الإمام الشيرازي قائلا:
(في البلدان النامية، تفقد الأحزاب تلقائياً نفوذها الاجتماعي وطبيعتها الشعبية إذا كانت مُمثلةً بصورة مباشرة للحكومات والنظم السياسية والاجتماعية القائمة في البلاد، فانّ مثل هذه الأحزاب تفتقد للجاذبية السياسية والشعبية، وذلك لأنّها ديكتاتورية بطبيعتها، والديكتاتور ينفضّ الناس من حوله وإنّما يبقى بمشنقته وسجنه وتعذيبه).
إن الأحزاب العراقية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى لهضم أفكار الإمام الشيرازي المتعلقة بنشاط الأحزاب وطريقة التعامل من الانتخابات والوصول للسلطة، فليس الهدف من حركة الحزب الوصول الى السلطة بقدر الاحتفاظ بالأخلاقيات السياسية والعقائدية التي تحفظ تاريخ ومكانة الحزب في نفوس الأمة، أما نسيان هذا الجانب أو إهماله مقابل الوصول الى السلطة والمناصب، فهذا لن يكون في صالح الحزب على المدى الطويل.
وسوف يؤدي افتقاد الأحزاب لمنهج الشورى الى عزل الحزب شيئا فشيئا عن الأمة،
كما نلاحظ ذلك في واقعنا الراهن، ولهذا السبب بقيت العلاقة بين الاحزاب والشعوب النامية فاترة، الامر الذي أدى الى إثارة اسئلة عديدة بهذا الخصوص خاصة لدى النخب المختلفة التي طالبت بتوضيح موقف الأحزاب بما يجري على الساحة السياسية وخصوصا ما يتعلق بالانتخابات في دوراتها السابقة واللاحقة.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي في كتابه هذا على ما تطرحه النخب من تساؤلات كثيرة، فيقول سماحته: (تبقى هناك أسئلة حائرة على أًلسنة المثقفين والذيـن فوجئوا بالأحزاب والانقلابات وذاقوا الويلات وهي: هل للأحزاب مقدرة على تجسيد الخيارات الاجتماعية للشعوب؟ وهل هي قادرة على التعبير عن رؤيتها العالمية وتحسسها بقضايا الأمة أو تؤدي إلى تصنيف المجتمع إلى فئاتٍ نخبوية بلا حدود وفئاتٍ فقيرة بلا حدود ؟ وهل هي قادرة على أن تكون سنداً وقوةً للجماهير الشعبية؟)، هذه الأسئلة نفسها مطروحة اليوم على الأحزاب السياسية في الساحة العراقية، وكيفية تعاطيها مع الانتخابات القادمة؟؟..
اضف تعليق