ثمة علاقة جدلية بين الحضارة والإنسان، فمنذ أن نشأ الكائن البشري بالمواصفات الجسدية والعقلية التي ميزته عن الكائنات الأخرى، بدأت بوادر التميّز والاختلاف تظهر في أفكار وأنشطة الإنسان التي تختلف عن جميع أنشطة الكائنات التي تقاسمت البوادي والغابات مع الإنسان، ومنذ مراحل النشأة الأولى بدا واضحا ذلك النزوع نحو البناء، فالتشرد والعيش في ظل التهديد الدائم، وغياب الغذاء والسكن الآمن وضعف مستلزمات الحياة المستقرة، كل هذه شكلت ركائز فكرية لانطلاق الإنسان نحو الحضارة في علاقة جدلية لم تتوقف ولو لحظة واحدة.
ومما أقدمت عليه مجاميع البشر، أنها سعت الى العيش الجماعي، وانتقلت من حياة الترحال الى الثبات في سكن قائم مناسب يمنح البشر فرصة كبيرة لتطوير الحياة ونقله الى محطة التحضّر، حيث راح يسعى الإنسان بصورة متواصلة لتحسين حياته وطرائق عيشه، عبر تحسين الافكار التي تؤثر مباشرة في نوعية سلوكه وأفعاله، وهكذا بدأ الأمر بسعي البشر نحو تخليق بيئة جيدة يمكن أن يطلق عليها بالحاضنة الحضارية للتجمعات البشرية التي تتيح للإنسان حياة أفضل.
ولذا فإن نزوع الإنسان الى ابتكار علاقة جدلية مع الحضارة جعل الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، ينحو للبحث في عمق الإصلاح، إذ لا يمكن بناء حضارة ومجتمع متمدن من دون حاضنة الإصلاح، حيث يقول سماحته في كتابه القيّم الذي حمل مفردة (الإصلاح) عنوانا عريضا له: (من مقومات الإصلاح، القضاء على بيئة التخلف).
وهكذا تم التركيز على جدلية العلاقة بين الحضارة والإنسان عبر مجسات خاصة تبحث في كيفية بناء بيئة تناقض التخلف وتحد من سطوته، فالحضارة لا يمكن تشييدها بعيد عن الإصلاح أو في ظل التخلف الفكري وهذه هي الطريقة الأمثل لنقل الفرد والمجتمع من أجواء الغاب والتشرد والضياع، الى أجواء أكثر حداثة وتطورا، لأن البشر مع تطور الفكر والعقل بدأ يرفض التخلف كونه لا يصلح لبناء المجتمع المتحضّر.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: (للتخلف بيئة خاصة به، هي الجهل والنزاع والكسل والضجر، وشيوع الزنا والانحرافات الجنسية، والمرض والكآبة، وعدم الأمن والبطالة، واشتغال كل بلذائذه ومصالحه بأقصى ما يمكنه وعدم الاعتناء بحقوق الآخرين، وعدم تحمل المسؤولية وخدمة الآخرين، والعمل لكسب المنافع عن أي طريق كان).
إذن هذه حزمة من العوامل المساعدة لنشر وتنمية بيئة التخلف، وعلى المجتمع اذا ما أراد الانتقال الى بيئة الاصلاح، أن يسعى لمحاربة عناصر التخلف التي ذكرها الامام الشيرازي، لكن المجتمع يتكون بدوره من مجموعة الافراد الذين ينتمون إليه، وتعتمد طريقة العيش، ومزاولة الحياة على درجة وعي هؤلاء الافراد، ومدى تطورهم، فكلما كان الفرد واعيا وساعيا الى الاصلاح قولا وعملا، كلما اصبح طرد بيئة التخلف أيسر وأسهل للمجتمع.
يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد بكتابه نفسه:
(من أهم ما يلزم في إصلاح المجتمع، هو إصلاح الفرد، لأن المجتمع يتشكل من فرد وفرد، وكل من الفرد الفرد والمجتمع يؤثر في الآخر سلباً وإيجاباً. ومثل المجتمع مثل الفرد، في الصلاح والفساد، والصحة والسقم، والتقدم والتأخر).
أثر الوعي الفردي والمجتمعي
إذن فطبيعة تطور الفرد ووعيه ودرجة إيثاره، لها مساس مباشر في تخليق بيئة الإصلاح التي تقضي على بيئة التخلف، هذا الأمر يوضّح بجلاء فاعلية الاهتمام بوعي الفرد، كونه سينعكس مباشرة على وعي المجتمع بكل فئاته وشرائحه ومكوناته، ومن ثم قد ينتمي المجتمع الى التطور والإصلاح، وقد يحدث العكس تبعا لوعي الفرد نفسه، لاسيما أن النزوع الفطري نحو الأفضل يثير نوعا من المنافسة بين الأفراد ومن ثم بين المجتمعات مع بعضها البعض، ومن يتوقف عن التمدن والحضارة ويكتفي بالبيئة الناقصة لن يكون من المجتمعات المتقدمة.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع: (بما أن المجتمعات البشرية الأخرى في تقدم وتطور دائم، فإن المجتمع الذي لا يكون متقدماً بنفس المستوى أو بفاصل كبير، فإنه يعتبر متأخراً ومتخلفاً فإنه إذا توقف عن التقدم صار مجتمعاً متخلفاً).
مما تقدم نستنتج نوعا من النشاط الجدلي المتناوب بين البيئة الإصلاحية النازعة نحو التطور وبين الإنسان، وهذا يدل على ان إهمال الوعي الفردي، سيقود حتما الى بيئة خصبة للتخلف، ويشيع نوعا من عادات التخلف بين أفراد ومكونات المجتمع، مثل تنمية نوازع الاستحواذ والمصلحة الذاتية واللهاث وراء الماديات وما شابه، من عوامل مساعدة على نسف مشاريع الإصلاح والانتماء المستدام للحضارة، على العكس مما توجبه عملية التطوير المجتمعي التي تتطلب التعاون، والتسامح، والتشارك، والتكافل بين جميع أفراد المجتمع، وخصوصا عندما يكون التباين الطبقي مؤثر، ويحتد الصراع بين الفقر والغنى، حيث تغيب سمة التعاون بين الطبقات المتباينة من حيث الوعي والثقافة والقدرة الشرائية أو المستوى المعيشي والاقتصادي.
عن هذا الجانب يشير الإمام الشيرازي الى: (إن الغني إذا اهتم بالفقير، والفقير إذا عاون الغني بدوره، وهكذا السليم والمريض، والعالم والجاهل، وغيرهم من الطوائف الاجتماعية المتضادة الصفة، فسوف ترفع مشاكل المجتمع بنسبة كبيرة، وما أكثرها خصوصاً في الحضارة الحاضرة التي جعلت المادة هي المحور).
الهيمنة المادية وآثارها السلبية
هكذا تبقى العلاقة ذات حراك جدلي مستدام بين جهود الإنسان ونزوعه صوب التمدّن، وبين المعضلات والمصاعب التي تحد من جموح الإنسان نحو العلا، ومع استمرار الهاجس البشري في طرق أبواب التطور والتحضر، نلاحظ هيمنة المادة على القيم ما أسفر عن تراجع في التطور الحضاري الحقيقي، ولابد من القول أن ما يتحدث به الغرب عن الحضارة لا عمق له، فالمادية هي التي تهيمن على حركة وفاعلية المجتمع الغربي.
ولسنا على خطأ عندما نقول بأن أهم ما يميز حضارة العصر، طغيان المادة على غيرها، بمعنى أن هناك تسارعا وانهماكا فعليا وخطيرا لتحقيق المنافع الفردية او الفئوية، وهذا يشكل مؤشرا سلبيا ليس على فرد او شعب بعينه، بل على البشرية جمعاء، لأن هذا المسعى الخطير الذي تدفع إليه النفوس المختلة الباحثة عن لذائذ المادية المباشرة، سيقود العالم الى حتفه، بسبب مخاطر القضاء على بيئة الاصلاح لصالح بيئة التخلف، لذا لابد أن يكون هناك سعي جماعي، لبث روح التعاون الجماعي، أملا بالوصول الى تحقيق بيئة مناسبة لنشر الحضارة والثقافة والوعي.
لذلك يرى الإمام الشيرازي: (أن المجتمعات المتقدمة المتحضرة تبنى على التعاون وعلى البر والتقوى بين أفراد المجتمع. علماً بأن الأمرين التقدم والتحضر متلازمان عادة، فإذا رأينا مجتمعاً متقدماً في مجال الصناعة والتكنولوجيا من دون المعنويات، فلا يعد من المجتمعات المتحضرة وإن وُسِم بذلك).
وهكذا تبقى جدلية العلاقة بين الإنسان والمكان ورموزه وإيقوناته، هي التي ترسم في نهاية المطاف درجة تمدّن الفرد والمجتمع أو تأخره، وكلما انتعشت المادية على حساب الجانب الروحي والمعني، تضمحل الحضارة ويخبو الفكر، إذن هي عملية موازنة بين مراعاة الجانب المادي والروحي، فلا ينبغي تغليب المادي كونه يؤدي الى إنعاش القيم الرديئة، ولا ينبغي إهمال الروحي كونه يضعف الروح، وإرادة الإنسان الذي يبقى متحفزا على الدوام لخلق حاضنة حضارية تليق بالكائن البشري الذي فاق في تقدمه وتطوره كلّ التوقعات.
اضف تعليق