"توجد آيتان في القرآن الكريم حول الحريات؛ الاولى: {لا إكراه في الدين}، والثانية: {يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}.
الأنظمة السياسية في عالم اليوم تنقسم الى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الديكتاتوريات البحتة، متمثلة في الديكتاتوريات الشرقية، ومن في فلكهم، وهؤلاء يصرحون بوضوح بأنهم يمثلون "ديكتاتورية البروليتاريا"، بمعنى ديكتاتورية الطبقة العاملة، كما يصرحون بأن في بلادنا لا توجد حريات ولا أحرار .
القسم الثاني: الأنظمة الغربية التي يطلق عليها البعض بـ "العالم الحر"، وهو مصطلح زائف، إنما هو عالم "ربع حر"، فاذا قسمنا الحرية الى أربع أقسام، يكون ربع فقط من هذه الحرية في العالم الغربي، تعيش في ظله البلدان الغربية مثل بريطانيا وفرنسا واميركا واليابان وغيرها.
القسم الثالث: المزيج العجيب من التعامل مع الحرية في البلاد الاخرى في العالم ومنها البلدان الاسلامية؛ فهنالك مزيج من الديكتاتورية والحرية والأهواء، ومختلف التوجهات النفسية والفكرية المتقاطعة.
تقول الآية الكريمة: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرطا}، فعندما ابتعد المسلمون عن القرآن الكريم، اصبح بعضهم ذيلاً للغربيين، وبعضهم ذيلاً للشرقيين، فيما البعض الآخر اختار المزيج من الافكار والأهواء والتوجهات الالتقاطية من الشرق والغرب، فصار {أمرهم فُرصا}.
إن الاسلام يحمل أروع وأكمل مصاديق الحرية في الحياة، فالحرية في الاسلام تشمل العقيدة وتشمل حياة الانسان ايضاً.
وقبل أن أبدأ بتأليف كتاب "الحرية في الإسلام" في كربلاء المقدسة، راجعت المؤلفات التي تتحدث عن الحرية في الاسلام، فوجدت أن الاسلام يضم مصاديق الحرية ويجسد هذا المفهوم بشكل حقيقي في جميع الميادين، بدءاً من العقيدة وانتهاءً بأبسط الامور في حياة الانسان والمجتمع، ولا تصدق يوماً أن يحلم نظام حكم أو دين أو نظرية فكرية في العالم بأن يكون أباً لهذه الحريات".
الحرية الحقيقية شاملة
تحصل الشعوب على حريتها بفضل مسيرة طويلة من تضحيات ابنائها وصمودها وتحديها للقوى المضادة، لكن لا تلبث أن تفقد هذه الحرية خلال فترة قصيرة لاسباب ذاتية احياناً؛ واحياناً اخرى تكون الاسباب خارجية، وتحديداً من الطليعة السياسية وقادة مسيرة التحرير، فينقلب المنظرون للحرية والعدالة والاستقلال والكرامة الانسانية – بشكل غريب- الى مدلسين لحكام ومسؤولين في الدولة الجديدة تبين طباع الديكتاتورية من مواقفهم ومنهج عملهم، رغم انتشار شعارات الديمقراطية هنا وهناك.
في البلاد الغربية التي تدعي أنها مهد الفكر السياسي، لا أحد يسأل عن سبب هذه الظاهرة لأن المواطن هناك، ومنذ باكورة تدوين الانظمة السياسية الحديثة في اوربا، يجد نفسه دائماً في تجدد فكري لنظرية الديمقراطية وتطوير مستمر لمفهوم الحرية بشكل عام، وطريقة استفادة الانسان منها، بغض النظر عن صحة او سقم محاولات التطوير تلك، بيد أن الوضع في البلاد الاسلامية يختلف بعض الشيء، فالحرية تأتي الى الشعوب وبنفس السرعة تختفي دون أن تتحسس طعمها، وايضاً قبل ان تتمكن الطليعة المثقفة من تدارك الأمر دراسة او بحثاً في الثغرات والأخطاء لمعالجتها، وإن يبقى من الحرية شيء، فانها لن تكون سوى فوضى تعمّ معظم مرافق الدولة وحتى المجتمع ايضاً.
وما تزال الجهود تبذل على قدم وساق للبحث والتثقيف والتوعية لبلورة رؤية محددة لمفهوم الحرية، ومنها ما أجادّ به يراع سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي الذي أغنى المكتبة السياسية والثقافية بمؤلفات أصّل فيها لمفهوم الحرية وأكد إمكانية أن لا تتمخض فوضى سياسية واجتماعية، وإنما إضاءة جديدة على طريق التغيير الشامل والتحول نحو الأحسن. وفي هذا المقطع الصوتي يسلط سماحته – طاب ثراه- على هذه القضية المثيرة دائماً، ويشير الى أن الحرية الحقيقية ذات العمر المديد التي بشّر بها الاسلام "تشمل العقيدة وتشمل حياة الانسان ايضاً"، بمعنى أن مفهوم الحرية متطابق مع كينونة الانسان المتشكلة من الروح والجسد، فهو منبعث من الحالة الانسانية وليس أمراً طارئاً عليه أو يحتاج لتنظير او تفكير لتدوين بنود الحرية بين دفتي كتاب، وهي الحقيقة التي يكشف عنها القرآن الكريم، ويستشهد بها سماحته: {...وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، (سورة الأعراف، 157) فكما ان الانسان يحتاج الى حرية التملك والتنقل، فانه يحتاج ايضاً الى حرية العقيدة والانتماء وطريقة التفكير والاستنتاج، ولعل هذا ما جعل سماحته يصف هذه القاعدة الصلبة بأن "الاسلام يحمل أروع وأكمل مصاديق الحرية في الحياة".
إن مقارنة سريعة بين مفهوم الحرية في الإسلام، وبين المفهوم السائد في الغرب من حيث النشأة والمصاديق على الواقع، فالديمقراطية كنظام للحكم، لم ينشأ من قاعدة انسانية، رغم أنه يعني بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وإنما من قاعدة اقتصادية تعبر عن مصالح خاصة قوامها الربح والمنفعة.
يقول الاستاذ في العلوم السياسي في جامعة بوردو الفرنسية، موريس دوفرجيه، في كتابه "المؤسسات السياسية والقانون الدستوري": "تشكل النمط الديمقراطي في الحكم في قلب المنظومة الاستقراطية والملكية التي كانت تسود اوربا قبل الثورة الفرنسية"، وفي مكان آخر من الكتاب يشير الى ان "اتباع المنظومة الديمقراطية يتطابق مع تطور البرجوازية الذي تسبب في تطور الثورة الصناعية (1870-1880)،وايضاً مع الرسم الماركسي الذي يعد ان تطوير القوى المنتجة – التقدم التقني العلاقات الاجتماعية- يولد طبقات اجتماعية تبني بذاتها ايديولوجيات ومؤسسات، وهو ما يضح الى حد كبير تطور النمط الديمقراطي...".
وعندما تتحرك بوصلة الحرية وفق التوجهات الاقتصادية ومؤشرات الربح والخسارة تضيق أطر الحرية على الانسان، بل الملاحظ للمتابع والخبير في هذا الشأن السياسي، أن الحرية الحقيقية في الغرب لمن يملك أكثر فهو الذي يمارس مختلف اشكال الحرية السياسية والاقتصادية بل حتى له القدرة على التأثير على القرار وصنع الحدث، وهذا ما يشير اليه دوفورجيه عندما يتحدث عن الليبرالية الاقتصادية التي يفترض انها فرع من المذهب الليبرالي الضامن للحريات الفردية والجماعية، ويقول: "انها تعني الرأسمالية، كما تعني أدوات الانتاج والملكية الخاصة للصناعيين والتجار المستثمرين والزراعيين، فكل فرد له الحرية في إنشاء مؤسسة كما يحلو له، في بيع وتسويق منتجاتها في إطار "قوانين السوق"، وهذا يعني عملياً أن المواطنين وتنظيماتهم لا تملك وحدها السلطة السياسية إنما يتقاسمونها مع مالكي الرساميل..."، ثم يردف بالقول:"ان النمط الديمقراطي هو في الحقيقة نمط "بلوتوديمقراطي" لان السلطة فيه ترتكز في آن على الشعب على الغِنى".
نعم؛ هنالك حريات واسعة في الغرب وماثلة للعيان، من حريات فردية وجماعية، فالتظاهرات الاحتجاجية وحتى الاضرابات العمالية الواسعة والمؤثرة على الحياة العامة ليس من شأنها دائماً التأثير على القرار الحكومي او على مسار التقنين في البرلمان، بين نجد التأثير بيد لفيف من اصحاب الرساميل الضخمة واصحاب المصانع العملاقة والى جانبهم اصحاب المؤسسات الاعلامية الكبرى ووسائل الدعاية.
هل نبقى نستورد الحرية؟
هذا السؤال الذي يستوقف المفكرين والمثقفين في بلادنا ممن ينشدون التغيير السياسي والاجتماعي ويرومون التأثير على سلوك الانسان وفكره، ونجد البعض يتردد في البوح بأسبقية الاسلام في بلورة مفهوم الحرية وإطلاقها للحضارة الانسانية، ويرى أن النصوص الجاهزة وتجارب بعض الشعوب في الغرب كافية لاجتثاث الديكتاتورية والاستبداد مع علمهم بأن الوسيلة التي يتبعونها هي التي جاءت بديكتاتورية صدام وسائر الحكام الخليج والبلاد الاسلامية.
لذا نجد سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي يؤشر في بداية حديثه عن الحرية الى أنماط الحكم في العالم؛ اثنان منها متطابق مع التصنيفات الواردة في علم السياسية، وهي النمط التسلطي الديكتاتوري، والذي يعده سماحته متمثلاً، ليس فقط بالانظمة الحاكمة في العالم الثالث، وإنما بالانظمة القائمة على النظرية الماركسية، والنمط الغربي (الديمقراطي)، ثم يشير سماحته وبقوة الى نمط ثالث، ربما يكون هجيناً ويصفه بانه "مزيجاً غريباً من الديكتاتورية والحرية والأهواء"، وهو ما تعاني منه معظم شعوبنا الاسلامية، رغم التحولات السياسية الحاصلة، ويعزو سبب هذا المآل الى التخلّي عن النمط الاسلامي المتكامل الذي يتكفل بالحرية الحقيقية والبناءة للانسان في حاضره ومستقبله، ومن يبحث عن التجارب العملية، فما عليه إلا العودة الحقيقية والصادقة الى تجارب الدولة الاسلامية الاولى التي أرسى دعائمها الرسول الأكرم، ومضى عليها أمير المؤمنين، عليه السلام، ففي تلك الحقبة الزمنية، ربما كان المسلمون يخسرون شيئاً من أموالهم وامتيازاتهم في ظل النظام الاجتماعي والاقتصادي السياسي المتكامل، بيد أنهم لم يخسروا حريتهم حتى من كان في الصف المعارض سراً ونفاقاً في عهد النبي، وجهاراً في عهد أمير المؤمنين، عليهما السلام.
اضف تعليق