تعيش الأمة الإسلامية اليوم، أحلك الظروف وأصعبها، حيث تزداد المشاكل والتحديات التي تواجه حاضر الأمة وتهدد مستقبلها. وتتكثف المخططات الأجنبية التي تستهدف أمن ومقدسات وثوابت وثروات أمتنا.
ولعل مما يزيد من هول هذه المخاطر والتحديات، أنها تأتي في حقبة زمنية تمتلئ في بلاد المسلمين ومجتمعاتهم الفتن والفرقة والانقسامات الداخلية التي تزيدنا جميعاً تراجعاً وضعفاً. وإن هذا يحملنا جميعا مسؤولية العمل على جمع شتات الأمة ولم شعثها في هذه الأيام العصيبة التي تحيطنا الأخطار من كل جانب، ليتعارف المتنابذون، ويتواصل المتقاطعون، متعاونين على رفع راية الإسلام وتعزيز مكانة مجتمعنا وأمتنا في هذا العالم.
ونحن في هذه الظروف الحساسة، أحوج ما نكون إلى دراسة تجارب العلماء والحركات الإصلاحية والتجديدية في الأمة، واستيعاب العبر والدروس منها، وذلك من أجل أن ننطلق في عملنا الثقافي والاجتماعي والعلمي من النقطة التي وصلوا إليها، ونستفيد من كل العمل المتراكم الذي قاموا به في فترة حياتهم.
فقراءة تجارب العلماء والمصلحين وفكرهم وعطاءهم، هو من الروافد الأساسية التي تغنى واقعنا، وتثري معارفنا، وتزيدنا تواصلا مع عظماء تاريخنا.
ومن الشخصيات الهامة في تاريخنا المعاصر، التي نحن بحاجة إلى دراسة تجربتها، وقراءة عطاءها، وفهم اتجاهاتها الفقهية والسياسية والثقافية والاجتماعية، هو الإمام الشيرازي رضوان الله تعالى عليه. حيث أن تجربته مرت بمراحل وحقب متعددة، كما أن عطاءه واهتمامه الفكري والعلمي استوعب دوائر ومجالات عديدة، كما أنه لم يحصر اهتمامه بقضايا بسيطة.
فالهموم التي يحملها تتسع لكل الدوائر والقضايا، وأنه لم يتخلى لحظة واحدة عن تتبعه واهتمامه بقضايا الإسلام والمسلمين في سائر بقاع الأرض.
فهو مرجعية دينية لم تعرف الفصل بين الشأن الفقهي والشأن السياسي والاجتماعي، فكل هموم الأمة همومه، ومارس الخدمة والعطاء في حقول الحياة المختلفة. فهو رجل العلم والعمل، ورجل الاجتهاد والجهاد، عاش عمره الشريف كله للإسلام، فدافع عنه بفكره وقلبه، وعرّف به بلسانه وقلمه وأخلاقه، وخاض كل معاركه تحت راية الإسلام. فكانت حياته كلها للإسلام. فشعوره ووجدانه مغمور بحب الرسول الأكرم (ص) وأهل بيته الأطهار (ع)، وبعقله وبفكره أنار طريق الأمة، وبلور أحكام الدين، وعمل بكل الوسائل على كشف حقائقه ومضامينه للناس. فكان نموذجا لذلك الإنسان الذي نذر حياته كلها للإسلام.
إذ يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}..
وفي الذكرى السنوية الخامسة لرحيل الإمام الشيرازي، نجدد عهدنا بتلك القيم والمبادئ الإسلامية التي صاغت فكر الراحل، وعمل من مواقع متعددة على نشرها في ربوع العالم عبرا لتأليف والإنتاج الثقافي والعلمي وبناء المؤسسات والمعاهد والمراكز الإسلامية وبناء الدعاة والخطباء والمبلغين وإرسالهم في بقاع الأرض لنشر رسالة الإسلام وتعريفهم بقيمه ومثله العليا.
وفي هذه الذكرى نود أن نؤكد على النقاط التالية:
1- إن الإسلام بمبادئه ونظمه وتشريعاته وثقافته ومناقبياته، هو الذي منح الإمام الشيرازي القدرة على صقل مواهبه وبلورة طاقاته، والانطلاق في رحاب البناء والعمران في مختلف مناحي الحياة. لذلك ونحن نحيي ذكرى وفاة هذا العملاق، ينبغي أن نتطور من خلال عملية إحياء علاقتنا بالإسلام ونجدد وعينا بقيمه ومبادئه ودورها في الحياة.
وذلك لأن الإسلام في مجالنا الحضاري، هو الذي وهب العظماء عظمتهم، والذي منح للعلماء قدرتهم العقلية والاستنباطية لاكتشاف حقائقه ومضامينه الحضارية والإنسانية.
من هنا وفي هذه اللحظة التاريخية الهامة، نحن أحوج ما نكون كأفراد ومجتمعات إلى تطوير علاقتنا بالإسلام وتجديد وعينا بقيمه ومبادئه. وأنه لا مخرج من واقعنا السيئ إلا بالالتزام بقيم الإسلام وبناء حياتنا الخاصة والعامة على أسس ومرتكزات الإسلام الحضارية.
2- استطاع ثلة من العلماء والمصلحين والمفكرين في التجربة الإسلامية المعاصرة، من صياغة رؤية حضارية شاملة لهذه التجربة في مختلف مراحلها وأطوارها.
ولا شك أن الإمام الشيرازي هو أحد هؤلاء الكبار الذين أثروا هذه التجربة بعطاء فكري وثقافي متميز، كان له الأثر الفعال في هذه المسيرة وخياراتها الثقافية والسياسية والاجتماعية. فلقد صاغ الإمام الشيرازي منظومة فكرية متكاملة، لبناء تجربة إسلامية ناجحة في هذا العصر المليء بالتعقيدات والتحديات.
وكان المبدأ العام الذي وجه الإمام الشيرازي في كل عطاءه وإنتاجه الفقهي والعلمي والثقافي، هو أن الإسلام مشروع حياة، وإن قيم الإسلام العزيز قادرة على الإجابة على كل أسئلة الواقع، وإنه بإمكان المجتمعات الإسلامية اليوم، إذا التزمت بقيمها ومبادئها أن تجترح تجربتها وفرادتها في مضمار التقدم والعمران الحضاري.
من هنا تنبع أهمية انفتاحنا الفكري والثقافي على هذه العطاءات الفكرية المتميزة، والتي رفدت التجربة الإسلامية المعاصرة بالعديد من الأفكار والمشروعات المتميزة.
فإحياء الذكرى يدفعنا إلى التواصل المعرفي الجاد مع هذه العطاءات، حتى نطور من معارفنا ونراكم خبرتنا الفكرية والثقافية، ونستفيد بأقصى درجات الاستفادة من إبداعات العلماء والمصلحين وعطاءاتهم الفكرية والثقافية والسياسية.
فالإمام الشيرازي ترك لنا مئات الكتب والأبحاث والدراسات في مختلف التخصصات، وإحياء ذكراه السنوية تعني فيما تعني الانفتاح والتواصل النوعي مع إرثه العلمي والفكري والثقافي.
3- إن الحرية بكل مستوياتها هي من أهم الأفكار والمبادئ التي عمل الإمام الشيرازي على بلورتها والدعوة لها. لذلك عمل على محاربة الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله. واعتبر أن الحرية هي من صميم الدين، ولا يمكن أن تستقيم الحياة الإسلامية بدون الحرية ونبذ الاستبداد السياسي والاستئثار بالرأي والقرار. فالإسلام هو دين الحرية والشورى، ولم يقم هذا الدين على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم أو المساس الجائر بأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وإنما قام على الحرية والشورى والتسامح والمياسرة واللطف وفضائل الأخلاق.
فالإسلام في جوهره هو حرب لا هوادة فيها ضد الاستئثار والاستفراد والاستبداد السياسي. ولقد أجاد الإمام الشيرازي في العديد من كتبه وأبحاثه في تجلية هذه الحقيقة وبيان مفهوم الحرية في الإسلام. بحيث أن المتأمل في فكر الإمام الشيرازي، يجد أن الحرية والشورى والدعوة لهما في كل الحقول والمستويات، هي من أفكاره المحورية وقناعاته الثابتة والكبرى، والتي ألتزم بمقتضياتها ومتطلباتها في كل عطاءاته واستنباطاته الفقهية والسياسية والإدارية والثقافية.
لذلك فإن من مقتضيات إحياء الذكرى السنوية للإمام الراحل العمل على نشر مفاهيم وحقائق الحرية والشورى وحقوق الإنسان في أرجاء مجتمعنا وأمتنا. لأنها خشبة خلاصنا، وجسر عبورنا للمستقبل.
فقه الحقوق في فكر الإمام الشيرازي
الإمام الشيرازي في هذا الكتاب (فقه الحقوق)، هو نموذج للفقيه الموسوعي الذي أحاط بصورة شاملة، بكثير من الأمور ذات الصلة بعلم الحقوق.
فالمسألة الحقوقية تمثل قضية مركزية في بنية الفكر الإسلامي. وهذا يتضح من تاريخية الممارسة النظرية الحقوقية في الإسلامية. ومن هنا نجد أن الجهد الذي يبذله الأمام الشيرازي، موجه لخدمة استراتيجية إسلامية محددة فيقدم لنا نموذجا للفقيه الذي لم يكن همه الوحيد صياغة أحكام الفقه المعتادة لدى الفقهاء، بل تجاوز ذلك، فهو صاحب مشروع حضاري، يسخر جميع العلوم والمعارف لخدمة هذا المشروع المجيد.
فالتفكير الحقوقي لدى الأمام الشيرازي يستند إلى قوة تاريخية، تفوق قوة الفكر والفلسفة الإغريقية واليونانية والمعروفة لدينا نحن المسلمين عندما نقلها بعض المفكرين والفلاسفة إلى لغتنا أثناء حركة الترجمة في عصر الدول العباسية.
والحديث عن المسألة الحقوقية أو فقه الحقوق في فكر الإمام الشيرازي يكون ضمن العناوين التالية:
- أصالة الحرية في الفكر الإسلامية.
- حقوق الإنسان حجر الأساس في سلوك الدولة والمجتمع الإسلاميين.
- ما هي حدود وضوابط الحق؟
- ما هي الضمانات للحفاظ على الحقوق في المجتمع المسلم؟
وقبل الدخول في تفاصيل هذه العناوين، ينبغي القول أن الهدف من إقرار الحقوق هو: تأمين حالة الإنسان بكل أبعاده، بعده الفردي، وبعده الاجتماعي، وبعده الكوني الشامل للدنيا والآخرة.
فالحقوق ليست مفردة معزولة عن بقية مفردات المنظومة الفكرية الإسلامية.
وإنما هي جزء من منظومة متكاملة. ولذلك فإن الحقوق مبنية على العدل والنصفة لا على القدة(1).
أصالة الحرية في الفكر الإسلامي
الأصل في الإنسان الحرية، إذ لا يحق لأي إنسان أن يسلب حرية وإرادة غيره أو يقيدها. فقد قال أمير المؤمنين (ع): (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً).
فالحرية الإسلامية حرية واسعة تنتهي عند حدود العبودية لله تعالى. التي ليست بدورها سوى التسليم لقوانين الله تعالى وأحكامه من أجل الاستفادة منها.
والحرية في الإسلام، لا تعرف لونا معينا. وإنما هي قيمة دينية مقدسة تشمل جميع الألوان والشعوب. حيث أن الناس سواسية كأسنان المشط.
والدين الإسلامي يربي في نفوس المؤمنين، قوة العقل ويبلورها حتى تتميز عن الهوى ودواعي المصلحة. ويبين المقاييس والمعايير الثابتة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في فطرة الإنسان من الإيمان بالحق والعدالة والكرامة والحرية.
وبذلك.. يحصل الإنسان المسلم على وعي كاف لكل ما يجري حوله ومحيطه.
ويمكنه بعد ذلك من تقييم الأفكار والأقوال وتمييز أحسنها {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}. (الرمز 18)
وعن طريق هذه العملية الواعية تتأسس اللبنة الأولى في المحافظة على حرية الإنسان في الحياة.
إذ تشكل هذه العملية حصنا منيعا، يمنع ذوبان الإنسان في بحر المجتمع الذي لا يقدس قيمة الحرية ولا يراعيها في قوانينه وحركته العامة. وبهذا يمتلك الإنسان المسلم جهازا داخليا حساسا ضد الانحرافات التي تحدث في شخصه أو مجتمعه.
ومن هنا فإن الحرية أساس التقدم، إذ لا يمكن أن يتقدم المجتمع بدون حرية.
فالحرية من الشرائط الضرورية للتقدم والبناء الحضاري.
وهذه الحرية لا تعني الفوضى والتعدي على حقوق الآخرين، وإنما لهذه الحرية حدود وشروط وهي:
- أن لا توجب ضرراَ على الغير (فردا أو مجتمعا).
- أن لا تكون كذبا أو تجاوزا على الغير.
- أن لا تكون نقداَ للأخلاق العامة أو قيم الدين، أو تحريضا للمواطنين على ارتكاب الأعمال المخالفة للأخلاق الإسلامية.
والجهة التي تحكم بأن العمل الفلاني ينسجم ومبادئ الحرية أولا، هي السلطة القضائية، بما تتمتع به من استقلال ونزاهة.
وحتى تتحول قيمة الحرية إلى مؤسسات وأطر هيكلية، يدعو الإمام الشيرازي إلى تحويل المجتمع المسلم إلى مؤسسات. إذ يقول: (المجتمع الإسلامي يجب أن ينقلب إلى ألوف المؤسسات حتى يصبح دولة عصرية آمنة من التزعزع والانهيار والانهزام أمام الأعداء. وفي الحديث (يد الله مع الجماعة)، والتكتل هو لأجل البناء والمنافسة في الخير وتقوية الإسلام وبلاده).
ثم يضيف الإمام الشيرازي (ولا فرق في المؤسسات التي ذكرناها بين خارج بلاد الإسلام وداخلها. ولذا كان من الضروري أن يكون من مهمة السفارات الإسلامية فتح الطريق أمام الإسلام بكل إمكانياتها. ومن المعلوم أنه إذا تبدلت البلاد إلى المؤسسات، وحرض الناس على إعمال طاقاتهم، وتفجير إمكانياتهم، وكانت كل أقسام الحريات متوفرة لهم، قفز بلد الإسلام في أقل مدة ممكنة إلى أعلى مراتب الاجتماع الإنساني)(2).
وجماع القول أن قيمة الحرية ثابتة من ثوابت الفكر الإسلامي، ولصيقة به بحيث لا يمكننا تحقيق قيم الدين في الواقع الخارجي بلا قيمة الحرية.
حقوق الإنسان في الدولة والمجتمع
لا شك أن الدين الإسلامي شكل قفزة نوعية ومهمة في التاريخ الإنساني، بما قدمه هذا الدين العزيز من نظم وتشريعات، تكفل حرية الإنسان الفردية والاجتماعية. وتسعى نحو تحقيق السعادة للإنسان في هذه الحياة. وتبدأ هذه النظم والتشريعات ببيان أن الله سبحانه وتعالى، قد أوكل للإنسان خلافته في هذه الأرض، بعد تكريمه إياه وتفضيله على الملائكة. إذ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(3).
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(4).
فأصبحت جميع المخلوقات في خدمة الإنسان كرمز للكرامة الربانية التي وهبها الله عز وجل للإنسان.
ومن هنا أبرز هذا التكريم للإنسان، التعبير الذي ينبغي أن يسعى الإنسان للحفاظ عليه، في هذه الدنيا، وهو إنسانيته والعمل على توفير جميع الوسائل للحفاظ على الإنسان وذلك لأنه تكريم لنوع الإنسان بدون تمييز أو فروق عرقية أو طبقية أو عنصرية أو ما أشبه (كلكم سواسية كأسنان المشط).
ومن الحقائق الثابتة، التي لابد من التأكيد عليها أيضا هي، أن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والضرورية لصيقة بشخصه وأن كمال إنسانيته ونقصانها مرهون بقدر تمتعه بحقوقه وحرياته. فإذا كان المرء يملك كل الحقوق والحريات فإن إنسانيته كاملة. وكلما تعددت الحقوق والحريات التي تسلب من الإنسان يكون الانتقاص من إنسانيته بنفس ذلك القدر.
والجدير بالذكر أن الإنسان الذي لا يتمتع بحقوقه وحرياته الأساسية، لا يشعر بحضور فعال في الوسط الاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه. بل يشعر بالاغتراب الاجتماعي والسياسي وما يترتب على ذلك من أمور سلبية سيئة كـ (اللامبالاة وعدم الاكتراث بالقضايا الكبرى والمصيرية التي تواجه مجتمعه وأمته). ويتزامن مع ضياع الحريات السياسية والحقوق الأساسية ضياع في العدل الاجتماعي. إذ إن الاستبداد السياسي سيفرز بحكم طبيعته وثقافته فئات وشرائح اجتماعية انتهازية مستغلة تعين المستبد وتؤيده للحصول على المزيد من الامتيازات والسلطات.
ومن هنا فإن الحفاظ على حقوق الإنسان جزء من النسق العقدي والحضاري للدين الإسلامي، وما مهمة الدولة والمجتمع في المنظور الإسلامي إلا الحفاظ على هذا النسق وتطويره بما يسعد الإنسان، ويطور إجراءات الحفاظ على حقوقه ومكتسباته.
وأهم الحقول المكفولة من قبل الدولة والمجتمع في التصور الإسلامي هي:
- حق الحياة، مع توفير كل شروط الحياة الكريمة، ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليها. {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات،13) وقال سبحانه وتعالى في عدم جواز الاعتداء على أحد {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة، 32).
- حق الحرية، وهو حق مقدس، ليس لأحد أن يعتدي عليه، ويلزم على الدولة والمجتمع توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد.
- الناس جميعاً سواسية أمام الشريعة الإسلامية (إذ لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا أحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى).
- ولا يجوز تعريض شخص لخطر أو ضرر (فإن المسلمين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم) ولكل فرد الحق في الانتفاع بالموارد المالية للمجتمع من خلال فرصة عمل متكافئة لفرص غيره.
- حق العدالة لكل فرد: إذ من حق كل فرد أن يلجأ إلى سلطة شرعية تحميه، وتنصفه وتدافع عنه إذا ما لحقه ضرر أو ظلم، ولا يجوز مصادرة حق الفرد في الدفاع عن نفسه، وعن عرضه، وعن ماله، وعن شرفه، وليس لأحد أن يلزم المسلمين أو غير المسلمين بأن يطيعوا أمراَ يخالف الشريعة.
- حق الفرد في المحاكمة العادلة، فإن كل إنسان بريء حتى تثبت إدانته، ولا تغريم إلا بنص شرعي.
- حق صحة القول والعمل، فإن لكل فرد الحق في أن يحمل الناس أعماله على الصحة.
- حق الحماية من التعذيب، حيث أن التعذيب محرم في الشريعة الإسلامية، فقد جاء في الحديث الشريف: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا).
- حق الفرد في حماية عرضه وسمعته. فقد قال تعالى: {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}(5).
- حق الأقليات، فإنه لا يحق لمسلم أن يضطهد غير المسلم من اليهود أو النصارى أو المجوس أو غيرهم.
- حق المشاركة العامة.
هذه بعض الحقوق التي ينبغي أن تكفل من قبل الدولة والمجتمع الإسلاميين في فكر الإمام الشيرازي.
حدود وضوابط الحقوق
الحقوق ليست مسألة هلامية، وإنما لها حدود وضوابط، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال تجاوز هذه الضوابط والحدود. ويحدد الأمام الشيرازي حدود الحق في النقاط التالية:
- أن لا يكون ضاراَ بنفس صاحب الحق ضرراًَ بليغا، فلا يحق للإنسان قتل نفسه أو إسقاط قوة من قواه كأن يعمي عينه أو يتلف عضواًَ من أعضائه كأن يقطع إصبعه إلى غير ذلك.
- أن لا يكون مفسدة على من ربطه الشارع به كعائلته ومن أشبههم كالأيتام الذين هو ولي عليهم، وكذلك بالنسبة إلى القيّم والوصي والناظر ومن أشبه وأن يكون بالنسبة إلى زوجته من المعاشرين بالمعروف. قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(6).
- أن لا يكون إضراراَ للآخرين، ولا تصرفا في حدود شؤونهم وحقوقهم.
- أن لا يكون خلاف المصلحة العامة.
- أن لا يكون محرماً شرعاً.
والضمانات والإجراءات المستخدمة للحفاظ على الحقوق في المجتمع المسلم هي الأمور التالية:
- نظافة النفوس بالأخلاق الفاضلة.
- الحريات التي وفرها الإسلام للإنسان، حيث إنه مع الحرية لا ضغوط وحيث لا ضغوط لا مانع للإنسان من الاستقامة.
- تماسك المجتمع الإســـلامي بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- قلة الحاجات فإن من كثرت حاجاته، لا بد وأن يمد يده إلى المال الحرام ويهدر الحقوق.
- بساطة المحاكم من كل النواحي، كناحية الوصول إلى الحاكم بسهولة وناحية عدم وجود رسوم للمحكمة وما أشبه)(7).
وتأسيساً على ما ذكر أعلاه، نقول أن فقه الحقوق مهمته الأساسية هو تنظيم الاجتماع الإنساني في مستوياته المختلفة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، الثقافية، العبادية، وما أشبه. وعلى ضوء هذا فإن فقه الحقوق ليس للمزايدات الأيديولوجية أو السياسية، أو لتذكر مجد قديم قد ضاع أو انفصلنا عنه، وإنما هو من أجل تكريس هذه القيم والمبادئ في حركة الفرد والمجتمع.
وفي الختام رحم الله الإمام الشيرازي، لقد فقدت فيه الأمة علما من أعلامها الأعلام، وفقدنا نحن فيه المرجع المصلح والرائد الأمين..
ووفاءَ لذكراه وعرفانا لفضله، هذه بعض الكلمات والأوراق التي كتبت لبيان بعض جوانب فكره، فأرجو أن أكون قد وفقت لذلك..
وجزى الله الإمام الشيرازي عن الإسلام وأمته بخير ما يجزي به عباده الصالحين، والحمد لله رب العالمين.
اضف تعليق