"في هذا الشهر، قمنا بزيارة لبعض المجالس الحسينية واستمعنا الى عدد من الخطباء المنبريين – حفظهم الله- وما نقدمه من ملاحظات، ليس من باب النقد، إنما هو تنبيه لأنفسنا على أن لا نكرر مثل هذه الامور، ومنها افتقاد المنبر للمحتوى المفيد والجاذب من المتلقي.
التكرار المُمل
من الملاحظ في بعض المنابر، تكرار المواضيع بنفس الطرح والشكل، وهذا من شأنه بعث الملل في المستمعين، إذ الناس تبحث دائماً عن الجديد في الطرح، حتى وإن تضمنت مواضيع مطروقة، مثل المواضيع الاخلاقية والعقائدية والتاريخية وغيرها.
علماً؛ أن لنا الحق في تكرار مواضيع عن الفرائض الدينية والصفات الاخلاقية وعن الحجاب وغيرها، بيد أن لنا في القرآن الكريم خير قدوة ونموذج غاية في الرقي والإتقان في الطرح، فنحن نقرأ تكرار لقصة النبي موسى، عليه السلام –مثلاً- في اكثر من آية كريمة، ولكن؛ التكرار يأتي في جانب من حياة هذا النبي العظيم او في جانب او قضية اجتماعية معينة، فهنالك جانب عن لقائه مع فرعون، وجانب آخر عن لقائه مع نبي الله شعيب، وجانب آخر عن حادثة قتله للقبطي، وجانب عن فراره، وجانب عبوره البحر، وجانب ذهابه للتكلّم مع الله، وهكذا... فهي قصة واحدة لشخص واحد، بيد أن التكرار في الأجزاء ضمن الظروف الزمانية والمكانية، لا أن يكون التكرار بنفس القوالب والموازين.
هذا النقص في الطرح المنبري هو الذي ينفّر الناس عن المنبر، وهو نفسه الذي يضفي على المنبر طابع التكرار الممل، والنتيجة؛ نلاحظ تناقص عدد الحاضرين في المجالس وبشكل مستمر، وإن حضروا؛ فربما لاهداف أخرى على هامش المجلس الحسيني، مثل الطعام والشراب وغير ذلك.
الغنى الثقافي
هذه هي الاجابة سلفاً عن سؤال يطرح بإلحاح عن السبيل لحل هذه المشكلة الفنية في المنبر، فقبل ان نفكر بالمنبر، هل نحن فكرنا بمطالعة الكتب الوزينة ذات الثقل؟ او نطالع المقالات المفيدة والعلمية؟ ثم؛ هل نطالع "الذريعة" للشيخ آغا برزك طهراني؟ وهل نطالع "الشافي" للسيد المرتضى؟ او "المجازات النبوية للسيد الرضي؟ وهل نستوعب – على الأقل- مفاهيم نهج البلاغة؟ او نستوعب المفاهيم التي أوردها العلامة في "نهج الحق"، وهي من كتب علم الأصول؟ او كتاب "حديقة الشيعة" للمقدس الاردبيلي، او غيره من امثال هذه الكتب؟
إن المطالعة في هكذا كتب من شأنها صياغة حلول لمشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وبامكانها توفير الاجابات على جميع الاسئلة الدنيوية منها والأخروية.
إن المواضيع المكررة يشكو منها المستمعون، لاسيما شريحة الشباب ممن يرغبون حضور المجالس الحسينية، وقد سألتهم ذات مرة في أيام عاشوراء، عن السبب في عدم مجلس خطيب معين، فكان جوابهم؛ ان مواضيعه مكررة، كان قد طرحها العام الماضي، لذا لا داعي لتضييع الوقت".
ماذا نقرأ؟!
يتفق العديد من العلماء والخبراء على أن المنبر بشكل عام، والحسيني منه، بشكل خاص، يُعد من أهم وابرز قنوات التثقيف ونشر الوعي في مجالات الحياة كافة، لما يحظى من علاقة وطيدة مع المتلقي تستقي جذورها من العقيدة والايمان، فالذي يرتقي المنبر – بشكل عام- في نظر المستمعين يشكل صورة في الاذهان اكبر من كاتب مقالة او مؤلف كتاب او منظّر او مفكر، إنما يمثل اللسان الناطق للدين بما يحمل من نظم وأحكام وآداب وقيم، لذا نجد أي خطأ يصدر من الخطيب يؤخذ عليه اضعافاً مضاعفة من غيره من يعملون في مجال نشر الفكر والثقافة.
وهنالك سبب آخر لتميّز المنبر؛ استقطابه شرائح متنوعة من المجتمع بأعداد كبيرة، مما يمكن الخطيب المفوّه ذو الثقافة الواسعة من صياغة رؤى محددة للمستمعين، ثم صناعة وعي وثقافة في مجالات متعددة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وهذا ما يدفع الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- لأن يسلّط الضوء في عديد مؤلفاته وفي احاديث بمناسبات عديدة حول ضرورة تقوية المنبر والخطباء في آن، ليسهموا بنجاح في المشروع الثقافي والحضاري في الامة، فهو يرى في هذا المنبر ليس وسيلة للتثقيف والتوعية على صعيد المدينة او البلد او حتى البلاد الشيعية، وإنما على صعيد العالم.
وعندما نتوقع منبراً مؤثراً وناجحاً في عمله وما يصبو اليه، فمن الطبيعي ان يوفر عوامل النجاح هذه، وهي التزوّد بسلاح الثقافة والمعرفة، ثم المداومة على التحديث ومواكبة التطورات الحاصلة في مجال صنع الرأي العام والتأثير الى المتلقي، لذا يؤشر سماحته الى نقطة غاية في الاهمية في هذا المجال، عندما يدعو الى المطالعة المركّزة لأمهات الكتب والمصادر الغنية بالمعارف والعلوم والآداب.
ومن نافلة القول ما يذكرني بسنوات خلت كنت قريباً من شريحة الخطباء الذين كانوا يعدّون العدّة للرحيل الى مناطق مختلفة لأداء دور التبليغ، فكانوا يتركز جلّ اهتمامهم في الحديث عن المصادر المطلوبة للمنبر، وبشكل نمطي غريب، فيذكرون للتاريخ – مثلاً- "الكامل" او "الطبري"، وفي التفسير؛ "الميزان"، علماً ان المنبر الذي يرتقوه بحاجة الى مصادر عديدة للتاريخ والتفسير والحديث، هذا الى جانب الاجتماع والاقتصاد والسياسية والقانون وغيرها من العلوم والمعارف، يتجاهلها الكثير من الخطباء –للأسف- ، لذا نجد الحصيلة النهائية، ما يشكو منه سماحة الامام الشيرازي منذ اربعة عقود من الآن، وهو كان يتحدث من دولة الكويت اواسط سبعينات القرن الماضي.
ان التطورات الهائلة في مستوى تفكير الناس، ولاسيما شريحة الشباب تستدعي الارتقاء بمستوى الفكر والثقافة بما يوازي هذا المستوى واكثر، حتى يُصار الى خطاب منبري ثري بالمعلومات والافكار التي من شأنها الاجابة على أي سؤال، بل و ردّ أي شبهة تثار في أي مجال من المجالات المسهتدفة، مثل العقيدة والتاريخ والحديث والاخلاق.
ولمن يراجع الكتب التي ذكرها سماحة الامام الشيرازي على سبيل المثال وغيرها كثير من المؤلفات التي خلفها لنا علماؤنا الابرار، من أمثال الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والشيخ النراقي والشيخ البهائي والعلامة الحلّي وغيرهم، يجد أن ليس فقط بالامكان الردّ على الشبهات التي تثار هنا وهناك، وإنما نحن في منطقة متقدمة جداً في المواجهة الحضارية مع الآخر، بما من شأنه التأثير فيه وإثبات حقانية الاسلام وأحكامه ونظامه في الحياة، بل وتفسيره لعديد الظواهر الانسانية الجديدة، وانه قادر على استيعاب كل جديد على صعيد الفكر والثقافة والعلوم.
ويمكن ان نضيف؛ مطالعة افكار الآخر والتعرف على ما توصلوا اليه من افكار وعلوم، لاسيما ما يتعلق بعلوم متطورة مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد، لاسيما وأن حركة الترجمة الى العربية توجهت مؤخراً نحو مؤلفات لعلماء ومفكرين غربيين فيما يتعلق بعلم النفس الايجابي و التنمية البشرية وغيرها، فهذا من شأنه ان يوسع آفاق المعرفة ويمكّن الخطيب من الإلمام بخلفيات أي قضية وعوامل نشوئها.
وبالمحصلة؛ بالامكان الحصول على منبر مجيب على مختلف الاسئلة التي تدور في أذهان شباب اليوم وتساعده على ايجاد الخيارات الصالحة، الى جانب مهمة تحصين الذهنية العامة من التشويش والمغالطة التي يسعى اليها الآخر في وسائله المتعددة.
اضف تعليق