قد لا يتنبّه كثيرون الى أن الصراع الأكثر شراسة في رحلة البشر وسنوات عمره، يدور بالدرجة الأولى مع الزمن، فالتحدي الأكثر ضراوة الذي يواجه الإنسان هو الكيفية التي يتعامل بها مع الدقائق والساعات والأيام والليالي التي تتسرب من بين يديه من دون أن يشعر بها أو ينتبه الى أهميتها، ولعل السبب الرئيس في فشل الإنسان يكمن في طريقة إدارته لهذا التحدي الأصعب، فالناجحون ببساطة هم أولئك الذين تمكنوا من التعامل مع الزمن بحنكة وذكاء ودراية، والفاشلون هم أولئك الذي بذّروا أعمارهم بحماقات متعاظمة، حيث الساعات تأكل أعمارهم وهم في حالة سهو وخمول وضمور قاتل.
يقول الإمام علي (ع): (الساعات تنهب الأعمار)، والنهب هنا تعبير حاد ودقيق عن جدية الزمن في نزيفه المستمر وهو ينقضّ على لحظات العمر، فالحقيقة التي لا تقبل اللبس أن رحلة البشر عبارة عن مجموعة لحظات متتابعة تشبه السلسلة المتعالقة، وما بين حلقات هذه السلسلة الزمنية هنالك لحظات إبداعية، لا يكتشفها إلا المبدعون أصحاب العقول العبقرية، فمن يا ترى الأقرب لاكتشاف اللحظات الإبداعية أكثر من غيره، لا ريب أنه ذلك العقل الذي لا يقرّ ولا يكف عن الإفادة من عمره بلا تردد او توقف أو عجز، على أن ينحصر ذلك في العمل المفيد.
لهذى يقيّم الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (اغتنام الفرص) هذا الأمر بالطريقة التالية فيقول: (لكي يحافظ الإنسان على فرصة عمره يلزم عليه أن يستثمر ساعات العمر، ولحظات الزمن بالعمل الصالح؛ إذ بواسطته سوف يطول عمر الإنسان).
معظم الناس تقيّم الفرد بما ينتجه من أعمال، ويتم التركيز ليس على الجانب الكمي للأعمال، وإنما الى النوع، ولهذا يبرز التميز والإبداع في العمل المتفرد، فالحقيقة لا فائدة من العمل الآلي الذي لا يحتوي على اللحظات الإبداعية المدهشة، لهذا يمكن القول بلا تردد أن الإنسان الحق هو ذلك الذي يفهم الزمن جيدا، ويعرف ويؤمن بأن عمره محسوب بساعات محددة، فإذا تعامل مع الزمن بهذه الرؤية الذكية، سوف يكون من الناس المتميزين المبدعين قطعا.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي حين يؤكد على: (أن الإنسان في هذه الدنيا مرهون بساعات عمره من جهة، ومرهون بالزمن المحيط به من جهة أخرى، فلكل منهما قيمة لا تقدر بشيء؛ لأن الإنسان إنما يقيّم بعمله).
التفوق النفسي والإبداع العملي
لا ينحصر الإبداع في اللامرئي واللاملموس، بل ثمة في الجانب العملي يكمن الكثير من تفاصيل الإبداع، وفي الغالب يكون هناك تناسق بين العمل الجيد وتحقيق الارتياح النفسي، فحين ينجح الإنسان في عمل ما، ويتأكد من أنه تعامل بدقة اللمسة الإبداعية في هذا العمل أوذاك، وأنه قدّم عمله بإبداع وذكاء، سوف ينتظر النتائج المتميزة حتما، يرافق ذلك تفوق نفسي يحيط بكيان الإنسان ولحظاته التي تمتلئ بالحيور والسعادة والتطلع الى التفوق المستمر.
إن الإفادة من الزمن، تُشعر البشر بالسعادة، وتمنحه نوعا من الاستقرار النفسي الذي ينعكس على حياته عموما، والسبب الأول في مثل هذه المشاعر، هو نجاح الفرد في قضية التعاطي مع الزمن، فحين لا يضيع الزمن هباء سوف تتضاعف فرصة العثور على اللحظة الإبداعية التي تجعل من الإنسان من المتفوقين المتميزين.
من هنا يؤكد الإمام الشيرازي على: (أن الإنسان عندما يؤدي العمل الصالح ويأتي بفعل الخير، فإنه يشعر بالراحة النفسية؛ لأنه يرى أن فعله هذا صدر في محله، وأنه قد استفاد من الزمن استفادة تامة)، ويُنصَح هنا بعدم إهدار الوقت لأي سبب كان، لأن الخاسر الأول هو الإنسان نفسه، ثم تنعكس هذه الخسارة على أقرب الناس إليه وصولا الى المحيط الأكبر.
ولابد أن الإنسان قد لاحظ تلك الحالة من الكآبة التي تلازمه عندما يهدر لحظاته الزمنية هباء، ذلك أن التعامل مع العمر بلا مبالاة وإهمال وتهرّب من المسؤولية، يضع الإنسان أمام تساؤلات كثيرة كلها حرجة، تجعله عارفا بالأخطاء التي يرتكبها وهو يهدر الزمن بلا حساب، مع خسارة تلك السلسلة المترابطة من اللحظات المبدعة التي يمكن أن تجعل الإنسان في مصاف العباقرة، فيما لو احترم الزمن وتعامل معه بحرص وحسرة وألم من يفقد الشيء الى الأبد.
لذلك فإن حالة الندم سوف تهيمن على شعور وإحساس وأفكار وحياة كل إنسان لا يحترم لحظات العمر التي تفر من بين يديه أمام عينيه، وهو ينظر لها بلا مبالاة، إن مثل هذا السلوك الحيادي البائس يصيب الإنسان بالندم والحسرة والكآبة.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي عندما يقول سماحته: (إن الذي ضيع ساعات عمره في اللهو واللعب، فإنه يندم على كل لحظة لم يستثمرها في فعل الخير، ويتعقب ذلك الندم حسرة نفسية وكآبة روحية).
الفرص بين الشقاء والذكاء
عندما يتم التأكيد على ملء لحظات الزمن وعدم تركها فارغة بإهدارها وتضييعها، فإن الملء هنا يعتمد على نوع العمل بالدرجة الأولى، وإلا ما فائدة أن يملأ الإنسان لحظاته بأعمال فاشلة، أو لا تنتمي الى الإبداع والتميز، هنا لابد من تحقيق شرط التميز في قضية ملء لحظات عمر الإنسان بالإنتاج والعمل، ولا فائدة من أن يكون العمر حركة مجانية عابثة لا نتائج جيدة من ورائها، هذا يعني أن البشر مطالب بملء لحظات عمره بالعمل الجيد والمفيد حصرا.
وحين يتحقق هذا الشرط، سنلاحظ ارتفاع معنويات الإنسان باضطراد، أي أن الحالة المعنوية تتصاعد مع ارتفاع حالة الإبداع التي ترافق أنشطة هذا الفر أو ذاك، كما أن الدراسات الحديثة أكدت علميا بما لا يقبل الشك، أن الناس الناجحين في أعمالهم والمبدعين في استثمار أعمارهم هم الأكثر عمرا من الناس الفاشلين، لهذا فإن النجاح يعمل على إطالة عمر الإنسان كما ثبت ذلك من خلال دراسات علمية، نخلص من ذلك الى أن الإنسان الناجح عمليا سوف يحقق فوائد كثيرة تصب في صالحه.
يقول الإمام الشيرازي عن هذا الجانب تحديدا: (إن الذي يقدّر الزمن ويعمد إلى صالح الأعمال، إنما يزيد لروحه ومعنوياته كمالاً مضاعفاً، ومضافاً إلى طول عمره عندما يأتيه الموت تراه فرحاً مستبشراً؛ لأنه يشعر أنه غير مقصر في أمره، فلا يندم ولا يتحسر كما يتحسر من ضيع عمره).
والذكي هو ذلك الكائن البشري ذو العقل المائز المثابر الباحث عن اللحظة الإبداعية بلا كلل أو ملل، إنه ذلك الإنسان الذي يستخدم ذكاءه لتحقيق النتائج القيمة، في حين أن الشقي هو من يهدر لحظات عمره في الأعمال الواهنة، وتضيع فرص حياته بسبب اللهو والكسل والخمول والتردد، وبالنتيجة يكون هو الخاسر الأول بسبب هذا النوع من التعامل الرديء مع اكتشاف اللحظات الإبداعية التي يمكن أن تغير حياة الإنسان وتقلبها للأفضل رأسا على عقب.
لذلك يقول الإمام الشيرازي عن هذا الموضوع: إن (الزمن مجموعة ساعات تتخللها فرص ثمينة للإنسان، فالذكي من اغتنمها وعمل فيها فربحها، والشقي من غفل عنها ولم يعمل فيها فخسرها.. فإنها لن تعود أبداً).
اضف تعليق