هل العنف صناعة أم خلْق ينشأ مع كينونة الإنسان، سؤال نوقش بإسهاب من لدن العلماء والمفكرين المختصين، وكانت النتائج ذات شقّين، الأول نعم هنالك إفرازات وراثية قد تدفع الكائن البشري الى اعتماد العنف كطريقة لتحقيق ما يصبو إليه، وربما تتوسع حالة العنف من الأفراد الى المجتمع، فهل يمكن أن تكون هنالك مجتمعات عنيفة؟، لا شك أن الحاضنة الاجتماعية تؤثر في بعضها البعض، ويقال (من رافق القوم عشرين يوما صار مثلهم)، فيمكن أن يتسم المجتمع بالعنف إذا لم يأخذ وجهاء الناس دورهم في إطفاء جذوة الشر.
خاصة أن المؤشرات تشي بأن العنف لا يستثني العنصر الذي يصدر منه، أي أن الإنسان العنيف سوف يكون أيضا عرضة لنتائج وأخطار هذا العنف.
يؤكد ذلك الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيم الموسوم بـ (فلسفة التأخر)، حيث يقول سماحته حول هذا الجانب: (إن العنيف في قول أو كتابة أو فعل، إنما يضر نفسه قبل أن يضر غيره).
علما أن علماء النفس على نحو خاص أسهبوا في تشريح النفس، فذهبوا الى أن الإنسان يضم في سريرته بذرة للشر ومثلها للخير، وجل ما يعانيه الإنسان في حياته، متأتٍ من مدى قدرته على تدعيم بذرة الخير، وتغليبها على بذرة الشر التي تسندها نوازع العنف والميل للنزاعات، وتفضيلها على الحكمة والتوازن في التعامل مع شؤون الحياة، فإذا ضعف الإنسان في جانب الخير صار منطق الشر متحكما به، ويبقى الميل الى النزاعات وأشكال العنف كافة، حالة مرضية تشكل جانبا من رؤية الإنسان وسلوكه، الأمر الذي يسِم الشخصية بهذا الوسم المتمثل بطبيعة تعامله مع الآخرين وإلحاق الأذى بهم من دون أن يفكر مليّا بما يقوم به من أفعال أو أقوال لأنه جزء من شخصيته وتكوينه.
يقول الإمام الشيرازي (قدس سره) في هذا الجانب: إن (الجنوح إلى النزاع والاختلاف نوع مرضي في النفس، وانحراف في الذات، فإذا قال الناس: الطريق إلى بلد كذا من الشرق، قال: لا بل من الغرب! ).
معالجة بذرة الشر
وربما يعني ذلك أن الإنسان يأتي الى الحياة حاملا معه بذرة الشر، ولكن لدية جانب الخير أيضا، ولكن هذا يعني أن بذور الخلاف مزروعة في الذات، فهل يعني هذا عدم القدرة على التخلص من سطوتها ؟ إن الميل للعنف يعد ملكة كما هو الحال مع الملكات الجيدة، وبهذا فإن التلقين والتعليم والنصح والتجربة قادرة على مساعدة الانسان كي يتجاوز هذه الملكة السيئة ويتخلص منها كليا.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي هذا المنحى قائلا سماحته في هذا الشأن:
( لاشك أن الإنسان فيه حالة العنف، لكن يمكن إزالتها بالتلقين والإيحاء والتمرين، وعند ذاك تكون ملكة له وطبعاً من طباعه، يأتي بكل يسر وعفويّة، كما هو كذلك في سائر الحالات والملكات الرديئة).
ومما يزيد الطين بلّة أن الشخص الذي يتسم بالعنف يصاب بالغرور عندما يطالبه الآخرون بأهمية اللجوء الى الحوار والتفاهم بدلا من أسلوب التصادم، كما انه يرفض الجنوح الى السلم بسبب حالة الغرور التي تهيمن على تكوينه الذاتي.
في هذا المجال يقول الإمام الشيرازي: (لا يخفى أنه لا ينفع العنيف الاعتذار، فإنه قد يرفع شدّة الأثر السيئ، لكنه لا يرفع أصل الأثر، ولماذا يفعل العاقل ما يحتاج إلى الاعتذار؟).
وهكذا نلاحظ أننا قد نكون في مواجهة أناس ليس في جعبتهم من أصول الحوار شيء، إنما كل ما يمتلكونه في إطار الحوار هو رفض السلم، واعتماد العنف سبيلا لمعالجة حالات الاختلاف والخلاف، فأسرع الأساليب التي يعتمدونها هو العنف، لذا فإن القاعدة السليمة تشير الى أن العنف هو وسيلة من وسائل التسلط بكل أنواعه ودرجاته، ولذلك فإنه يشكل الأسلوب الأوحد للطغاة من الحكام والمدراء والمسؤولين وبعض الآباء وكل المتجبرين الذين يجدون ميلا للعنف في نفوسهم التي تعاني من أزمات نفسية مركبة وبالغة التعقيد.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع تحديدا: لا شك أنه (من فلسفة التأخر الجنوح إلى النزاع، فإن بعض الناس يميلون إلى المشاكل والاختلاف مع الآخرين في الصغائر والكبائر، وفي كل أبعاد الحياة).
أولوية التهذيب الأخلاقي
بمعنى هناك من يتخذ من النزاع أسلوب حياة له، واضعا كل الضوابط الأخلاقية والدينية والعرفية وراء ظهره، والمشكلة الكبرى أنه يزرع مثل هذا الأسلوب المسيء في أولاده وغالبا ما تقدم لنا الحياة شواهد ماثلة لمثل هذه النماذج المخالفة، سواء على مستوى القادة أو الأفراد العاديين، وعندما نذهب الى وصف حالة التعالي للأفراد فإن هذه الظاهرة تعد بذرة أولى من بذور التسلط الذي سينمو ويصبح أداة قاهرة للآخرين تنميها نوازع العنف المتنامية في النفس الخالية من المراقبة والتهذيب، فالكِبَر ملكة سيئة أيضا تنمو مع نمو قدرات الإنسان الذي لا يراقب نفسه ولا يحتاط منها، فتدفع الى تنمية نوازع التسلط وحب السيطرة وفرض الأوامر المجحفة، كنتيجة طبيعية لحالة المرض النفسي الذي يعاني منه فيعكسه على الآخرين خصوصا أولئك الذين تحت أمرته، فمثل هذه الشخصيات تتضخم فيها الأنا كثيرا لتصل الى درجة المرض.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: (من فلسفة التأخر، الكِبَر، بأن يرى الإنسان نفسه كبيراً، ويترفّع على الآخرين).
ومن القضايا التي ينبّه عليها المختصون أن المصابين بعقدة التكبر على الآخرين قد لا يمكنهم ملاحظة هذا المرض في ذواتهم، وفي معظم الأحيان لا يتنبّه الإنسان المتكبر والعنيف الى طبائعه التي تقوده الى الظلم غالبا، ومثلما انه لا يهتم بهذا الأمر فإنه في الوقت نفسه لا يعرف مدى الأضرار التي يلحقها العنف ونوازع الشر في ذاته، وبهذا فإن ما ينعكس من أفعال العنف وظلم الآخرين من فوائد قد تصب في زيادة الغرور والتكبر والتعالي على الآخرين، ستقود الفرد العنيف الى نتائج ربما لم يحسب حسابها، بل بين أيدينا الكثير من طغاة التأريخ قرأ بعضهم تجارب البعض الآخر وعرفها لكنه لم يهضمها على النحو الصحيح وبذلك فإن سمة الطغيان بقيت تتجدد على مر الأزمان بين البشر، بل حتى بين الذين يدّعون الإسلام، فهذه السمة ترتبط ارتباطا وثيقا بالظلم الذي يلحقه مرضى النفوس بالآخرين لاسيما عندما تكون في أيدهم قوة غاشمة وأصحاب مناصب حساسة.
وهناك من يصرح دائما بأن المجتمعات الإسلامية هي أكثر التجمعات البشرية تفضيلا او استخداما للتعامل العنيف، وأكثر المجتمعات تداولا لظلم السلطات بأنواعها الحكومية والعائلية وغيرها، مع أن الإسلام كفكر وكمبادئ وكتعاليم إنسانية هو أول من حث على السلام وطالب بتقديمه على جميع الأساليب التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم من جهة وعلاقات الأفراد فيما بينهم من جهة أخرى.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي على أن: (اللاعنف هو شعار الإسلام قبل أن يتخذه غاندي شعاراً). لذلك يبقى العنف وكل العوامل المساندة له عاملا حاسما من عوامل فلسفة التأخر وانتشاره بين الشعوب الأكثر تداولا للعنف، وطالما أننا ننتمي الى الإسلام الذي يحث على السلام ومناهضة العنف بكل أشكاله، فإننا مطالبون بالجنوح الى السلم دائما، مع رفض التطرف، ونبذ ظاهرة التعالي والتكبر على الآخرين، والابتعاد عن التصادم وتطوير لغة الحوار وأسلوب الاحتواء البناء بديلا للعنف والتطرف.
اضف تعليق