"...كان نصير الدين الطوسي من أبرع الناس في علوم الرياضيات، وحتى اليوم فان جزءٌ من قواعد هذا العلم مقتبسٌ من هذا العالم، وقد ذكرت لبعض الأخوة أن نصير الدين الطوسي أول مبتكر لقواعد الجبر والمثلثات التي تدرس في المدارس الحكومية في عديد البلاد الاسلامية، بل وحتى في مدارس روسيا وأميركا.
لو كان هذا العالم الكبير، يعيش في الغرب لوجدنا البنايات والجامعات والشوارع وحتى الكتب، تحمل اسمه، فقد كان عالماً في النجوم والفلك والجغرافيا، الى جانب كونه عالم فقه وأصول وعقائد وتاريخ. مع ذلك فاننا نعاني من ظاهرة عدم تقدير وتثمين جهود العلماء؛ وإن لم يكن بشكل مطلق، ولكن؛ هذا حال معظم المسلمين".
عالم مكرّم وشعبٌ سعيد
تدنت القدرة الاستيعابية للعلماء في بلادنا الى ما يُعرف اليوم بـ"التكريم" متمثلاً بتقديم "دروع" أو "شهادات تقديرية" أو غيرها من الاشياء المبتكرة حديثاً، الى هذا العالم او ذاك خلال حفل بهيج يعلوه اسمه، فيحظى بالتصفيق والترحيب وكلمات الثناء، ثم يذهب كلٌ الى حال سبيله وينتهي كل شيء، وربما تأخذ تلك الأشياء الجميلة المهداة، مكانها المرموق في الجدران او المعارض الخاصة في البيوت.
وعندما يدعو سماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في هذه المحاضرة الصوتية الى تكريم العلماء بأن تحمل الشوارع والبنايات والجامعات وغيرها، أسمائهم، فانه على نحو المجاز، وإلا فإن الذي يستشهد به سماحته وهو من عباقرة العلم لدينا؛ الشيخ نصير الدين الطوسي، هل تستفيد منه الأمة في تقدمها العلمي والحضاري اذا وضعت اسمه على هذا الشارع او تلك الجامعة؟..
إن التكريم الحقيقي الذي يتوقعه العالم وقبله الأمة برمتها، هو ما نجده في الغرب والشرق ايضاً، حيث يحسب لهم ألف حساب، منذ نعومة أظفارهم في المدرسة، وحتى يدخلوا الجامعات ويتحولوا الى مصادر للبحث والتقصّي عن الجديد في المجالات كافة، ومن ذلك ما نسمعه من اليابان بأن راتب المعلم في المدرسة الابتدائية يعادل راتب وزير في الحكومة، بمعنى أن المعلم في هذه المرحلة الأولية من التعليم، يُعد بالنسبة لهم مسؤولاً ذا شأن في الدولة، لذا يعرف مسؤوليته ومكانته، كما التلميذ الصغير يعرف قيمته وأهمية العلوم التي يتلقاها.
أما عن كيفية تكريم العلماء بشكل حقيقي، فهذا من شأن المعنيين بالمؤسستين الرئيستين؛ الاكاديمية والدينية لوضع قواعد ونظم خاصة تضع العالم وايضاً طلبة العلم من الشباب والمبدعين ضمن مسيرة العطاء والتقدم، بيد أن المهم لدينا انعكاسات هذا التكريم والشخصية العلمية الفاعلة على حياة الشعوب والأمة بشكل عام، استناداً الى القاعدة التي أرساها الحديث الشريف: "صنفان من أمتي اذا صلحا صلحت الأمة، وإذا فسدا فسدت أمتي؛ العلماء والأمراء".
هنالك العديد من المكاسب التي نحصل عليها عندما نعيش العلماء حياة حرة كريمة، نذكر بعضاً منها:
1- خروج العلم من قيد الشهاد الاكاديمية الى عمق المصانع والمشاريع الانتاجية وحتى البحثية بغية التطوير والمزيد من العمل والانتاج، فقد بلغ الاسفاف بالعلم – مهما كانت أهميته- درجة أن أصبح وسيلة ارتزاق في يد البعض من اصحابه، بينما ذهب البعض الآخر في خطوة جديدة، الى اتخاذ الشهادة الاكاديمية "سلاح" تواجه به ملمّات الزمن وتحديات الظروف، كما يتم الترويج لهذه الفكرة حصراً بين أوساط الفتيات في المرحلة الاعدادية وفي الجامعة، على أن الشهادة الجامعية تمثل سلاحاً تحمي به نفسها من "التبعية المالية" سواءً قبل أو بعد الزواج، ومع تقدمها في السن.
إن دفع العلماء في الطب والهندسة والاقتصاد واللغة وحتى العلوم الدينية باتجاه البحث عما يحول العلم الى مصدر للتمويل وحتى الوجاهة الاجتماعية والسياسية، من شأنه أن يلحق الضرر البالغ بالمجتمع وما يرتكز عليه من مفاهيم أخلاقية وانسانية، علاوة على الضرر الاقتصادي الواضح، حيث من المفترض أن يكون العالم بالهندسة المعمارية أو التكنولوجية او الزراعية او النفط، من عوامل الحد من التضخم ومكافحة البطالة والاكتفاء الذاتي، وسائر مفردات التقدم الاقتصادي.
2- التعبئة النفسية للجيل الصاعد من طلبة المدارس، لاسيما في المرحلة الاعدادية، ورسم صورة مشجعة للعالم، تبعث في نفس الطالب الحوافز الذاتية على بذل المزيد من الجهد الذهني ومزيد من الابداع والبحث عن الجديد ثم الاطمئنان على قيمة العلوم التي يكتسبها ويبذل الجهود المضنية من أجلها.
3- وضع حدّ لنزيف العقول الادمغة من بلادنا الى الخارج، وهي من الظواهر الخطيرة التي تلقي بظلالها على جوانب عدّة في الحياة؛ اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
لقد بات شعار الكثير من العلماء المهاجرون من بلادنا؛ "تخلّ عن الأهل والوطن، واربح ذاتك"، بعد ما عُرف من البلاد الاجنبية، لاسيما الغربية منها، احترامهم للعلم والعلماء واستثمار الاختصاصات في مشاريع مختلفة.
فاذا كانت مقاطع الفيديو المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث عن مهاجر عراقي في النرويج –مثلاً- وقد تحول من سائق حافلة للركاب، الى مدير لشركة لنقل الركاب في مدينته، وهو ليس سوى سائق، فمن الطبيعي أن يكون الطبيب او الاخصائي في الكيمياويات او هندسة الطاقة او البناء وغيرها من الاختصاصات العلمية، مأمولاً بما هو أكثر من الامتيازات والنجاحات.
من ارهاب السلطة الى تهميش الاحزاب
ما تزال الشعوب الاسلامية تعاني خسائر فقد العلماء من حياتها، والقضية لا تتعلق بالسنين القريبة الماضية، وإنما تعود الى عقود بل وقرون مضت، وبما أن العلم -اساساً- يعد أهم عوامل القوة في الحياة، وربما أكثر فاعلية وتأثير على الواقع، فان القسم الاكبر من اسباب التخلف والهزيمة التي مُنيت بها الامة، يعود الى ابتعادها عن العلم والعلماء، بينما يلاحظ الجميع العكس تماماً في الأمم الاخرى في الغرب، ومن ثم في الصين وفي الهند.
ولهذا الانفصال اسباب عديدة، أهمها عقدة النقص والحقارة التي تلاحق معظم الساسة في بلادنا؛ سواءً من هم في سدّة الحكم او منتظرون على صف المعارضة (السرية اوالعلنية)، إزاء أهل العلم والعلماء، ولهذا اسباب ايضاً لسنا بوارد الحديث عنها في هذا السياق، بيد أن الصراع بين العلماء من جهة والحكام والاحزاب السياسية من جهة أخرى، واقع لا ينكر، أسفر عن إقصاء العلماء عن الساحة وعن الحياة العامة، وإن كان لهم حضور، فهو في خدمة السلطة او الحزب، وفي غير ذلك، إما المصير الى الصمت المطبق، او الهجرة، ولدى أول مواجهة؛ إما القتل المعنوي بالتسقيط، أو القتل المادي بالموت في الزنزانات المظلمة او على خشبة الاعدام.
ولذا نجد الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه "عالم الغد" وهو يتحدث عن جذور الأزمة في العالم ونشوئها، ويتحدث في فصل خاص بـ "محاربة علماء الدين"، ينصح "الاحزاب والهيئات الاسلامية الطامحة الى تحقيق الاهداف البعيدة المدى، مثل تطبيق حكم الله، وانقاذ البشرية من ظلمات الجهل والمشاكل، أن يتقاطعوا مع علماء الدين، لأن معارضتهم تعني سقوطهم، لذا نرى في جملة من الاحزاب الاسلامية أنها بعد أن تكبر ويقوى عودها، تتصور أنها قادرة على صنع كل شيء، وأنها وصلت الى ما تريد، فتأخذ في ذمّ العلماء وإلصاق التهم الباطلة بهم، ومحاولة إبعاد الناس منهم".
واعتقد أن المعنيين بأمر الحكم في الوقت الحاضر، وبعد جملة من التطورات السياسية الحاصلة في بلادنا، وانقضاء حقبة الديكتاتوريات وتجارب الحكم العسكري والفردي، وخوض أوليات التجربة الديمقراطية، مدعوون اليوم الى مراجعة منهجية كاملة لإعادة الاعتبار كاملة الى العلم والعلماء، اذا ما كانت ثمة نوايا حقيقية للنهوض بالاقتصاد بل وتطوير الانسان بشكل عام، ويستفيدوا من التجربة الديمقراطية للمساعدة على نشر العلم وتطويره والحثّ عليه بقوة، ليس فقط لتحقيق مصالح الشعب والامة، وإنما لما يعود عليهم هم، بالفائدة الجليّة بمزيد من التطور السياسي والتقدم الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.
اضف تعليق