عرف السيد حسن الشيرازي بالانفتاح الفكري والمعرفي الكبير وكان لا يرى بأساً بالإطلاع على ما عند الآخرين، ولما كانت الساحة الفكرية الشيعية خالية من النشاطات الحركية والأفكار والكتب التي تعنى بالفكر الحركي الاجتماعي والسياسي، بدأ يقرأ ويطلع على ما كتبه المفكرون والعلماء خارج نطاق الفكر الشيعي... يدلل هذا الأمر
بقلم: د. عادل غانم حسن العارضي
تعددت المؤثرات التي طبعت الجانب الفكري للسيد حسن الشيرازي فمنها ذاتيه تتعلق بالسيد حسن الشيرازي وعائلته، ومنها موضوعية تتعلق بالظرف الذي عاشه وخاصةً الوضع السياسي العالمي وانعكاساته على العراق وأوضاع العراق السياسية والاجتماعية والاقتصادية وانعكاسات ذلك على المواطن العراقي بشكلٍ عام.
اثّرَ تاريخ العائلة العلمي والفكري والجهادي تأثيراً بارزاً في بلورة هذه الشخصية العلمائية، فقد استند إلى تراث ضخم خلفه رموز هذه العائلة على مر التاريخ، يضاف إلى ذلك ذكائه الفائق الذي وظفه في تحصيل المعارف والعلوم الدينية وغير الدينية مترجماً ما حصل عليه من علوم بما توفر لديه من إمكانات خطابية عالية (1).
بدأ دراسته في كتاتيب كربلاء وبعدها درس مقدمات العلوم الدينية تحت رعاية وإشراف والده السيد ميرزا مهدي الشيرازي وكان يميل منذ صغره إلى الآداب العربية والى نظم الشعر والكتابة، وكذلك اهتم بالجوانب الاقتصادية للإسلام(2).
عرفت عائلته بمواقفها الجريئة ومنزلتها العلمية بين الأسر العلمية في العراق، وأن انتسابه إلى هذه الأسرة قد اسهم بشكل كبير في توجيهه وجهة علمية وتربوية وفكرية خاصة، التي أثرت بشكل فعال في مجمل نشاطاته الفكرية فيما بعد، لاسيما وأنها الأسرة التي لم تخل في أي مدة من وجود مراجع وقادة دينين من أبناءها منذ المجدد الشيرازي ولحد الان(3).
شجع تاريخ ومنزلة مدينة كربلاء المقدسة العديد من الباحثين والرحالة الأوربيين على زيارتها في مدد زمنية متعاقبة منهم الرحالة البرتغالي بيدرو تكسيرا pedro Teixra في 24 /أيلول /1604م وكذلك الرحالة الألماني كارستن نيبور neibour سنة 1765م وعالم الآثار الانكليزي وليم كونت لوفتسlofts سنة 1853م(4).
بدأت كربلاء تطلع على مظاهر الحياة الأوربية في مدةٍ مبكرةٍ جداً من تاريخ العراق الحديث، هذا بالإضافة إلى كثرة الوافدين الزائرين إلى كربلاء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي وإقامة العديد منهم فيها، أما للدراسة في حوزتها العلمية أو للسكن بجوار سيد الشهداء "عليه السلام" فاثر ذلك تأثيراً بارزاً في إطلاع أهل كربلاء على العديد من العلوم والمعارف ومعرفة أوضاع العالم الإسلامي، ولاسيما وأن الكثير من الوافدين من ذوي العقول النيرة من العلماء والتجار وعلى اطلاع واسع على مجموعة من الآراء والثقافات.
أصبحت كربلاء بعد الاحتلال البريطاني للعراق من أهم المدن المعارضة للاستعمار وصارت فيما بعد مركزاً للثورة العراقية 1920 م ضد البريطانيين بزعامة الميرزا محمد تقي الشيرازي ورجال الحركة الوطنية في العراق، وظلت الثورة مستمرة حتى وفاة الشيخ محمد تقي الشيرازي وبعد ذلك استطاع الإنجليز من دخولها بالقوة وإنهاء مظاهر الثورة(5).
يتضح مما تقدم أن مدينة كربلاء كانت منفتحة على كل الأقطار العربية والإسلامية وكذلك العالم، ومركزاً يؤمه العديد من الطلاب والزوار والسواح وهذا أدى إلى تلاقح الأفكار وانتشارها بين الناس.
إنتشرت بسبب الأهمية الدينية للمدينة ووجود المعاهد الدينية فيها حركة الطباعة بشكل كبير وكانت أول مطبعة تأسست فيها هي المطبعة الحجرية سنة 1856م(6) وهي ثاني مطبعة في العراق وبعدها مطبعة الحسيني وهي حجرية أيضاً والمطبعة الثالثة هي مطبعة الشباب سنة 1935م وقد ذكر الباحث السيد سلمان هادي آل طعمة اثني عشرة مطبعة أنشأت في كربلاء بين عام 1856م وعام 2004م (7).
ساعدت هذه المطابع بشكل كبير على نمو الوعي العام عند الكربلائيين إذ يمكن أن يعيدوا طباعة بعض الكتب أو يطبعوا كتباً جديدة هذا بالإضافة إلى ظهور الصحافة في المدينة فظهرت العديد من الصحف والمجلات والمنشورات بسبب وجود المطابع، وهذه الصحف قد أسهمت في رفع الوعي لدى أبناء كربلاء وكانت أولى الصحف ظهرت في كربلاء عام 1914م "الأنتباه" وصاحبها علي الشيرازي والصحيفة الثانية "الاتفاق" 1916م وصاحبها علي الحائري، وأخذت الصحف بالازدياد شيئاً فشيئاً فيما بعد(8).
أسهمت هاتان القضيتان (الطباعة والصحافة) في تكوين فئة مثقفة كربلائية متنورة بالعلم ومطلعة بشكل جيد على الواقع العالمي ومرتبطة به ولها أراء وأفكار حول السياسة والاجتماع وغيرها من مناحي الحياة، هذه الفئة كان لها الدور الكبير في رفد الأجيال التالية بالمعرفة والوعي اللازم لتتفاعل مع الظروف المحيطة بها بشكل أكثر فاعلية.
لعبت هذه الفئة المثقفة دوراً كبيراً في رفع المستوى الثقافي للمدينة، وهؤلاء المثقفون من سكان كربلاء كانوا يتصلون برجال الدين في المدينة ويتبادلون وجهات النظر في شتى المجالات حتى أنهم عملوا جنباً إلى جنب في مواضع عديدة، فقد أسسوا من (1956-1959م) جمعية أدبية عرفت باسم "رابطة الفرات الأوسط" هدفها نشر الثقافة في البلد وإحياء الاحتفالات والمناسبات الدينية، كان السيد حسن الشيرازي احد أعضائها من رجال الدين بالإضافة إلى السيد مرتضى القزويني (9) والسيد صدر الدين الحكيم الشهرستاني (10) وأربعة مثقفين من خارج سلك رجال الدين هم نتاج الحياة الفكرية والثقافية الكربلائية التي تحدثنا عن تكوينها فيما سبق، هم الأستاذ حسين فهمي الخزرجي والسيد عبد المجيد السالم والسيد سلمان هادي آل طعمة والسيد مرتضى الوهاب (11).
عرف السيد حسن الشيرازي بالانفتاح الفكري والمعرفي الكبير وكان لا يرى بأساً بالإطلاع على ما عند الآخرين، ولما كانت الساحة الفكرية الشيعية خالية من النشاطات الحركية والأفكار والكتب التي تعنى بالفكر الحركي الاجتماعي والسياسي، بدأ يقرأ ويطلع على ما كتبه المفكرون والعلماء خارج نطاق الفكر الشيعي.
يدلل هذا الأمر على مدى الانفتاح الفكري الذي يحمله السيد حسن الشيرازي وأنه كان باحثاً عن الحقيقة بغض النظر عمن تصدر منه هذه الحقيقة، وهذه النظرة التي كان ينظر بها السيد حسن الشيرازي قد اسهمت بشكل فاعل في علاقاته مع كل مفكري وسياسيي العالم الإسلامي الذين تعامل معهم فيما بعد.
ولعل السبب الذي دعا السيد حسن الشيرازي إلى ذلك هو الظروف التي كانت تمر بها الأمة الإسلامية جراء التهميش الدولي والهجمات الايدولوجية واشتداد المؤامرات الداخلية والخارجية وإقصاء الإسلام من المنهج العام للحياة (12).
أثرت الأحداث السياسية التي مر بها العراق بشكل ٍ خاصٍ والمنطقة والعالم بشكل عام تأثيراً بارزاً في تكوين الفكر السياسي عند السيد حسن الشيرازي، إذ حدثت الحرب العالمية الثانية وعمره أربع سنين وانتهت وعمره عشر سنين، وقد رأى تداعيات الحرب وأثرها على المجتمع الإسلامي والعراق بشكل خاص، واستفاد كذلك من اطلاعه على أوضاع البلاد المتصارعة والتحالفات الدولية التي تشكلت بعد الحرب، وتحدث عن ذلك في كتاباته "يتفق الجميع على مدى تقهقر المسلمين وان الأوضاع التي يعيشونها تدعو إلى الرثاء الأليم فالمسلمون اليوم شلوٌ متقطع تنهشه الذئاب من كل عصابة أو فرقة أو امة فقد أصبحوا نهزة كل طامع أو مستعمر أو انتهازي أو مستغل ومصب المؤامرات والأحقاد والأطماع لمختلف الكفار المحدقين بهم من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب "(13).
وقال كذلك " ذلك شطر من مأساة المسلمين الطويلة في هذه المدة العصيبة من تاريخ العالم ولقد مني المسلمون بهذه المأساة كنتيجة طبيعية لعوامل وعناصر!! فهل لنا من محيص، نعم أن هناك طريقاً واحداً واضحاً لوضع حد لهذه المأساة وهو أن نفحص ذلك الشيء الوحيد الذي سبب للمسلمين هذا التدهور والانحلال والسلبية ثم نكافحه مكافحة جذرية أن ذلك العامل الذي أصاب المسلمين بهذا التأخر والانحطاط هو إزاحة الإسلام عن المجال التشريعي والسياسي، ومعالجة هذه الظاهرة السيئة لن تكون إلا بإعادة الإسلام الى المجال التشريعي والسياسي"(14).
أسهم فهمه العميق للإسلام في بلورة وعيه المبكر، فكان يرى أن الإسلام منظومة كاملة لا يمكن أن تعمل بجزء دون الجزء الآخر، فان النقص في أي جزء منها سيؤدي إلى تعطيل العمل الإسلامي وشبه ذلك بالساعة اليدوية " والساعة اليدوية الصغيرة التي تراقب جري الزمان كلها تعمل بمجموع أجزائها وان نقصت آلة ولو دقيقة منها عطل الجهاز كله". (15)
تميز كذلك باطّلاعه الواسع على الفكر الرأسمالي والفكر الشيوعي ومداليلهما الفكرية، والأيدولوجية والتطبيقية وقد ناقشهم في أفكارهم ورؤاهم "اعترف أكثر الساسة الاشتراكيين أن النظام الماركسي غير قابل للتطبيق وظهر أن الشيوعية المطلقة التي دعا إليها فرويد وماركس وانجلز كانت أوهام نحتوها من تعاقيد أدمغتهم حتى لفّهم الظلام... وبالفعل لم يطبق ذلك النظام رغم محاولات لينين وستالين، فقد أراد ماركس هدم العوائل والملكية الفردية والأديان فأرهقوا الشعب ودمروا الملايين ولم يجدوا لذلك سبيلا، ولذلك استأنفوا حياتهم الاقتصادية من جديد واخذوا في تعديل ذلك النظام واختلقوا الاشتراكية(16).
ذكر في مصادره وبحوثه مثل، البيان الشيوعي تأليف كارل ماركس(17)، وانجلز(18) وغيرها من الكتب الأخرى فهو يقوم بنقدها مباشرة دون الرجوع إلى الكتب التي تصدت لها، وهذا يدلل على فهم عميق لتلك المبادئ.
وكان يرى ان الرأسمالية فشلت "حيث لم تستطع القضاء على الفقر والمرض والجهل... فان المبدأ الصحيح الكامل هو الذي ينهض بتنظيم المجتمع من كل جوانبه والمبدأ الرأسمالي تمكن من تكتيل الثروة في صناديق متعددة وذلك ربما ينفع البلاد من ناحية معينة ولكن لم يقدر على تكفل الفقراء... فارتفعت القصور الباسقة وانتشر حولها الحطام البشري يندفع وراء الخبز الزهيد، فمثلا في مصر اقل من أربعة الآف رجل يملكون ثلث جميع الأراضي وجميع النقود الموجودة في البنوك... مع العلم أن نفوس مصر تربو على عشرين مليونا(19)، والى جانب هذا الترف الغليظ وجدت امرأة ميتة وبعد التحقيق ظهر أنها ماتت من الجوع" (20).
أردنا من استعراض هذه الآراء معرفة تكوين السيد حسن الشيرازي الفكري وإطلاعه على الأفكار الرأسمالية والشيوعية وسنقوم في الفصل الثالث بمناقشة أرائه في الفكر الرأسمالي والشيوعي بتفصيل اكبر.
تميز السيد حسن الشيرازي في الوقت نفسه باطلاعه الجيد على تاريخ العالم الحديث والمعاصر إذ يذكر "في سبيل الحركة النازية ثارت الحرب العالمية الثانية فكانت ضحاياها 70 مليون نسمة عدا المشوهين والجرحى والمصابين بالأمراض العقلية والعصبية" (21).
واكب كذلك التحولات الفكرية والسياسية التي مرت بها الأمة العربية ابتداءً من ثورة "يوليو" تموز / 1952م في مصر بزعامة عبد الناصر، وكذلك التحولات التي حدثت في العراق بعد ثورة 14 تموز 1958م بزعامة عبد الكريم قاسم، ومن الأحداث الأخرى التي عاصرها هو بروز ما يعرف بالقوميين في زمن عبد السلام محمد عارف، إذ برز إلى الوجود بعد إقصاء الشيوعيين التيار القومي وعانى كثيراً هو ومن معه من أفراد أسرته من جورهم وله مواقف مع متصرف كربلاء أيام عبد السلام " 1963-1966م " جابر حسن الحداد متصرف كربلاء الذي جاء بعد حركة عبد السلام عارف (22).
تحدث السيد محمد الشيرازي عن أخيه وذلك عندما تعرض للعمل السياسي في العراق في كتابه عشت في كربلاء على الرغم أن الكتاب لا يتعرض إلى ذكر التفاصيل بل يشير إشارات صغيرة فقط إلى بعض القضايا التي عاشها السيد محمد الشيرازي في كربلاء وظلت عالقة في ذهنه إلا انه قال " كما كان للأخ السيد حسن الشيرازي – رحمه الله – نصيب وافر في هذا الحقل وقد لاقى بسبب ذلك مصائبه المعروفة " (23).
امتازت العائلة بمواقفها السياسية المهمة فكان السيد محمد الشيرازي مهتماً بشكل كبير بالوضع السياسي للعراق وقد قام بلقاء العديد من الساسة في مختلف عهود العراق سواءً الملكية أو الجمهورية ومن هؤلاء " عبد الرسول الخالصي "(24) الذي كان متصرفاً للواء كربلاء عام 1949م والتقاه مرة أخرى عندما أصبح وزيرا للشؤون الاجتماعية عام 1955م (25).
والتقى كذلك بـ" سعيد القزاز "(26) الذي كان وزيراً للداخلية للأعوام من " 1953-1958م" والشيخ "محمد رضا الشبيبي" (27) الذي كان وزيراً للمعارف في العشرينات والثلاثينات والاربعينات وخليل كنة الذي كان وزيراً للمعارف في وزارة نوري السعيد سنة 1954م وعبد الهادي الجلبي الذي كان وزيراً للأشغال في وزارة أرشد العمري الأولى 1946م والسيد محمد الصدر الذي أصبح رئيساً للوزراء سنة 1948م وعبد الكريم قاسم الذي أصبح رئيساً لمجلس الوزراء في أولى وزارات العهد الجمهوري بعد ثورة 14/تموز / 1958م ومحمد نجيب الربيعي الذي أصبح رئيساً لمجلس السيادة عام 1958 م وعبد الرحمن البزاز الذي أصبح رئيساً للوزراء 1964م واحمد حسن البكر الذي أصبح أول رئيس جمهورية بعد انقلاب 17/تموز / 1968م وغيرهم(28).
يتضح مما تقدم أن اهتمام هذه العائلة بالعمل السياسي ليس وليد حالة معينة أو ظرفاً خاصاً، بل إننا نجد أن هذه العائلة اهتمت بالعمل السياسي في وقت مبكر جداً من تاريخ العراق الحديث والمعاصر وقد عملت من خلال اللقاء بالمسؤولين على شرح وجهة نظرها والوصول إلى أهدافها عن طريق الحوار مع الشخصيات السياسية ونشر مطالبها ومحاولة حمل الحكومات على تنفيذ تلك المطالب التي تتعلق في كثير من الأحيان بحفظ الوضع الديني للمدينة باعتبارها مدينة مقدسة ولها مكانة في نفوس المسلمين ويجب أن تراعى هذه القدسية من خلال إبعاد مظاهر المجون ومحلات بيع الخمور من المدينة وكذلك الإهتمام بالجانب العمراني والخدمي للمدينة (29).
أثرت التربية التي ترباها السيد حسن الشيرازي والجو الفكري والمعرفي الذي عاشه في كربلاء عندما كان بمعية أبيه وأخيه تأثيراً فاعلاً في ترتيب المنظومة الفكرية والمعرفية والسياسية التي تبناها فيما بعد، يقول جان لوكيتر: "للمؤسسات الدينية والتعليمية الأخرى دورٌ في بناء القادة وإعطائهم الزخم اللازم من خلال تبني عقائد وأهداف معينة يكون لها الأثر في السياسة التي سوف يتبعونها مستقبلا" (30).
تميّز فكر السيد حسن الشيرازي بأنه وليد الحاجة، فهو يكتب من خلال معاناة تعيشها الأمة الإسلامية وليس للترف الفكري، فقد كتب الاقتصاد الإسلامي عند انتشار المد الشيوعي وترويجهم للشبهات ضد الإسلام والقول بأنه عاجز عن إدارة دفة الحياة، فكتب عن الاقتصاد الإسلامي ليبرهن لأولئك المغرورين بان الإسلام اقدر من الإيديولوجيات الأخرى على إدارة دفة الحياة، وكتب الشعائر الحسينية يوم بدأ البعض بترويج الدعايات المظللة ضد الشعائر الحسينية واتهامها بالتخلف والإسراف وانعدام الرؤية، فكان كتابه دفاعاً عن الشعائر الحسينية في حياة الأمة، ويأتي كتاب كلمة الإسلام في ظروف عصيبة مرت بها الأمة الإسلامية كانت غارقة في بحر التيارات الفكرية والسياسية تتقاذفها الأحزاب والحركات من كل حدبٍ وصوب، فانقسم المفكرون الى قسمين، قسم انزوى عن تلك التيارات وجلس جانباً يرصد ما يجري دون أن يحرك ساكناً تجاهها وكأنها الأمر الواقع، وبين من استخدم قواه الفكرية والمعرفية ناهلاً من الإسلام وشريعته السمحاء ما يدافع به عن عقيدته لمواجهة هذه التيارات وطردها من الساحة الإسلامية (31).
استولى الهاجس الإسلامي على تفكير السيد حسن الشيرازي بصورة عامة وهذه ميزة من ميزاته الرائعة، وكان يرى أن المسلمين قادرون على أن يكونوا قوة مركزية فاعلة وكان يملك إحصاءات قلما يملكها احد سواه عن الطاقات المميزة للمسلمين وعن أماكن انتشار المسلمين في العالم، وقام برحلات في كثير من بلدان العالم الإسلامي في إفريقيا وأوربا وفي أسيا، مكنه ذلك من تصور إمكانات المسلمين الكبيرة وعلى تصور نقاط الضعف التي تحول دون تفجير تلك الإمكانات، لذلك كان هو من العاملين على الوحدة الإسلامية، ومن العاملين على تنشيط التعاون بين المسلمين سواءً على مستوى المؤسسات الفكرية والمؤسسات الإجتماعية ومن المتطلعين إلى أن يساهم المسلمون كل في بلده أو في القطر الذي يقيم فيه في تنشيط الدعوة الإسلامية وضخ الوعي الإسلامي في أذهان أبناء الأمة الإسلامية (32).
ويعود له الفضل في تكريس نموذج العالم العامل المنفتح على روح العصر والمتفهم لمجمل التغيرات السياسية – الإجتماعية، التي أحدثتها هزات القرن العشرين، كما ضرب مثالاً رائعاً في قدرة رجل الدين على ارتياد أصعب المهام والمسؤوليات في أطار المفاهيم الحركية والنهضوية للمشروع الإسلامي المعاصر المولود من رحم النظرية الإسلامية، هذا المشروع الذي كان ولا يزال محاطاً بأسوار وأطواد من التحديات الإستعمارية، فضلاً عن التحديات الإيدولوجية، في مثل هذه الأجواء، شخص بنظرته الثاقبة والمتقدمة، ضرورة ردم الهوة بين الموروث العقائدي والمفاهيمي والفكري مع العصرنة، التحديث(33).
حاول صياغة المشروع الإسلامي بمقاصده ونظرياته واندفاعاته وان يأخذ هذا المشروع دوره الذي أختطف منه بفعل عوامل التقهقر في الحالة الإسلامية التي خلفتها الهجمة الشرسة للأستعمار على أغلب بقاع العالم الإسلامي، التي عانى منها لاحقاً المشروع الإسلامي، كما أعاقت اندفاعاته تسارع عناصر التنمية الثقافية والبشرية والإقتصادية في القرن العشرين(34).
تميز فكره بالأصالة والحداثة يوم تفرق الناس فريقين الأول ذاب في الحداثة حتى كاد أن يتجاوز الأصول ويرتمي في حضن المتغيرات، والثاني تمسك بالأصالة لدرجة الذوبان في الماضي متوقفاً عند التاريخ رافضاً السير إلى أمام معتبراً كل جديد بدعة وكل حداثة خروجاً على المألوف فهو إذن حرام لا يجوز الولوج فيه، أما هو فقد انطلق من الماضي ليصيب به المستقبل عبر الحاضر بنظرة ثاقبة ورؤية فاحصة تقبل بالحداثة ولا تتجاوز الأصالة قيد أنملة(35).
هذه بعض الروافد الفكرية للسيد حسن الشيرازي وبعض الصفات والمؤهلات التي امتلكها والتي أسهمت في بلورة مشروعه الفكري والسياسي الذي استطاع الباحث تحديدها أو التماسها من خلال المصادر، وغابت عنه أشياء أخرى تتصل بحياته لم تذكرها المصادر هذا إذا علمنا انه لم يكتب عن نفسه شيئاً إلا ما نقله عنه من عاصره أو شاهده، فتظل مثل هذه الأمور مجهولة لأنها من خصائص السيد الفكرية التي لم نستطع الحصول عليها أو قراءتها في مؤلفاته.
يتضح مما تقدم أن هنالك جملة عوامل أسهمت في بناء شخصيته وصقلها فأننا نلمس تأثير أساتذته واضحاً في سلوكه فقد اخذ عن أبيه التواضع واحترام الغير حتى لو كانوا أناساً بسطاء وهذه الصفة التي نقلت عن السيد حسن الشيرازي، صرح بها كل من عرفه أو عاشره ولو لمدة قليلة(36).
اخذ عن أستاذه السيد محمد الشيرازي شمولية الرؤية للإسلام وسعة الأفق والانفتاح على المتغيرات الدولية سواءً كانت سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية، وكذلك اخذ عنه النفس الطويل في مجال الكتابة والتأليف والتصنيف، وسمو الروح والهدوء والرصانة وغيرها من الصفات التي كان السيد محمد الشيرازي يتمتع بها.
أخذ عن أستاذه السيد محمد هادي الميلاني كثرة السفر واهتمامه بالمشاريع ذات المردود الإجتماعي ودعمها، وهذا التوجه الذي كان في تفكير السيد محمد هادي الميلاني قد أصبح منهجاً عند تلميذه السيد حسن الشيرازي، فنراه ينشر مشاريعه العلمية والإجتماعية والثقافية أينما حل، وهذه الصفة من أهم صفات العالم العامل في الحقل الحركي الإسلامي.
واخذ عن أستاذه الشيخ محمد رضا الأصفهاني جرأته العلمية ووقوفه بصلابة للدفاع عن رأيه عندما يراه صحيحاً وكذلك ورث منه ثقافة حوار الفلاسفة التي وظفها أيما توظيف في نشر آرائهِ الإصلاحية في مختلف أرجاء العالم الإسلامي.
تميز كذلك بسعة الأفق وعمق التدبر فرفض التجمد والتقوقع والوصولية والنفعية، والحزبية الضيقة والعنصرية المقيتة والطائفية القاتلة، وذكر ذلك في أشعاره:
لا الطائفية تستطيع تحكماً
فالطائفية جذوةٌ مسمومةٌ
والطائفيةُ قوةُ المستعمرينَ
والحزب حيدة الشباب وجلها
فينا ولا الحزبيةُ الهوجاءُ
يصلى بها الهدامُ والبناءُ
يثيرها العملاءُ والدخلاءُ
مستعمرٌ يحدو له الأيماءُ
بحث دائماً عما يسوغ له الانفتاح والتعاون والتواصل والانسجام مع الآخرين في التيار الواحد، وكان شمولي التفكير يمتاز في العمق والشجاعة في عرض الافكار والبحث والحوار، إذا آمن برأي لم يتردد في عرضه وإن كلفه ذلك الكثير من سمعته، وإذا اعتقد بفكرة بادر إلى تقديمها على بساط البحث غير متعصب ولا متحيز، وكان باحثاً عن كل جديد ومهم يمكن أن يحل مشكلة من مشاكل الأمة الإسلامية أو يجيب عن تساؤل في الساحة الإسلامية، فلم يكن منشغلاً بالأمور التافهة، وكان رافضاً للخوض في القضايا التي تعد من الترف الفكري وكان مدافعاً صلباً عن الإسلام كفكر وعقيدة ومنهج حياة، وقد عمل جاهداً على دفع الشبهات عن الإسلام سواءً الخارجية أم التي أتت من داخل المجتمع المسلم (37).
بذل السيد حسن الشيرازي الغالي والنفيس، وكان احد أولئك القلائل الذين افنوا عمرهم وضحوا بأنفسهم في سبيل إعلاء شان الأمة وإعلاء كلمة الله وترسيخ المعتقدات الإسلامية السامية من خلال النصوص القرآنية والأحكام والنظريات والأفكار الإسلامية، وكان لفهمه العميق للدين الإسلامي وللقرآن بشكلٍ خاص، واطلاعه على الموروث الفقهي الإسلامي الأثر البارز في بلورة شخصيته الفكرية، وكان يحرص دائماً أن تنزل هذه المفاهيم والنظريات إلى ساحة التطبيق وان لا تبقى مجرد أفكار في دفات الكتب لذلك نراه ينطلق من التراث الإسلامي ويحاول أن يجد الحلول من داخل هذا التراث لكل مشكلات المجتمع المسلم(38).
إن الفهم العميق للإسلام من خلال فهم القرآن الكريم والسنة المطهرة هما حجر الزاوية في تفكير السيد حسن الشيرازي، فكل تحركاته سواء كانت إجتماعية أو إقتصادية أو سياسية أو فكرية عامة كانت نابعة من الإسلام ومن فهمه للدين الكريم لذلك نراه يتأسى بالأنبياء والأئمة " عليهم السلام " ويتابع خطاهم في كل قضية من القضايا التي عاشها أو عالجها، يحاول إن يستدعي الإسلام ويعرف ما هو موقف الإسلام من هذه القضية قبل حلها أو معالجتها فهو بذلك من العلماء الذين وظفوا الشريعة في فهم الواقع الإسلامي وانطلقوا من خلالها لمعالجة مشكلات الأمة.
عمد السيد حسن الشيرازي إلى اعتماد ما يعرف بالتفسير الموضوعي، وهذا التفسير يعني أن المفسر يختار أي موضوع سواء أكان اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً ثم يستنطق القرآن وآياته ليعثر على الأدلة التي تدعم موضوعه، وكذلك عمد إلى أسلوب التدبر في القران أو التأمل في آياته، وبهذا الأسلوب بدأ المؤلف كتابه " خواطري عن القرآن " معتمداً على التأمل العميق في الآيات الكريمة بالتحليل اللغوي والفلسفي والاجتماعي للوصول إلى فهم قرآني، وإنه طالما أعتذر عن أن هذه المحاولة غير تفسيرية، بل ربما يخطئ وربما يصيب، وما فهمه من القرآن اعتمد على مسبقاته المعرفية من القرآن والسنة والعلوم الأخرى، ونبه على أن التفسير ليس من مختصات الإنسان العادي "لان القرآن لا يعرفه ألا من خوطب به" وفي نفس الوقت أشار إلى حرمة التفسير بالرأي ويذكر انه بدأ هذه الخواطر " وهو في السجن وأكملها بعد خروجه ويصر على أنها مذكرات وضعت على الورق لتتأمل في القران والتدبر فيه وهي ليست محاولة لتفسير القرآن بالمعنى الدقيق للتفسير " وهو بذلك فتح الباب أمام نمط جديد في تفسير القرآن الكريم. هذا التأمل العميق الواعي المستند إلى الأسس الفنية من لغة وفلسفة واجتماع وتاريخ وحديث وغيرها، بالإضافة إلى السنة النبوية الشريفة وأحاديث الأئمة " عليهم السلام" (39).
اضف تعليق